فضاءات جنين بورزق

جنين بورزق

فضاء أعلام ورجالات وعوائل

العضو الأكثر فعالية على مستوى الـبلدية
حجيرة ابراهيم ابن الشهيد
مسجــل منــــذ: 2010-10-19
مجموع النقط: 3065.62
إعلانات


الفقير الأشقر الذي تحوّل إلى زعيم للعالم الثالث هذا ما لا يعرفه الجزائريون عن هواري بومدين

الفقير الأشقر الذي تحوّل إلى زعيم للعالم الثالث

هذا ما لا يعرفه الجزائريون عن هواري بومدين

ناصر / عـصـام بـن منـيـة / الشروق
2014/12/24(آخر تحديث: 2014/12/24 على 21:57)
بومدين رفقة الزعيم اليوغسلافي جوزف تيتو
بومدين رفقة الزعيم اليوغسلافي جوزف تيتو
صورة: (ح. م)

كان يدسّ الآيات القرآنية وسط الكتب المدرسية حتى يحفظها دون علم معلمه

لو قدّر للرئيس الراحل هواري بومدين أن يعيش بيننا، إلى يومنا هذا، لبلغ من العمر 82 سنة، لأجل ذلك لم يكن الأمر هينا، ونحن نبحث في هذه السنوات الضاربة في ما قبل الثورة وأثناءها وبعدها بحثا عن ملامح الوجه الآخر لرجل عاش لغزا ومات لغزا، وعندما توفي لم يكن عمره قد زاد عن السادسة والأربعين، دون أن يترك ابنا واحدا، وترك بالمقابل الكثير من علامات الاستفهام.

والمدهش في رحلة البحث عن سيرة بومدين في قلب المنطقة التي ولد فيها ?المة، أو المدينةالتي درس فيها قسنطينة، أن أكثر الناس زمالة له وحتى أقربهم إليه من أهله وأصدقائه،أقسموا بأنهم يجهلون الكثير من خصوصيات هذا الرجل، الذي رحل دون أن يترك وراءه مالاولا أملاكا ولا حتى أولادا، بل ترك مواقف وأقوالا لا زالت تصنع الحدث في كل مناسبة تمربها البلاد أو حتى بعض البلدان الأخرى، ولعلٌ ما أدهشنا خلال محاولتنا اقتحام القلعةالحصينة للبحث في خصوصيات الرئيس الراحل هواري بومدين، أن أهله وأفراد عائلتهلازالوا يؤمنون بأن التطرق لخصوصيات الزعيم من الطابوهات التي لا يجب أن تكسر مدىالحياة، فالرجل لم يكن ككل الرجال، بل هو حالة خاصة لا تتكرر .. نعم هكذا يؤمنون.

تعود الذكرى 36، وتعود معها نفس الأسئلة من هو بومدين؟ كيف وصل للحكم وهو دونالثالثة والثلاثين، وكيف رحل وهو دون السادسة والأربعين؟ ولا جواب سوى عن كيف ولد،فمسقط رأسه هو دوار بني عدٌي بمشتة العرعرة ببلدية مجاز عمار حاليا، بتاريخ 23 أوت1932، من والده الحاج ابراهيم بوخروبة ووالدته تونس بوهزيلة، ومسجل ضمن سجلاتالحالة المدنية ببلدية عين احساينية التي أصبحت حاليا تحمل اسمه الثوري هواري بومدين،وهي البلدة التي لم يبق فيها أي فرد من عائلة بوخروبة.

بومدين كان أحمر الشعر أزرق العينين

كان صعبا على هواري بومدين، أن يقود القارة السمراء، فعندما رأس الاتحاد الإفريقي ثاررئيس الزائير في ذلك الوقت، وتساءل كيف لرجل أشقر، بعينين زرقاوين يقود القارةالسمراء، التي يقطنها أصحاب البشرة السوداء، ولكن بومدين ردّ عليه بأن دمه أسمر،وصبر إلى أن أصبح رمزا إفريقيا وهو في ربيع العمر.

الحاج عمي علي بوهزيلة ابن خال الزعيم الراحل ورفيق طفولته، والذي وجدناه في حالةصحية صعبة، بعد تقدمه في العمر، لم يبخل علينا بشهادته رغم المرض، حاولنا إرجاعهبسنوات عمره الطويلة إلى طفولته، ليتذكر بعض المشاهد عن طفولته وطفولة ابن عمتهمحمد بوخروبة، فأسرد بالقول: بومدين كان متميزا بسلوكه وتصرفاته من بين كل أفرادالعائلة، حيث كان انطوائيا، متشددا وجادا في معاملاته، حتى في اللعب، لا يحب السخريةوالاستهزاء، كان منذ الصغر حالما، ناقما على الاستعمار الفرنسي، وأبناء الكولون، كان فيشخصيته شيء لم نكن نفهمه في ذلك الوقت ـ حسبه ـ، قبل أن يضيف عمي علي بوهزيلة،بأنه ومع مرور السنين تبيّن أن محمد بوخروبة كان متميزا في كل شيء وأن قوة شخصيتهصقلتها الظروف الاجتماعية الصعبة التي ترعرع فيها، كونه ينحدر من عائلة كثيرة العددوبسيطة ماديا، يعتمد فيها والده الحاج ابراهيم على الفلاحة في معيشته، وتعبر بصدق عنمدى تعلقه بالجزائر.

أما الحاج مصطفى سريدي الذي رحل عنٌا منذ فترة قصيرة، فقد خصّ الشروق اليومي فيرحلة البحث للغوص في بعض خصوصيات الراحل هواري بومدين، رفيق دربه في الدراسة،وذكر لنا أنه تعرف على محمد بوخروبة في مدرسة ألومبير والتي أصبحت حاليا تسمىبإكمالية محمد عبده بقلب مدينة ?المة، وذكر المرحوم مصطفى سريدي، أن الطفل محمدبوخروبة، عندما بلغ سن السادسة من عمره، سنة 1938 حلٌ بمدرسة آلمبير بمدينة ?المة،قادما إليها من مشتة العرعرة حيث كان قد حفظ جزءا من القرآن، ليكمل دراسته النظامية فيذلك الوقت، وكانت مدرسة آلمبير مقسمٌة إلى قسمين، قسم خاص بأبناء المعمرين والكولونوأبناء الأغنياء والأعيان، وقسم آخر مخصص للآهالي من عامة الناس، ومن الطبيعي أنيكون محمد في القسم الثاني.

وعلى الرغم من ذلك كان يدرسٌه المعلم الفرنسي المسمى سيغالا، الذي تم استدعاؤه فيمنتصف العام الدراسي لأداء واجب الخدمة الوطنية، فاستخلفه وقتها معلم فرنسي آخر يدعىلوروا، وهو المعلم الذي لاحظ أن محمد بوخروبة، كان سابقا لجيله، إذ كان سريع الحفظوالفهم، وأنه يجتاز كل الامتحانات بسهولة مطلقة، كما أنه كان يبدو أنيقا، رغم حضوره إلىالمدرسة حافي القدمين أو مرتديا نعلا باليا مع قشابية الصوف، التي نسجتها له والدته تونسبوهزيلة في الدشرة بمشتة العرعرة، ولم تغادره خلال مرحلته الدراسية، ولأن محمدبوخروبة كان أطول أترابه في الصف الابتدائي، فقد زادت قشابية الصوف من أناقته، وكانتجد لائقة على هندامه، وزاد لونها البني في جمال الطفل الأشقر صاحب العينين الزرقاوين،والتي كان ينظر بهما رغم صغر سنٌه في ذلك الوقت بنظرات جد حادة، كنا نظن في البداية أنهاجدّية مبالغ فيها.

