فضاءات جنين بورزق

جنين بورزق

فضاء القرآن الكريم والسنة النبوية

العضو الأكثر فعالية على مستوى الـبلدية
حجيرة ابراهيم ابن الشهيد
مسجــل منــــذ: 2010-10-19
مجموع النقط: 3082.97
إعلانات


ماذا نحن صانعون في عرفة؟

ماذا نحن صانعون في عرفة؟

سلطان بركاني

2023/06/26

تعيش الأمّة الإسلامية اليوم -الثلاثاء- ساعات يوم عرفة، وما أدراك ما يوم عرفة! ثاني أعظم أيام الدنيا بعد يوم الأضحى؛ يوم الخشوع والدموع والتواضع والفقر لله، يوم العتق الأكبر، ويوم الدّعاء المجاب.. اليوم الذي يبلغ فيه غيظ الشّيطان مداه وتبلغ حقارته أدنى دركاتها، لما يرى من رحمات الله التي تنزل على عباده وفضله الذي ينالهم. يقول النبيّ المشفّع -عليه الصّلاة والسّلام-: “ما رئي الشيطان يوما؛ هو فيه أصغر، ولا أدحر، ولا أحقر، ولا أغيظ منه يوم عرفة، وما ذاك إلا لما يرى من تنزل الرحمة وتجاوز الله –تعالى– عن الذنوب العظام؛ إلا ما كان من يوم بدر”.

يمتلئ الشّيطان غيظا وحزنا في هذا اليوم، لما يرى من كثرة من يعتق الله رقابهم ويغفر ذنوبهم.. في صحيح مسلم عن عائشة -رضي الله عنها- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء؟”.. وعن أنس -رضي الله عنه- أنه قال: وقف النبي -صلى الله عليه وسلم- بعرفات وقد كادت الشمس أن تؤوب، فقال -صلى الله عليه وسلم-: “يا بلال، أنصت لي الناس”، فقام بلال فقال: أنصتوا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأنصت الناس فقال: “معشر الناس، أتاني جبريل عليه السلام آنفًا فأقرأني من ربي السلام وقال: إن الله -عز وجل- غفر لأهل عرفات وأهل المشعر وضمن عنهم التبعات”، فقام عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فقال: يا رسول الله، لنا خاصة؟ قال: “هذا لكم ولمن أتى من بعدكم إلى يوم القيامة”، فقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: “كثر خير الله وطاب”.

ربّما يظنّ كثير من المسلمين أنّ فضل عرفة خاصّ بالحجّاج، وهذا ليس على إطلاقه، فكثير من فضائل هذا اليوم وخيراته وبركاته مبذولة لغير الحجّاج كذلك، يقول الحبيب المصطفى -عليه الصلاة والسلام- وهو يتحدّث عن صيام يوم عرفة: “يكفر السنة الماضية والسنة القابلة” (رواه مسلم).. الحجّاج لا يشرع لهم أن يصوموا يوم عرفة، لكنّ المسلمين من غير الحجّاج يشرع لهم ذلك، حتى لا يحرموا من الأجر الذي يناله الحجّاج.. وإذا كان الحجّاج ينتظرون الغروب لتعتق رقابهم، فإنّ غير الحجّاج ينتظرون الغروب ليفطروا بعد صيامهم وكلّهم أمل في رحمة ربّهم أن يغفر لهم ذنوب سنتين، وقد يرى من قلوبهم الشّوق إلى عرفة فيغفر لهم ذنوب العمر كلّها.

فضل عظيم ينبغي للعبد المؤمن إن أراد أن يظفر به أن يحفظ جوارحه عن المحرمات في يوم عرفة: فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: كان الفضل بن عباس رديف النبي -صلى الله عليه وسلم- في عرفة، فجعل الفتى يلاحظ النساء وينظر إليهن، وجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- يصرف وجهه من خلفه، وجعل الفتى يلاحظ إليهن، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: “ابن أخي، إنّ هذا يوم من ملك فيه سمعه وبصره ولسانه غفر له” (رواه أحمد).

