فضاءات جنين بورزق

جنين بورزق

فضاء القرآن الكريم والسنة النبوية

العضو الأكثر فعالية على مستوى الـبلدية
حجيرة ابراهيم ابن الشهيد
مسجــل منــــذ: 2010-10-19
مجموع النقط: 3062.75
إعلانات


فرصة لا تقدّر بثمن

فرصة لا تقدّر بثمن

سلطان بركاني

2021/05/02

لحظةُ ارتفاع أذان المغرب يوم الأحد كانت فارقة بين محطّتين مختلفتين في رمضان؛ بين العشر الثانية والعشر الأواخر من الشّهر الفضيل.. مرّت اللحظة الفارقة وتوالت السّاعات سريعا ومضت الليلة الأولى من ليالي العشر، وها نحن نعيش ساعات اليوم الأوّل من الأيام العشرة الأخيرة من شهر الإحسان.. هي سرعة عجيبة تقرع القلوب وتهزّ الأرواح بحقيقةِ أنّ رمضان فرصة عزيزة وغالية لا يشعر المرء كيف تنسحب وربّما تنفلت من بين يديه وهو الذي طالما تمنّى أن تكون حاسمة في مسيرة حياته.

لا شكّ في أنّنا جميعا نشعر بالتّقصير في حقّ رمضان، وبالتّفريط في جنب ربّنا الكريم.. لسان حال كلّ واحد منّا في هذه الأيام الأخيرة من شهر الفرقان: ((يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ)).. ما منّا من أحد إلا وهو يشعر بأنّ السّاعات التي ضاعت منه سُدى أكثرُ من السّاعات التي قدّم فيها اعمالا صالحة تليق بمقام رمضان.

هذا الشّعور بالتقصير الذي يجده العبد المؤمن في مثل هذه الأيام هو دليل خيرٍ وعلامة حياة في القلب، وإلا فإنّ العبد الذي تستوي عنده الأحوال في رمضان؛ تستوي عنده السّاعة التي يقوم فيها لله مع السّاعة التي يجلسها في المقهى، وتستوي عنده السّاعة التي يثني فيها ركبتيه يتلو كلام الله مع السّاعة التي يجلسها أمام شاشة التلفاز يتابع برنامجا من البرامج السّاخرة؛ من تستوي عنده هذه الأحوال فربّما دلّ ذلك على قسوة قلبه، كيف بمن يرخي العنان لنفسه الجامحة لتفرّ من القيام وتلاوة القرآن إلى جلسات المقاهي وبرامج الإثارة والضّحك؟! وكيف بمن يطاوع نفسه حين تفرّ من مكابدة الجوع والعطش وحثّ الخطى إلى بيوت الله، إلى النّوم ساعات طويلة في نهار رمضان؟! ((وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا)).

الشّعور بالتقصير في حقّ رمضان وفي جنب الله، يدلّ على حياة القلب وعلى خيرٍ في نفس صاحبه.. لكنّه وحده لا يكفي، بل لا بدّ معه من اتّخاذ قرار حاسم لجبر التقصير وتدارك التفريط فيما بقي من أيام الشّهر الفضيل وأيام العمر.. ومن رحمة الله -جلّ وعلا- أنّه جعل العشر الأواخر من رمضان هي أفضل أيام الشّهر ولياليها هي أفضل ليالي العام، وأودع فيها من المنح والعطايا والخيرات، ما هو كاف لتعويض ما فات، ولتحويل حياة العبد من حال إلى حال، وما هو كفيل بإدخال العبد المؤمن جنّة الدّنيا في انتظار جنّة الآخرة بإذن الله.

العشر الأواخر هي مسك رمضان وزبدته، وهي المرحلة الأخيرة في السّباق الذي أُعلن عنه عند أذان المغرب من أوّل ليلة من الشّهر الفضيل.. والمتسابق اللّبيب الحريص على الفوز يبذل كلّ طاقته في آخر مرحلة ليفوز بالسّباق، يقول الإمام ابن الجوزي رحمه الله: “إنّ الخيل إذا شارفت نهاية المضمار بذلت قصارى جهدها لتفوز بالسباق؛ فلا تكن الخيل أفطن منك، فإنّما الأعمال بالخواتيم”.

نعم أخي المؤمن.. مهما أحسست بالتّقصير فيما مضى من أيام رمضان، فإياك أن تسوّغ لك نفسك ويسوّل لك قرينك أنّك قد خسرت رمضان وانتهى الأمر.. إنك إذا لم تحسن الاستقبال فلعلك تحسن الوداع، فيرى الله منك الصّدق فيكتبُك من المحسنين في رمضان ومن عتقائه في شهر الإحسان، يقول ابن تيمية رحمه الله: “العبرة بكمال النهايات لا بنقص البدايات”، وقبله يقول الإمام الحسن البصريّ رحمه الله تعالى: “أحسن في ما بقى يغفر لك ما مضى”.