كان يصرّ على حضور ملتقيات الفكر الإسلامي

مهما قيل عن ميولات بومدين نحو المعسكر الشرقي بما في ذلك من تناقضات فكرية وحتىعقائدية، فإن التاريخ سيشهد على أن الراحل وفّر جوا فكريا إسلاميا راقيا لم تعرفه الجزائرأبدا، وهو ملتقيات الفكر الإسلامي التي سلّم مشعلها لمفكرين كبار في الجزائر مثل أحمدطالب الابراهيمي ومالك بن نبي ونايت بلقاسم وأحمد حماني، وكان بومدين يصرّ على أنيحضر افتتاح كل ملتقى أو يكتب بيده رسالة للمحاضرين، ودعا إلى الملتقى كبار العلماء مثلالشيخ المرحوم سعيد البوطي والمرحوم محمد الغزالي والشيخ يوسف القرضاوي وحتىموسى الصدر الشيعي الذي اختفى في رحلة لغز من ليبيا إلى إيطاليا، وخلال أيام الملتقى كانيقيم ملتقيات موازية وخاصة، يلتقي فيها مع كل عالم ويبقى رفقته لعدة ساعات، ناهيك علىأنه صاحب فكرة إنشاء الجامعة الإسلامية الأمير عبد القادر بقسنطينة.

محمد بوخروبة لم تمنعه الدراسة في مدرسة آلمبير الفرنسية، من الاستمرار في حفظالقرآن، حتى ختمه، وكان في العطلة المدرسية، يرجع إلى دوار بني عدٌي ليعلم أطفال الدشرةحفظ القرآن، كما حفظه هو بتحايله على معلمٌه الفرنسي، حيث كان بحسب المرحوم مصطفىسريدي يضع دفترا كان قد دوٌن عليه آيات قرآنية وسط كراس اللغة الفرنسية، وعندما ينشغلالمعلم في تحضير الدروس أو تصحيح الكراريس، يقوم محمد بقراءة تلك الآيات سرا، دونأن ينكشف أمره من أحد سوى زميله سليمان بن عبدة الذي كان يجالسه في نفس الطاولة.هذا التصرف أكد بعد السنوات الطويلة بأن محمد بوخروبة الفتى، اعتاد على عدم تضييعشيء من وقته، لأنه كان يعلم قيمة ذلك الوقت، ومعاناته بعيدا عن عائلته التي بقيت مقيمةفي دوار بني عدٌي بينما استقر هو عند إحدى العائلات بمنطقة باب السوق بمدينة ?المة،مقابل أن يدفع لها والده الحاج ابراهيم شيئا من المؤونة والقمح.

وقد استقر محمد بوخروبة حسب ابن خاله علي بوهزيلة في بادئ الأمر بمنطقة باب السوقثم عند عائلة أخرى بمنطقة باب سكيكدة وقضى آخر سنة من دراسته في مدرسة آلمبير عندعائلة بحي بومرشي عرب، ويتذكر كبار السنٌ بهذا الحي العريق بوسط مدينة ?المة، كيف كان محمد يحفظ دروسه بمدخل الحي، أمام المارة، ولم تلهه أبدا ألعاب الطفولة حسب عميعلي بوهزيلة عن دراسته، التي تفوّق فيها، كتفوقه في حفظ القرآن الذي ختمه عند الثالثةعشر من عمره وتحديدا سنة 1947 .

المرحوم الشيخ مصطفى سريدي ذكر لنا في شهادته، أن الفتى محمد بوخروبة، كان سابقالجيله، يتميز بين أقرانه بقوة الشخصية، مواظبا على دروسه وأداء كل واجباته، حتى لا يمنحأي فرصة للمعلمين الفرنسيين لإهانته بأي كلمة قد تجرح مشاعره وتمس بكرامته، أوالاعتداء عليه بالضرب، ويتذكر أترابه وزملاؤه في القسم التأهيلي الثالث عندما لم يتمكنمحمد من مراجعة أحد الدروس، وعندما شرع المعلم الفرنسي في توجيه الأسئلة للتلاميذ،حفظ منهم الطفل الفطن، وبذكاء خارق شرع في رفع أصبع يده للمشاركة في الإجابةالصحيحة، وهو ما جلب انتباه معلميه الفرنسيين، خاصة وأنه كان حسب الشيخ مصطفىيتحصل دائما على النقاط الجيدة في امتحانات آخر السنة، وأنه لم يسقط ولا مرٌة في مرحلتهالدراسية.

محمد بوخروبة الذي أصبح فيما بعدا مجاهدا ثوريا ورئيسا للجمهورية الجزائرية، كان فيصغره يتميز بالأنفة والكرامة، ولم يضع يوما قدميه في المطعم المدرسي، المخصص للتلاميذالمعوزين، وأولئك الذين يقطنون خارج مدينة ?المة كحال محمد الذي كانت تتوفر فيه كلالشروط للاستفادة من مختلف المزايا التي يوفرها الفرنسيون للتلاميذ، إلاٌ أنه كان يرفضذلك رفضا قاطعا، وحدث مرٌة بأن قام مدير مدرسة آلمبير المدعو فاني بتسجيل خمسة تلاميذلتمكينهم من أحذية أو نعال، ومن بين المسجلين كان محمد بوخروبة، وبعد أسبوع جلبالمدير مجموعة من النعال لتوزيعها على التلاميذ المسجلين، لكن محمد بوخروبة رفضاستلامها، وهو ما أثار تساؤل مدير المدرسة آنذاك وعبر عنها بالقول إنه جلب تلك الحصةمن النعال حتى لا يمشي التلاميذ النجباء على الأقل حفاة، كما كان الشأن لمحمد.

أصيب في رجله خلال مظاهرات الثامن ماي

عندما سألنا ابن خال الرئيس الراحل محمد بوخروبة، عمي علي بوهزيلة، عن حقيقة الروايةالتي تتحدث عن إصابة ابن عمته برصاصة طائشة في أحداث الثامن ماي 45، لم يقدم لناإجابة واضحة، وقال إنه لم يتذكر تلك الحادثة، التي تداولها عدد من الكتاب والمؤرخين الذينخطٌوا لتوثيق حياة هواري بومدين، وذكر عمي علي أنه يتذكر عديد المواقف الشجاعة لابنعمته الذي قال إنه كان يكره الفرنسيين وكل ما هو فرنسي، بدليل أنه عندما سافر إلىالقاهرة رفقة محمد الصالح شيروف للالتحاق بالأزهر، عاد بعد سنوات مناضلا وثوريا فيوجه فرنسا، وتحدثت عديد الروايات أن محمد بوخروبة وخلال تواجده في مدرسة آلمبيرب?المة سنة 1945، وقعت أحداث الثامن ماي وكان قد أنشد مثل باقي أترابه وسط جموعالمواطنين الذين خرجوا في مسيرة ذلك اليوم المشؤوم مرددا يحيا مصالي، وغيرها منالعبارات التي جعلت عساكر فرنسا يطلقون النار في كل الاتجاهات، ليفرٌ بعدها الصبي محمدبوخروبة وسط أترابه باتجاه أحد الأحياء القريبة ليقفز من أعلى سور المدرسة معتمدا علىالأعمدة الكهربائية الملاصقة للجدار، فسقط على علب السردين الصدئة والتي كانت وقتهاتغطيها أوراق الشجر الشائكة، ما تسبب في إصابته بجروح بليغة على مستوى الساق،وأجبره على العودة بعد أيام قليلة من تلك الأحداث مرتديا قشابيته الصوفية بنية اللون لإخفاءتلك الجروح، على الرغم من ارتفاع درجات الحرارة في شهر ماي.