العبد المؤمن الذي يتمنّى أن يكون يوم عرفة يوما تعتق فيه رقبته وتغفر ذنوبه، يلبس لباس الذلّ لمولاه في هذا اليوم، ويتصدّق ما أمكنه، ويحسن إلى الضعفاء ما وجد إلى ذلك سبيلا، ويعفو عمّن ظلموه أملا في أن يعفو مولاه عنه: كان صحابيّ النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- حكيم بن حزام -رضي الله عنه- يقف بعرفة ومعه مائة بدنة مقلدة، ومائة رقبة -أي من العبيد- فيذبح الإبل ويعتق الرقيق، فيضج الناس بالبكاء والدعاء، ويقولون: ربنا هذا عبدك قد أعتق عبيده، ونحن عبيدك فأعتقنا من النار.. أمّا العبد الصّالح أبو عبيدة الخواص -رحمه الله- فكان في يوم عرفة يأخذ بلحيته ويقول: “يا رب! قد كبرت فأعتقني”.. وهذا أعرابي يقف بعرفة فيقول: “ضجت إليك الأصوات، بضروب اللغات، يسألونك الحاجات؛ وحاجتي إليك أن تذكرني عند البِلَى إذا نسيني أهل الدنيا”.

ينبغي للعبد المؤمن في يوم عرفة أن يعترف لمولاه بتقصيره وتفريطه وغفلته وأن ينظر إلى نفسه وعمله نظر المحتقر: هذا مطرف بن عبد الله بن الشخير -رحمه الله- وهو من أجلّة التابعين، وقف بعرفة مع بكر المُزني -رحمه الله- فقال أحدهما: “اللهم لا ترُدَّ أهل الموقف من أجلي”، وقال الآخر: “ما أشرفه من موقف وأرجاه لأهله لولا أني فيه”.. مع اجتهادهم في طاعة الله وإكثارهم من الأعمال الصّالحة، يتواضعون لله، وينظر الواحد منهم إلى نفسه على أنّه أسوأ خلق الله حالا!

في يوم عرفة يعلّق المؤمن قلبه بعفو مولاه ومغفرته، لكنّ هذا ينبغي ألا ينسيه محاسبة نفسه في اليوم الذي أخذ الله فيه الميثاق والعهد على بني آدم في عالم الذرّ أن يكون هو ربّهم وإلههم ومولاهم، ومراجعة حاله مع هذا العهد وهو يسأل: هل الله سبحانه هو معبودي الأوحد أم إنّي قد صرت أعبد الدّنيا، أعبد الدينار والدرهم، أعبد هواي وشهوة نفسي؟! ومع المحاسبة، ينبغي للعبد المؤمن في يوم عرفة أن يغلّب الرّجاء والطّمع على الخوف، روي عن الفــضيل بن عياض -رحمه الله- أنه نظر إلى تسبيح الناس وبكائهم عشية عرفة، فقال: “أرأيتم لو أن هؤلاء صاروا إلى رجل فسألوه دانقا -يعني سدس درهم- أكان يردهم؟”، قالوا: لا والله، قال: “والله للمغفرة عند الله أهون من إجابة رجل بدانق”.

ومع التذلّل والخضوع والمسكنة والمحاسبة والرّجاء، ينبغي للعبد المؤمن ألا يغفل عن الدّعاء وعن بثّ حاجاته ورغباته وأمنياته في أمسية يوم عرفة، وقلبه موقن بالإجابة، وبين عينيه حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: “خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير” (الترمذي).

حال العبد وهو يدعو الله عشية عرفة ينبغي أن تكون كحاله في الليلة التي يرجو أن تكون ليلة القدر في رمضان، بل ينبغي أن يكون أكثر رجاءً، لأنّ ليلة القدر غير معلومة، بينما يوم عرفة معلوم وساعته مشهودة.. مهما شغل المسلم عشية عرفة، فينبغي ألا ينشغل قلبه ولسانه عن العطايا والهبات والرحمات التي تنزل في تلك الأمسية، والمحروم حقا من فقد قلبه في تلك السّاعات وحبس لسانه عن الدعاء.. ينبغي للعبد أن يكون عشية عرفة طمّاعا في فضل الله، لا يستكثر شيئا يتمنّاه ويرجوه، ففضل الله أوسع من كلّ مطلوب وعطاؤه أجزل من كلّ مرغوب، في الحديث القدسيّ: “يا عبادي! لو أنّ أولكم وآخركم وجنكم وإنسكم اجتمعوا في صعيد واحد فسألوني جميعا فأعطيت كل إنسان منهم مسألته لم ينقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا غمس في البحر”.


تقييم:

0

0
مشاركة:


التعليق على الموضوع


لم يسجل بعد أي تعليق على هذه المشاركة !...

...........................................

=== إضافة تعليق جديد ===
الإسم:

نص التعليق:

انقل محتوى صويرة التحقق في الخانة أسفله:
الصورة غير ظاهرة