نعم أخي الحبيب.. العشر الأواخر التي حلّت مع أذان المغرب يوم أمس الأحد، ليست ككلّ الأيام ولياليها ليست ككلّ اللّيالي.. هي فرصة لا تقدّر بالذّهب ولا بأثمن معادن الدّنيا، بل فرصة لا تقدّر بالدّنيا كلّها.. إنّها فرصة العمر لتتحوّل حياة العبد المؤمن من الضّيق إلى الرّاحة ومن الهموم والغموم إلى طمأنينة القلب وانشراح الصّدر وسعادة الرّوح.. بل يمكن أن تتحوّل حياة العبد من الدّيون والفقر والحاجة إلى اليسر والبركة والكفاية، بدمعات تنزل على الخدّين في ليلة من هذه الليالي المباركة، أو بدعوات صادقة تخرج من القلب ويلهج بها اللّسان في سَحَر ليلة من هذه الليالي الغالية.. إنّها فرصة العمر لكلّ عبد مسلم ليحقّق أمنياته التي يرجوها في هذه الدّنيا وأمنياته التي يتلهّف لها في الآخرة.

فرصة كان الصّالحون من عباد الله لا يقبلون أبدا أن تضيع من بين أيديهم.. كانوا يخصصون لرمضان دعوات، يلحّون بها طيلة شهر رمضان؛ في السجدات، وأدبار الصلوات، وقبل الإفطار، وعند الإفطار، وفي الأسحار، ويقولون: “فوالله الذي لا إله إلا هو، لا يأتي رمضان المقبل إلا وقد أعطانا الله جميع حاجاتنا”.

فرصة لا يفوّتها إلا من حرمه قلبه القاسي وكبّلته نفسه الغافلة؛ فرصة العمر ليحقّق الموفّق أمنيته في رزق حلال واسع يكفيه ويغنيه، في زوجة صالحة بشوشة شكورة يسعد بها في الدّنيا والآخرة، في ذرية صالحة بارّة يأنس بها في الأولى ويجتمع بها في الآخرة.. في بيت واسع هنيء يأوي إليه.. هذا وغيره، والأهمّ منه أن يحقّق أمنيته في أن يعينه الله على نفسه، ويرزقه قلبا خاشعا وعينا دامعة ونفسا لوّامة طيّبة، ويعينه على أن يضع قدمه على طريق السّعادة الحقيقية؛ طريق الصّلاح والاستقامة؛ طريق المحافظة على الصّلاة والأنس بكلام الله والتوفيق لبرّ الوالدين، والحرص على الحلال والبعد عن الحرام، طريق غضّ البصر وغضّ الجوارح عمّا حرّم الله؛ طريق توصل إلى رضوان الله، وتمرّ بحوض الحبيب المصطفى صلّى الله عليه وسلّم، وتنتهي في الفردوس برؤية وجه الله الواحد الأحد.

أخي المؤمن.. النّوم يمكن أن تعوَّض ساعاته بعد رمضان، والجلوس مع الأحباب والأصحاب يمكن أن يعوّض بعد رمضان، والاطّلاع على مواقع التّواصل الاجتماعيّ لن يفوتك، لكنّ العشر الأواخر قد تفوتك، قد تذهب وتعود في العام القادم لتجدك تحت التراب تتمنّى أن ترجع إلى الدّنيا لتعيش ساعات ليلة واحدة من ليالي العشر المباركة.

أمامك عشر حاسمة، وفيها ليلة خير من ألف شهر؛ فاقتصد في راحتك، وقلّل من نومك، واتعب في طاعة الله، وتزوّد لآخرتك.. صلّ الصّلوات الخمس في بيت الله، وصلّ التراويح مع الإمام إلى آخر تسليمة، وعد إلى بيتك وانشغل بتلاوة القرآن والاستغفار، وارتح قليلا وقم في ثلث الليل الأخير لتصلّي وتتهجّد وتستغفر وتدعو وتبكي.. لا تسمح للفايسبوك والأسواق والمسلسلات وبرامج الضّحك والمقاهي أن تسرق منك ليالي العشر الأواخر.. ليلة القدر ستكون هي إحدى هذه الليالي القادمة؛ فلا تسمح لنفسك بأن تشغلك عنها بشواغل الدّنيا.. ليلة يمكن أن تعيش فيها عمرا كاملا من 83 سنة.. يمكن أن يُكتب لك فيها رضوان الله، ويمكن أن تُحقِّق بدعوات ترفعها في ساعة من ساعاتها كلّ ما ترجوه وتتمنّاه من خيري الدّنيا والآخرة.. أنت مقبل على ليلة حاسمة تفتّح لك فيها أبواب السّماء وتؤمّن فيها الملائكة على دعواتك ويسمعها السّميع العليم سبحانه.. فاحرص وبادر وتحرّ وثابر.


تقييم:

0

0
مشاركة:


التعليق على الموضوع


لم يسجل بعد أي تعليق على هذه المشاركة !...

...........................................

=== إضافة تعليق جديد ===
الإسم:

نص التعليق:

انقل محتوى صويرة التحقق في الخانة أسفله:
الصورة غير ظاهرة