هذا ما روته شهادات بعض زملائه في الدراسة، لكن بعض الشهادات الأخرى ذهبت على حدالتأكيد أن محمد بوخروبة الذي شارك في مسيرة الثامن تعرض لإصابة على مستوى الساقمن رصاصة طائشة، وتلقى على إثرها العلاج في المستشفى، وهي الرواية التي لم نجد لهاأي تأكيد حتى لدى المقربين منه.

محمد بوخروبة كان رجوليا في تعاملاته منذ نعومة أظافره، كان يتميز بروح القيادة، أصبحمعلما للقرآن الذي علمٌه لأبناء دشرته ولم يتجاوز من العمر الرابعة عشر، كان صبورا ولميسمعه أحد من زملائه في الدراسة يشتكي بردا أو حرا أو جوعا، والأهم من كل هذا ابتعادهعن والديه للدراسة في مدينة ?المة في سن مبكرة لينتقل بعدها إلى قسنطينة التي له فيهاحكايات أخرى مع أصدقائه والتي انطلق منها في رحلته الطويلة والشاقة إلى القاهرة التيسافر إليها مشيا على الأقدام برفقة محمد الصالح شيروف.

وأكد رفيقا الدرب علي بوهزيلة ومصطفى سيريدي أن أخلاق هواري بومدين كانت تدفعهدوما للاعتراف بفضل الغير عليه، وهو ما جسده في سياسته وعلاقاته مع الدول، كما جسّدذلك في زيارته إلى قسنطينة حيث طلب الالتقاء بمعلمه الشيخ الطيب، الذي احتضن بومدينخلال تواجده بمدينة الجسر العتيق وقبل السفر إلى القاهرة، بل أنه طالب حتى بتكريمه،وعندما زار الشيخ الطيب الجزائر العاصمة سنة 1976 وهواري بومدين رئيسا للجمهورية،وضع هذا الأخير تحت تصرفه سيارة خاصة من باب كرم التلميذ لأستاذه.

وللأسف فإن ثقل السنين على عديد الشخصيات الذين لم تسمح لنا ظروفهم الصحية بجمعشهاداتهم وجعلتنا نكتفي بهذا القدر مما سجلناه عن طفولة هذا الطفل الذي كان يدرس حافيالقدمين وينظر إلى ماسحي الأحذية بعين مشفقة، قبل أن يثور على واقعه المر ويصبح رئيساللجزائر وهو في عز الشباب ثائرا على الفقر والتخلف ومهنة مسح الأحذية التي رسخت فيذاكرة طفل لم يكن يمتلك حذاء يذهب به لطلب العلم.

* تقرؤون في الجزء الثاني عن ذكريات بومدين في القاهرة وعن رحلة الجنون مشيا علىالأقدام من جامع الكتانية بقسنطينة إلى الأزهر الشريف، وانتمائه لجماعة الإخوانالمسلمين

//////////////////////////////////

الوجه الآخر للرئيس الراحل / الجزء الثاني
بومدين سافر للدراسة في الأزهر دون علم والديه

ناصر / عصام بن منية
2014/12/26(آخر تحديث: 2014/12/26 على 18:44)
[الرئيس الراحل هواري بومدين]
الرئيس الراحل هواري بومدين
صورة: (الأرشيف)

قطع 4500 كلم لمدة 100 يوم مشيا على الأقدام
احترف التنجيم قبل الرئاسة و"الجاحظ" أنقذ بومدين من الذئاب

لم تكن قسنطينة المحطة الثانية في دراسة الطفل الصغير، محمد بوخروبة، لتكفيه لينهي شغفه بنهل العلم، فقد كانت أحلامه أكبر من ذلك، كان الطفل محمد بوخروبة مستعدا للمخاطرة بحياته من أجل تحقيق حلم العمر، وهو الدراسة في الأزهر الشريف، بالنسبة إليه لم تكن كل الطرق تؤدي إلى روما، وإنما تؤدي إلى القاهرة، حيث شعّ بعض الأمل، بعد الحراك السياسي والنهضة العلمية التي عرفتها مصر، وكان لابدّ لبومدين أن لا يكون جزءا منها، بل محرّكا لها، ومن دون أي تردد قرر القيام بأول وأغرب مغامرة في حياته، وهي أن يقطع 4500 كلم مشيا على الأقدام، في مدة لم تقل عن مئة يوم، فوجد صديق طفولته، الأستاذ محمد الصالح شيروف، الذي مازال على قيد الحياة، ويبلغ من العمر 79 سنة، ويقطن حاليا بحي باب القنطرة بعاصمة الشرق الجزائري.

لم يتناول اللحم في مرحلتي الطفولة والشباب

يصغر محمد الصالح شيروف، الرئيس الراحل بثلاث سنوات، فهو من مواليد 1935 بمدينة وادي زناتي بولاية ?المة، ولكنهما في نفس فصيلة عشاق العلم، فقد جمعتهما نفس الولاية، وأيضا كانا معا ابني فلاحين، ومن الدراسة في زاوية بوحجر بولاية أم البواقي، ثم الزاوية الحملاوية بولاية ميلة، توجّه محمد الصالح إلى مدينة ?المة، وفي إحدى مقاهيها شد نظره تواجد طفل طويل القامة كان يحضن محفظة، ولم يكن هذا الطفل سوى محمد بوخروبة، تجاذب الصغيران أطراف الحديث، كان محمد بوخروبة يدرس في السنة الثالثة ابتدائي في مدرسة فرنسية، حتى لهجته التي يتحدث بها كانت خليطا بين العربية والفرنسية، أصبح يسمع عن العائدين من قسنطينة وهم يحملون حقائب علم باديسية، ولم يعد من همّ له سوى السفر إلى قسنطينة للنهل من العلم، ولا يهمّ الفقر الذي كان يمزق عائلته، واشترك معه الصغير محمد الصالح شيروف في نفس الانشغال، وبدأ الصغيران يسألان عن كيفية الانتساب إلى إحدى المدرستين، إما الكتانية أو مدرسة ابن باديس، وهما مدرستان عربيتان في قسنطينة، يدرس فيهما المئات من أبناء الشرق الجزائري، وهنا بدأت المغامرة، فمنطقة ?المة كانت موصدة الأبواب سياسيا، وكانت حركة انتصار الحريات الديموقراطية وجمعية العلماء المسلمين، قد بلغتا كل المناطق .

وكان لابد للطفلين الصغيرين من متنفس سياسي وعلمي، ولم يجدا أحسن من قسنطينة، فأسرعا للانتساب لمدرسة الكتانية، وكان غالبية تلامذتها ضمن حركة انتصار الحريات، وأشرف عليهما حينها المرحوم علي كافي، الرئيس السابق للمجلس الأعلى للدولة، والصديق الحميم قبل ذلك للتلميذ هواري بومدين، وبقيت في مخيّلة هواري بومدين أن تكون قسنطينة محطة للسفر إلى بلاد أخرى.

