فضاءات جنين بورزق

جنين بورزق

فضاء الثقافة والمواضيع العامة

العضو الأكثر فعالية على مستوى الـبلدية
حجيرة ابراهيم ابن الشهيد
مسجــل منــــذ: 2010-10-19
مجموع النقط: 3065.62
إعلانات


الثقافة الوطنية.. سلاحٌ ضد الاستعمار والعولمة..ل- عبد الحميد عثماني 2023/06/11

يذكر شيخ المؤرخين، أبو القاسم سعد الله، رحمه الله، ضمن دوافع اشتغاله على موسوعة “تاريخ الجزائر الثقافي”، التي أخذت عقودا من حياته البحثية، أن المؤرخين في عمومهم، قديما وحديثا، من أبناء الوطن والعرب والأجانب، لا تستوقفهم من تاريخ بلادنا إلا البطولات الحربية والمعارك التحررية، فنحن شعبٌ اشتهر عندهم بالشجاعة في ردّ العدوان وصد الغزاة على مرّ الحقب الزمنية.

 

لذلك خشي شيخ المؤرخين أن يُطمس إسهام الجزائر في مجرى الحضارة الإنسانية، وهي التي أنجبت، خاصة في مراحل ما بعد الفتح الإسلامي، علماء دين ولغة وشعراءَ وكتّابًا ومبدعين في كل الفنون، وقامت على أرضها جوامع وكتاتيب وزوايا صوفية كانت في زمنها مراكز إشعاع علمي، مثلما تعاقبت عليها دولٌ امتدّ تأثيرها إلى الضفة الأوروبية شمالا وساحل إفريقيا جنوبًا.

لا شكّ أنّ هذا الزخم الثقافي هو الذي جعل الاستعمار الفرنسي البغيض عند دخوله إلى الجزائر يجعل من تدمير جهاز المناعة الحضاري للأمة الجزائرية أولوية موازية مع معارك السيطرة على الأرض ونهب الخيرات، لأنه الضامن الأول لاستمراره الاستيطاني.

من هنا، عمل الاحتلال على اختراق البنى الاجتماعية من خلال محاربة الدين واللغة والتقاليد والعادات، والتعليم بالعربية وممارسة الشعائر الإسلامية، لينتهج مقابل ذلك سياسة التنصير وفرض الفرنسية، في مخطط متكامل لهدم كل خصوصيات المجتمع الجزائري وتحطيم هويته، لأجل تحقيق الإلحاق والإدماج نهائيا بالأمة الفرنسية، مع أنّ أنصار الظاهرة الاستعمارية وسرديات الفرنسيين التاريخية حاولت عبثا نفي وجود الجزائر أصلا قبل 1830، كأنهم احتلوا جزيرة في المحيط الهادي، بل ينكرون كل ما يربطها بمجالات الحضارة باستثناء الرومانية منها، لتبرير الاحتلال بصفته امتدادا لها.

لذا ينبغي التذكير دائما أنّ جرائم فرنسا في حق الثقافة بالجزائر لا تقل شناعة عن جرائمها ضد الإنسانية، بل إنها في كثير من الحالات كانت أخطر، لأنها استهدفت القضاء المعنوي على الإنسان الجزائري، ليصبح مجرد عبدٍ غير أجير لديها، لا قِبل له بالخروج عليها أو التفكير في الاستقلال عنها، حتى بلغ اليأس بفريق من الجزائريين مطلع القرن العشرين إلى المطالبة بالإدماج لتحصيل فقط الحقوق الإنسانية، على غرار المواطنين الفرنسيين أو على الأقل المعمِّرين الأوروبيين.

لكن الاستعمار، رغم كل ما بذله عبر 132 سنة، لم يفلح في قتل الكيان الثقافي للأمة الجزائرية، مع ما ألحقه من أضرار بالغة، لا نزال ندفع تبعاتها حتى الآن بصراع هوياتي مصطنع وألغام زرعها بعناية بين مكونات الهوية الوطنية.

إنّ الفضل في بقاء قلب الأمة الجزائرية نابضًا حتى في أحلك عقود الاستيطان الفرنسي، إنما يعود إلى إرادة الجزائريين في الحياة الحرّة، وتشبُّثهم بأوصال الهوية الوطنية، خاصة الإسلام واللغة والتراث الشعبي بكل صنوفه، إذ كان الدور حاسمًا للزوايا الجهادية والمساجد و”جمعية العلماء” لاحقا ومدارس الحركة الوطنية، لأنّ استقلالية الهوية هي التي منحت الجزائريين الشعورَ بالتميز الحضاري عن الفرنسيين ومن ثم تهيأوا للتحرر المادي من سطوة الاستعمار.

وعود على بدء، نقول إن الاهتمام اليوم بإبراز الرصيد الثقافي للجزائر، ماضيا وحاضرا، هو واجب تجاه الذاكرة الوطنية، وما بادرت به وزارة الثقافة مؤخرا، تحت رعاية الوزارة الأولى، بخصوص عقد الملتقى الدولي حول “المقاومة الثقافية في الجزائر خلال الثورة التحريرية”، يعدّ جهدا مباركًا في الاتجاه الصحيح، بعد عقود من استذكار معارك التحرير والأحداث المسلحة والعمل السياسي والدبلوماسي للثورة.

كما أنّ الوقوف على معالم الثقافة الجزائرية الأصيلة لإحيائها وتفعليها سيكون حصنًا منيعا للأجيال الصاعدة في مواجهة الاستعمار الحضاري الجديد، المتدثر بشعارات العولمة والحداثة والليبرالية والقيم الكونية، والانطلاق في مهمة الاستئناف النهضوي، وهو ما أدركه مبكرا صامويل هنتنغتون، حين استنفر قومه لحسم صراع المستقبل بين الأمم الكبرى، عقب سقوط المعسكر الشيوعي، محذرا من تقدّم التنين الكونفشيوسي واستفاقة المارد الإسلامي، لأنّ العقيدة الثقافية عنده هي الدافع الأول في صناعة الحضارة.


تقييم:

0

0
مشاركة:


التعليق على الموضوع


لم يسجل بعد أي تعليق على هذه المشاركة !...

...........................................

=== إضافة تعليق جديد ===
الإسم:

نص التعليق:

انقل محتوى صويرة التحقق في الخانة أسفله:
الصورة غير ظاهرة