انتسب هواري بومدين للدراسة في قسنطينة في الموسم الدراسي 1948 ـ 1949 فأجريت له مسابقة، وسجل في السنة الثانية متوسط كان عمره قد بلغ 15 سنة، وعمر صديقه محمد الصالح 12 سنة، طرح المشرفون على المدرسة على هواري بومدين أسئلة في اللغة العربية، وعلوم الدين، فكان جوابه صحيحا ومدققا، فنال شرف الانتساب لمدرسة الكتانية التي تخرج منها من جيله الجنرال الطيب دراجي، والمرحومين هجريس ومحمد الصالح يحياوي، وكلهم عملوا مع بومدين في سنوات حكمه، فاكترى بومدين بيتا في دار بن جلول في المدينة القديمة، وبدأ رحلة العلم والسياسة.

من غرائب الصدف أنه عندما توفي الراحل هواري بومدين في أواخر 1978 كان كل أساتذته مازالوا على قيد الحياة، ومنهم بالخصوص الذين تتلمذ على أيديهم في مدرسة الكتانية بقسنطينة، مثل الشيخ بولحلايس، والمجاهد الطيب بن لحنش، والشيخ عيسى، والشيخ لفقون الذي درّسه في مادة التوحيد، والأستاذ بولحروف في العلوم الطبيعية، وهم الذين ساعدوه علميا في الحصول على شهادة الأهلية، بإشراف لجنة من جامع الزيتونة، لأن معهدي الكتانية وابن باديس كانا تحت إشراف الزيتونة.

كانت أسابيع الدراسة تمرّ، وتشبث بومدين بالتضحية بكل شيء من أجل دراسته يتقوى، إلى درجة أنه لم يكن يزور والديه سوى في العطلة الصيفية، بالرغم من أن المسافة ما بين بيته في عين احساينية بولاية ?المة وقسنطينة لا تزيد عن المئة كيلومتر، ولم يكن يرسل لأهله حتى الرسائل، كان بذلك يريد تعويد نفسه على أن يعيش بعيدا عن أهله بآلاف الكيلومترات، ولم تكن عائلة بومدين قادرة على أن تمنحه رغيفا وحذاء وكتابا، فالفقر قد بلغ الحلقوم، في بيت أب لا يملك في الدنيا سوى معزتين يعيش بهما، ولا يقدر محمد بوخروبة حتى على تغيير ثيابه، فيرتدي طوال السنة قشابية وكبوسا وسروالا وحذاء واحدا دون تغييرها، كان الطعام الوحيد الذي يتناوله مع أصدقائه في دار بن جلول هو البطاطا أو المرق، فقد أمضى ثلاث سنوات في دراسته في قسنطينة، ولم يحدث وأن تناول اللحم، كما بصم على ذلك رفيق دراسته محمد الصالح شيروف.

لم يهتم الطفل بومدين بالمقرر الدراسي فقط، ظل يستلف من رفاقه وأساتذته الكتب التاريخية باللغة العربية، ويقضي الليل معها، حتى يبلغ آخر سطر منها مع إشراقة شمس اليوم الموالي، كان يهوى قراءة الكتب التاريخية لجورجي زيدان، ومصطفى صادق الرافعي، ومصطفى محمود العقاد، وطه حسين، وأحمد أمين، والمنفلوطي، كان شغوفا، خاصة بكتب التاريخ الإسلامي، التي روت له أمجاد الأمة الإسلامية، وفتوحاتها، وخلافتها العادلة، وقد اعترف بعد ذلك كبار العلماء الذين تعرفوا عليه بمدى الثقافة الواسعة لهواري بومدين، ومنهم عبد الحميد كشك، الذي كان ينتقد ويقصف كل الزعماء الذين مالوا للمعسكر الشرقي، إلا هواري بومدين.

استلهم من حجّ عمه

لم يكن بومدين قد أكمل الثامنة عشرة من العمر، في خريف 1951، ولم يكن في ذاكرته سوى سفرية عمّه لأداء فريضة الحج مشيا على الأقدام، فرسم خارطة السفر بالكامل في كراسة، وبدأ في بيع أثاث البيت، وكل أشيائه لأجل السفر، وبقي مصرا على أن لا يخبر أحدا من أهله حتى لا يمنعوه، وإن فشلت الخطة المرسومة وتم إعادتهم إلى الجزائر، فلا أحد سيعلم بذلك، وبدأ التنفيذ رفقة صديقين آخرين، هما محمد العربي مومني ومحمد الأخضر.

باع هواري بومدين متاعه في سوق مازال قائما لحد الآن، تحت جسر سيدي راشد بقسنطينة، حتى كتبه ضحى بها، كان الاتفاق ألا عودة بعد السفر، لأنه سيكون عارا على العائلة أمام أهل الدوّار، فاستخرجوا بطاقة تعريف وبطاقة دراسية وشهادة الأهلية، وبدأت الرحلة من دون مال، ولا وثائق إدارية خاصة بالسفر، إضافة إلى أن مسار السفر كله مليئا بالخطر، فتونس كانت تحت الانتداب الفرنسي، وفراز الليبية تحت الانتداب الفرنسي، وطرابلس تحت السيطرة الإيطالية، وبنغازي تحت الانتداب الإنجليزي، كما أن القاهرة عاشت عام 1951 حرائق مهولة، قيل حينها إن الملك فاروق والمخابرات الإنجليزية هي التي هندستها، لأجل أن يهتم بها المصريون، وينسوا مشاكلهم الحقيقية، المهم أن ظروف السفر ومسار الرحلة لم يكن إطلاقا في صالح المغامرين، ومع ذلك كان بومدين قد قرّر، وبدأ منذ تلك اللحظة زعامته التي تحوّلت بعد ذلك إلى حقيقة، منذ أن تولى الحكم في جوان من عام 1965.

حمل الشباب الأربعة والذين كان يقودهم هواري بومدين، رسالة من مكتب حركة الحريات الديمقراطية، وطاروا إلى تبسة، حيث استقبلهم أحد المسئولين، فمكثوا هناك لمدة ثلاثة أيام، ثم أرسل معهم دليلا رافقهم حتى بلغوا الحدود التونسية، ومن الصدف الغريبة أيضا، أن الرحلة إلى القاهرة مشيا على الأقدام، بدأت في الفاتح من نوفمبر من عام 1951.

كانوا أربعة فقط، وخامسهم المجهول، ولم يكن منهم واحد سبق له وأن شاهد الصحراء في حياته، لأنهم جميعا من أبناء الشمال الشرقي، وكان دليلهم الوحيد هم البدو الرحّل، باتوا في خيامهم المصنوعة من الشعر، وأكلوا طعامهم ورغيفهم المطهي على الرمل، وشربوا حليب النوق الذي قدموه لهم، فلا شاغل لبال بومدين سوى كيفية بلوغ الهدف، خاصة عندما بلغوا طرابلس، حيث المسافة بين العاصمة الليبية وبنغازي لا تقل عن 900 كلم، ووُجدت في ذلك الحين في بداية خمسينات القرن الماضي ثلاث قوات أجنبية، خاصة أن عدد الأربعة من المغامرين، تقلص بعد أن توقف مسار الرفيقين مومني ومحمد الأخضر في طرابلس، ولم يبق في مغامرة بلوغ القاهرة، وخاصة الطريق بين طرابلس وبنغازي غير هواري بومدين ومحمد الصالح شيروف، كانا يسيران في البراري دائما، ويتفاديات الطرق الرسمية، وكل الخوف من الحيوانات المفترسة والزواحف التي كانت تطاردهم وتفاجئهم ليلا، إضافة إلى بعض سكان الصحراء الليبية.

يقرأ القرآن على الموتى في ليبيا

وفي مدينة بنغازي تغيرت لهجة الليبيين، وكان واضحا تغيّر التقاليد أيضا فهم أشبه بالمصريين، فظنوا بومدين من المغاربة، فطلبوا منه إن كان يتقن أعمال الدجل والشعوذة وخاصة ضرب الرمل، وكانوا يطلبون من بومدين الحافظ لكتاب الله أن يقرأ القرآن على موتاهم، أي ما يسمى بالفدوة، وقراءة الكف أي التبراج، أما خط الرمل فهي قراءة المستقبل ضمن تنجيم وشعوذة يمارسه أهل الصحراء، كان بومدين مستعدا لمزيد من التضحية لبلوغ هدف بلوغ مصر، فكان يستجيب لكل الطلبات، يقرأ على الموتى، وكلما قدموا لهم الأكفّ يقرأ الخطوط المرسومة على الكف، ويضرب خط الرمل وكأنه خبير تنجيم.

ويتذكر الأستاذ محمد الصالح شيروف شتاء الصحراء الليبية، كان الصقيع والجوع والخوف من الذئاب يتضاعف، والشابان ينامان في العراء، فيدفن الراحل هواري بومدين نفسه في الرمل، ويترك رأسه عاريا حتى لا تلسعه الأفاعي والعقارب التي لم يكن البرد ليوقف زحفها، وبحثها عن فريستها، إلى أن أبان بومدين مرة أخرى عن ملكات ومواهب في ترجمة ما قرأه إلى أفعال، عندما تقدّم منه ذات ليل قارس ذئب مفترس، فسكن الخوف صاحبه، ولكن بومدين بكل هدوء، أخرج الكبريت وشمعة وأشعلها، فعاد الذئب من حيث أتى مسرعا، ولم يكن بومدين مخترعا لطريقة تهرّب الذئاب، وإنما طبّق ما قرأه في كتاب الحيوان للجاحظ، وهي ليست الحادثة الوحيدة التي تؤكد بأن بومدين يبتلع ما يقرأه في أمهات الكتب العربية والعالمية، وإنما ظهر ذلك عندما قاد البلاد، فكانت خطبه جميعها معجونة بكتب أبو فرج الأصفهاني والمتنبي والجاحظ.

قتلت رحلة القاهرة في بومدين شهية الأكل نهائيا، فقد كان يمضي رفقة صاحبه أربعة أيام من دون أن يأكلا لقمة واحدة، بل مجرد شربة ماء، إلى أن وصلا إلى مدينة بنغازي، وانتظرا هناك عشرة أيام صديقيهما محمد العربي مومني ومحمد الأخضر، فربما قررا اللحاق بهما، ولما يئسا من قدومهما، بدأت رحلة الرمق الأخير إلى القاهرة، فالهدف اقترب، لأن المسافة لم تعد تزيد عن 200 كلم فقط، كان بومدين في منتهى الغبطة، فقد قطع أكثر من 4000 كلم، ولم تبق سوى بضعة أيام وبضعة كيلومترات، ليحقق أول أحلام عمره وهو الوصول إلى القاهرة والانتساب لجامعة الأزهر، وتنفس الحرية بعيدا عن الاستعمار الفرنسي.

وفي جبال درنة الليبية، تراءت لبومدين ملامح منطقته ?المة، التي ظل يتحدث دائما عن أشجارها وهوائها النقي، اقترح بومدين على صديقه محمد الصالح شيروف، السير على حافة الأسلاك الشائكة، نصح بومدين رفيقه بأن يواصل مساره إلى القاهرة إذا مات هو، سارا ثلاثة أيام من دون توقف نحو مصر، من دون أكل لقمة واحدة، حتى إن الأحذية التصقت في جلد أقدامهما، إلى أن بلغا مدينة الإسكندرية، فأكملا الرحلة إلى القاهرة، ولكن هذه المرة بوسائل النقل الجماعية من حافلات وقطار، كما بقيا في زاوية سيدي البدوي مدة ثلاثة أيام، ووصلا القاهرة في 15 فيفري 1952، بعد أن قطعا 4500 كلم في ظرف ثلاثة أشهر، وحتى لا ننسى، فإن الرحلة بدأت ذات الفاتح من نوفمبر 1951 .

الغريب أن بعض السينمائيين المصريين يبحثون عن القصة الكاملة لهاته المغامرة لأجل تحويلها إلى فيلم سينمائي، بينما لا أحد عندنا اهتمّ بها، بالرغم من أنها تعني أحد رجالات التاريخ الجزائريين، ناهيك عن الجانب التشويقي فيها، وحتى لا ننسى أيضا، فإن قسنطينة التي منها انطلقت هاته المغامرة، ستحتضن تظاهرة عاصمة الثقافة العربية قريبا.. ولكن لا حياة لمن تنادي..

[الرئيس الراحل هواري بومدين] [الرئيس الراحل هواري بومدين]

الرئيس الراحل هواري بومدين


تقييم:

0

0
مشاركة:


التعليق على الموضوع

| الشروق | 01/01/15 |



علي بوهزيلة ابن خال الرئيس الراحل يواصل شهادته للشروق / الحلقة الثانية
بومدين رفض قتل زبيري وكان يقول لن أنسى تاريخه خليوه يروح
حاوره: صالح سعودي
كلمات دلالية: الجزائر
2014/12/31 (آخر تحديث: 2014/12/31 على 20:51)
السيد علي بوهزيلة يمينا
السيد علي بوهزيلة يمينا
صورة: (الشروق)
بن بلة كان يقول أنا رب الثورة وبوضياف يدعي أنه صانعها
بومدين كان ينوي عقد المؤتمر الرابع لمحاسبة الجميع لكن الموت كان أسرع

يواصل السيد علي بوهزيلة، ابن خال الزعيم الراحل هواري بومدين سرد العديد من الحقائق التي تخص حياة ومسار ثاني رئيس للبلاد منذ الاستقلال، حيث أشار إلى أسباب الانقلاب الذي تعرض له بن بلة، مؤكدا أن طريقة تسيير هذا الأخير لم تكن في مستوى التطلعات، كما أشار إلى محاولة الانقلاب التي تعرض لها بومدين عام 1967 وكيف تعامل معها، مشيرا في هذا السياق أنه لم يكن ينوي قتل الطاهر زبيري وإنما أرغمه على الابتعاد والهروب، وقال علي بوهزيلة إن بومدين كان صادقا وصريحا مع الجميع وليس من أخلاقه التحلي بالحقد والحسد أو تصفية الحسابات.



كيف تعامل مع محاولة الانقلاب التي تعرض لها عام 1967؟

من بين الأسباب التي يرددها البعض هو أنه كان موال لجماعة الغرب (وجدة)، والذين كانوا وراء الضلوع في محاولة عملية الانقلاب، تم القبض عليهم وحاكموهم، وهناك من حكم عليهم بالإعدام، لكن في النهاية تم إطلاق سراحهم جميعا، ولم يؤذ أحدا منهم، ويعيشون بقية حياتهم بصفة عادية، منهم من مات رحمه الله، ومنهم من لا يزال على قيد الحياة، وقد كان يقول "لن أوسع يدي بالتاريخ".



لكن الكثير من الذين تم القبض عليهم صرحوا أنهم عانوا الويلات في السجون العسكرية، ما قولك؟

يجب ألا ننسى شيئا مهما وهو أنهم أصابوه برصاصة وكادوا يقتلونه، ورغم ذلك فضل عدم تنفيذ حكم الإعدام في حقهم، أما الطاهر زبيري إذا لم يكن على علم فقد فضل بومدين متابعته لإرغامه على الخروج، ولم يكن ينوي قتله رغم هروبه واختفائه عن الأنظار، وحين يتحدثون معه عن هذا الموضوع كان يرد عليهم بالقول"لن أنسى تاريخه ولا أنوي متابعته خليوه يروح"، فبومدين كان يحب زبيري ويشيد بإخلاصه، خاصة أنه من المجاهدين الأوائل الذين قدموا الكثير للثورة، والشيء المهم في طبيعة هواري بومدين أنه ليس غيورا ولم يكن حقودا، وكان يتفادى تصفية حساباته مع الغير، بالعكس كان يتسامح مع الجميع رغم الظروف الصعبة التي تميز البلاد آنذاك، وحتى تتأكد من ذلك أسرد لك حالة بعينها تخص واحدا من المشاركين في عملية الانقلاب، ولن أذكر اسمه حفاظا على سمعة العائلة، حيث فطر معه في شهر رمضان في ظل تواجد أمه وإخوته، وفي ليلة الغد كان ضمن جماعة المهاجمين عليه، وتم القبض عليه ولا يزال حيا، لكن في النهاية أطلق سراحه على غرار بقية المشاركين في عملية الانقلاب.



ما رأيك في قضية اعتماد هواري بومدين على ما يصطلح عليهم بضباط فرنسا؟

التاريخ هو الذي سيشهد على المسار الثوري لبومدين وكل المجاهدين، لكن الحقائق تكشف على أعماله الرامية إلى تشكيل جيش عصري يتماشى مع المتطلبات التي كانت تحتاجها الثورة والبلاد بعد الاستقلال، وبخصوص الذين يصطلح عليهم بضباط فرنسا، فقد خدموا الثورة وأنا شاهد على هذا القول، حيث خدموا الثورة لمدة 4 سنوات أو أكثر، وزيادة على ذلك فقد حرصوا على تعزيز المؤونة والأغذية في "كازماط" كافية لمدة 10 إلى 14 سنة، وبومدين حينها كان يطمح إلى ترقية الجيش، واقترح أن يتم الاستعانة بخدمات الضباط القادمين من الجيش الفرنسي، وهذا بناء على صدقهم ومساهماتهم في جيش التحرير الوطني، أم سيتم الاستعانة بضباط جدد لا يعرفونهم، وقد وافق الجميع على مقترح الاستعانة بضباط فرنسا، وفي النهاية هناك من يريد أن يحمل بومدين المسؤولية وحده، أنا شخصيا كنت ضابطا في جيش التحرير الوطني، لكن بعد ذلك قررت الانسحاب لأنني لاحظت عدم قدرتي على مواكبة التطورات الحاصلة، وفضلت ألا يتم اتهامي بالعجز أو التقصير وترك مكاني لغيري ممن هم قادرون على تحمل المسؤولية. أشهد أن ضباط فرنسا الذين التحقوا بالجيش خدموا بنيتهم وبكل إخلاص وضحوا الكثير من أجل خدمة الثورة والوطن، فسليم سعدي مثلا هو الذي تكفل بنقل الجيش إلى مصر أثناء حرب 1967، أذكر أيضا الضابط بوزادة عبد المؤمن الذي قدم خدمات كبيرة، وحين أتذكر آخر اسمه العقون من سطيف تغلبني الدموع، وكذلك الطبيب بوذراع من وهران مختص في طب العظام، حيث تعرض إلى إصابة على مستوى الرجل، لكن ذلك لم يمنعه من ممارسة مهمته في علاج المرضى من خلال التنقل عن طريق العكاز.



وما هي أسباب الانقلاب الذي أحدثه بومدين على نظام بن بلة؟

بومدين كان يحظى بتأييد المصريين، خلال فترة تواجده في القاهرة رفقة محمد خيضر وآيت أحمد وغيرهم، وأنا سمعت أحد أعضاء مؤسسي المخابرات الفرنسية فتحي الذي يقول"كان يقول محمد خيضر أعطوا لنا الأموال"، أما بن بلة فيقول "امنحوا لنا السلاح" واخترنا بن بلة"، وشخصيا أعرف فتحي عن قرب مثلما أعرف بقية قادة الثورة الذين كنت معهم على غرار بن طوبال، بوصوف، علي كافي وغيرهم، وأحمد بن بلة أصبح آنذاك في يد المصريين الذين يسعون إلى جعله أداة لتحقيق مصالحهم، اختاروا بن بلة ومنحوا له يد المساعدة لأنه يسهل لهم المهمة وأكثر مرونة معهم، ما جعله يتسلم مقاليد الرئاسة، في الوقت الذي بدا فيه الكثير متحفظا، لأن ذلك يعني في نظرهم تدخلا واضحا في شؤون البلد ومساسا بأحد أبرز مبادئ الثورة، والحمد لله أنه تم توقيفه والانقلاب عليه، وإلا لحدث انقسام في البلاد لا تعرف عواقبه، كما أن هناك أسباب أخرى تورط بن بلة في طريقة تسييره للثورة، حيث كادت القاعدة الشرعية أن تتعرض للانفصال، لأنها مشكلة قبل مؤتمر الصومام من منطقة الأوراس وشقها الآخر من منطقة سمندو وكلها تنتهي إلى غاية الحدود التونسية، لكن بن بلة ومحساس كادوا يحطمون الثورة بقراراتهم غير المدروسة، لأنهم كانوا يسعون إلى منح الأولوية في اتخاذ القرارات لجماعة الخارج على حساب قيادات الثورة من الداخل، هذه الحادثة عشتها عن قرب، وهناك كلام سأقوله في وقت لاحق لتوضيح الأمور أكثر حيال ما حدث في هذا الجانب.



لكن سوء التفاهم بين القيادات كان سائدا ولم يكن منحصرا على هذه القضية، فهل هناك بوادر لتجاوزها؟

في تلك الفترة بومدين لم يكن معروفا، ما جعلهم يراهنون على الشخصية الأكثر شعبية، فوقع الاختيار على بن بلة، لكن الإشكال هو أن القادة الخمسة الذين دخلوا السجن لم يكونوا متفقين ولا يتصفون بالإجماع في مجمل القرارات المتخذة، حيث بقي بن بلة وخيضر ثم هرب خيضر، وفي الوقت الذي اقترب موعد مبايعة بن بلة كاد أن يبيعنا للمخابرات المصرية لولا لطف من الله، وأصبحنا في يد المصريين ومخابراتها ومشكل الانقسام الذي كان يهدد مستقبل البلاد، ما جعل بومدين يسعى إلى نزع الثقة منه، وقال لي بومدين يوما "بن بلة كان يضع الميزانية في الجيب ويوزعها على الذين يصفقون عليه ويشكرونه"، كما حكم عليه عدة تجاوزات مثلما تعلق بمستقبل صندوق تبرعات نساء الجزائر اللاتي منحن مجوهراتهن، كما أن المراقب العام الذي قام بعملية التقويم والجرد، ورغم كل ما حدث فقد حافظ عليه، ورفض المقترحات المقدمة له بخصوص إمكانية نفيه، وزيادة على ذلك حرص على تزويجه، وتفادى خلط الأمور، لأن بومدين كان على قناعة أنه لو يتم إطلاق سراح بن بلة سوف يخلط الأمور مجددا، والدليل أن أول شيء قام به في عهد الشاذلي بن جديد تحوله إلى سلك المعارضة.



على ذكر الشاذلي بن جديد، هل ترى أنه سار على خطى بومدين أم العكس؟

أول شيء قام به الشاذلي بن جديد رحمه الله بعد توليه الحكم، هو الانتقام من بومدين، والتخلي عن مجمل المشاريع التي قام بها، مثل الثورة الزراعية وحملات التشجير والسد الأخضر، وإطلاق المساجين وغير ذلك من الأمور التي قد يكون مخطئا في الكثير منها.



لكن الكثير كان ينتقد الخيارات الاقتصادية لبومدين مثل الثورة الزراعية والقرى الاشتراكية واتباع النظام الاشتراكي؟

الثورة الاشتراكية لم يقم بها بومدين يا ابني، فقد كان مخططا لها منذ 1926 في عهد نجم شمال إفريقيا وتشمل تونس والجزائر والمغرب، وتواصل الأمر على هذا الحال، ففي ?المة كنت مناضلا تحت إشراف بوجريدة عمار عبد القادر هرقة، احمد جلول الذين كانوا في نجم شمال إفريقيا ومن قدامى المناضلين في ?المة، بدليل أنهم كانوا ضمن القائمة التي شكلها مصالي الحاج من أصل 10 أعضاء منذ الانقسام الذي حصل عام 1937، حيث كان عمري 11 سنة، لما كنت أدرس عند بوشريدة عمار الذي كان يملك محلا لبيع الأحذية، وكان يعلمنا الأناشيد في مقدمة ذلك "فداء الجزائر"، وفي ذلك الوقت، لا يقولون الثورة ولكن يقولون الإصلاح، وعليه فإن الاشتراكية تعود إلى سنة 1926 وليست وليدة الثورة أو في عهد بومدين فقط، وفي هذا الجانب يجب أن تعرفوا أمرا مهما، وهو أن العالم كان منقسما إلى شطرين، عالم رأسمالي وآخر اشتراكي، الأول هو الذي استعمرنا وقلتنا وشردنا، أما الثاني فالبلدان التابعة له فتحت لنا الأبواب ودافعت عنا، وساعدتنا في عدة أمور، وفي مقدمة ذلك إمدادنا بالسلاح، وشروط ثورة 1 نوفمبر كانت تتبنى الاشتراكية وتنبذ كل ما له علاقة بالرأسمالية، فبومدين طبق فقط قوانين الثورة التي أقرتها الثورة وخرج بها مؤتمر طرابلس، وأعتقد أن الخيار المتبع في تلك الفترة منطقي جدا قياسا بالمعطيات السائدة، وهذا خلافا لما هو حاصل حاليا، حيث أن هناك 7 دول تتعدى على حقوق العالم الثالث، ناهيك عن المشاكل التي نعاني منها على الصعيد الداخلي، حيث أن 10 بالمائة مستحوذين على الثورة وبقية الشعب الجزائري يعاني، والمؤسف أن انهيار أسعار البترول قد يتسبب في إلغاء مشاريع كان يفترض أن تنجز أو يتم اللجوء إلى احتياطي الخزينة، وعليه يجب أن نفكر بجدية حول مستقبلنا، فمحمد بوضياف حين تولى رئاسة الجزائر مؤقتا قال إن ما يهمني هو الجزائر قبل أي طرف آخر، والحديث قياس.



على ذكر محمد بوضياف، ما هي أسباب سوء تفاهمه مع بومدين؟

بوضياف معروف بشخصيته، لكن المشكل المطروح هو أن الخمسة الذين كانوا في السجن، لم يسبق لهم وأن اتفقوا على شيء، محمد بوضياف كان منفردا، وخيضر رفقة حسين آيت أحمد دائما مع بعض، وبن بلة يعزف سيمفونيته وحده أيضا، فبن بلة كان يقول "أنا رب الثورة"، وبوضياف يدعي أنه صنعها، والثنائي خيضر وآيت احمد لهم وجهة نظر مغايرة، ورابح بيطاط "خاطيه الشيء" والحديث قياس.



وماذا عن خلاف بومدين مع فرحات عباس؟

فرحات عباس، اتهموه بالاندماج، ومع ذلك فقد استعانت به قيادة الثورة وعينته رئيسا للحكومة المؤقتة، لكن بومدين ليس السبب في تنحيته، حينها كانوا يقولون إن ديغول لا يريد التفاوض معه، لكن في كل الأحوال أقول إن فرحات عباس رجل مخلص ووطني معروف، ربما الكلام الذي قاله في ذلك الوقت قد يكون له الحق فيه، أنا شخصيا حين أغوص في التاريخ أقول إن الدولة العثمانية كانت دولة استعمارية وليست جزائرية، ألوم المؤرخين الذين يغالطون الشباب، بدليل أننا لم نكن نملك لا مصالح للحماية المدنية ولا شرطة ولا حدود ولا وثائق ولا شيء آخر يعكس هويتنا وسيادتنا، وعليه أقول إن الجزائر صنعتها ثورة 1 نوفمبر 1954، وأصبحت بعد ذلك لها معالمها بحدودها ونظامها وشعبها، والحدود تعود إلى عهد الاستعمار، ما جعل الجيران يطالبون بتعديلها، وقال لي بن طوبال إنه كان له حديث مع محمد الخامس، وقال له إن الذي له طلب عليه أن يقدمه اليوم ويسخر أبناءه للتضحية، لأنه حين تستقل الجزائر لن تتنازل عن حبة رمل من أراضيها.



كيف تصف لنا الأيام الأخيرة قبل وفاة الزعيم هواري بومدين؟

بومدين كان ينوي عقد المؤتمر الرابع للحزب، ويكون فرصة لمحاسبة الجميع، سواء الضباط وأصحاب القيادات وغيرهم، لكن الوقت لم يمهله وتعرض لمتاعب صحية سرعان ما تطلبت نقله إلى الخارج للعلاج ليلقى ربه يوم 27 ديسمبر 1978، كما يقول المثل "لي ما في كرشو التبن ما يخاف من النار"، بومدين كان صادقا ومخلصا ونزيها، كان يحرص على المال العام، ولكن كما يقول المثل القديم "علة الفول من جنبها"، التاريخ يحسب له أنه ترك رصيده فارغا، في الوقت الذي ودع الدنيا وخزينة الدولة فيها مبلغا محترما، لم يستغل أملاك الدولة لخدمة أهله أو حاشيته، ولا أحد من أقاربه يقترب منه، وكان لكل فرد يقصده "روح بعيد وعول على ذراعك".



هل لهذا السبب نال محبة الشعب في نظرك؟

أكيد أن من يعمل بصدق يحبه الناس، فالرسول صلى الله عليه وسلم أرسل للبشرية منذ 14 قرنا، والمسلمون يؤمنون به ويسيرون على سُنته، أما الشيء الذي لاحظته بخصوص بومدين هو أن شباب اليوم يحب بومدين، رغم أنه لم يعيشوا في فترة حكمه، ربما هذه حكمة إلهية، فالعمل الذي قام به والمواقف التي تحلى بها هي التي جعلته خالدا في التاريخ، ومحبوبا لدى الجميع كبارا وصغارا.



هل كان بومدين دائم التنقل إلى ?المة؟

قدومه إلى ?المة كان في المناسبات فقط، لزيارة والديه بالخصوص، لأن كثرة التزاماته تحول دون ذلك، وقد جهز المنزل الذي كان يسمى ببيت بومدين من طرف ز?ار، وكانت زياراته عادية جدا، ولا يتيح الفرصة لأي أحد من مقربيه بخصوص إمكانية الاستفادة من أموال وممتلكات الدولة، وهذه هي طبيعة بومدين. كان يقول لكل واحد يقصده "روح بعيد وعوّل على ذراعك".



الكثير فهم إحدى خُطب أحمد بن شريف على أنه تقليل من قيمة الشاذلي واعتراف بمسار الشاذلي، ما رأيك؟

أحمد بن شريف قام بخطاب في مدينة عين البيضاء، وكان يقول أمام مسمع الحضور، "تقولون إن الشاذلي بن جديد ماهوش قراوي، يا جماعة راهو قرى في الممرات التي رسمها بومدين"، وهو ما جعل البعض يناديه بعد ذلك بـ"لوتوروت"، وهو ما يعكس لجوء بومدين إلى مبدأ التخطيط ونظرته العميقة للمستقبل، كما أن الشيء المهم هو اعتماده على وزارة قائمة بذاتها خاصة بالتخطيط، وهو الأمر الذي افتقدناه بعد ذلك.



هل يمكن أن تحكي لنا رد فعل بومدين بعد مجيء شقيقه إلى روسيا للاطمئنان عليه؟

هذا أخوه الأصغر السعيد الذي تنقل رفقة أحمد طالب الإبراهيمي، وحين وصل إلى المستشفى وقابل بومدين سأله هذا الأخير، من سدد لك تذكرة الطائرة، وحين علم أن ذلك تم من خزينة الدولة، طلب باقتطاع ثمن التذكرة من أجره الشخصي، بومدين كان لا يتلاعب في مثل هذه الأمور، حيث انه كان يتكفل شخصيا بأمور أفراد عائلته، سواء ما تعلق الأمر بوالديه رحمهما الله خلال حجهما أو خلال مرضهما، ونفس الشيء بخصوص إخوته، فشقيقه عبد الله رحمه الله الذي تعرض لمرض عضال أنا الذي رافقته إلى فرنسا للعلاج جانفي 1970، وقد صرفت من جيبي الخاص مبلغ 6000 دج آنذاك، وتكفلنا بأمورنا، حيث لجأنا إلى الشعب لمساعدتنا في هذا التنقل، وخلال هذه السفرية اتصلت بسفير الجزائر في فرنسا رضا مالك، وقلت له انه ينقصنا مبلغ 1000 دج في إطار علاج شقيق بومدين، وقد سلم لي المبلغ، لكن بعد أن سمع بومدين الخبر من عند زقار، قام برد الأموال إلى خزينة الدولة وسددها من راتبه الشخصي، والشاهد على هذه الحادثة هو رضا مالك الذي لا يزال حيا وكذا بوتلة الذي كان ملحق عسكري، علما أن تاريخ التنقل كان يوم 2 جانفي 1970 من الجزائر إلى باريس على متن طائرة بوينغ الأولى، وكان معنا في الرحلة العقيد عبد الغني والوزير الأسبق عبد الحميد الإبراهيمي رفقة زوجته.



هل من إضافة في نهاية هذا الحوار؟

أنا سعيد بأن شبان اليوم أثبتوا وفاءهم لبومدين رغم أنهم لم يعيشوا فترة حكمه، كما أستغل الفرصة لأبلغ شكري وتقديري للرئيس الأسبق اليمين زروال لأنه أعطى المثل للجميع، أقول له إن الشعب يحبك، وقد أعطيت المثل للعرب حول كيفية تخليك عن الحكم وتقليص عهدتك، كما أحيي بالمناسبة السيد حسين بن معلم الذي يتصف بسمعة طيبة خلال مساره الثوري حين كان بمعية الشهيد عميروش.

| الشروق | 31/12/14 |


ابن خال الرئيس الراحل علي بوهزيلة يكشف عدة حقائق لـ"الشروق" / الحلقة الأولى
بومدين كان يقول لمقربيه: أطلبوني في عيني نمدهالكم ولا تطلبوني في فرنك تاع البلاد
حاوره: صالح سعودي

2014/12/30 (آخر تحديث: 2014/12/30 على 19:52)
الرئيس الراحل هواري بومدين
الرئيس الراحل هواري بومدين
صورة: (ح.م)
لم يوافق على بنود اتفاقية إيفيان لأن فرنسا أرادت تقزيم دور الجيش
البعض كره بومدين بسبب محيطه وحتى زروال يكون قد غادر الحكم لذات السبب
14

يتحدث السيد علي بهزيلة الذي يعج ابن خال الزعيم الراحل هواري بومدين عن الكثير من الحقائق التي ميزت مسار هذا الأخير في فترتي الطفولة والشباب، إضافة إلى مشواره الثوري وخلال توليه سدة الحكم، وأكد عمي علي بوهزيلة أنه كان من المقربين من هواري بومدين، وكان يعتبر لديه بمثابة الخال والأخ والصديق، وكثيرا ما يفشي له أسراره الشخصية وأسرار الحكم حسب قوله، مؤكدا أن بومدين شكل جيشا عصريا، وساهم بشكل فعال في نيل الاستقلال، وعمل بإخلاص من أجل استقلال وتشييد البلاد.



في البداية هل أنت خال بومدين أم ابن خاله؟

في الحقيقة أنا ابن خاله، ووالدته رحمها الله تعد عمتي، لكن بحكم أنني أكبره بـ 6 سنوات، أصبح يقول لي خالي، وهو ما يعكس أواصر الاحترام المتبادل بيننا، حتى أن هناك بعض الأمور الخاصة لا يكشفها إلا لي فقط.



ماذا تعرف عن طفولة وتنشئة هواري بمدين؟

هواري بومدين من مواليد 23 أوت 1932 بقرية بني عدي التي تبعد بكيلومترات قليلة عن مقر الولاية ?المة، غادر أفراد عائلته بشكل مبكر من أجل الدراسة، حيث تكفلت به 4 عائلات بصورة متعاقبة من 1937 إلى 1946، ثم عاد إلى مسقط رأسه لمواصلة تعليمه القرآني، وفي العام 1949 تنقل إلى قسنطينة للدراسة في الكتانية، ورغم أنه كان يفضل الصمت، إلا أنه كان يرغب في الذهاب بعيدا في مساره الدراسي، وهو ما جعله يتنقل في العام 1951 إلى القاهرة لذات الغرض بمعية مرافقه محمد الصالح شيروف، موازاة مع تنقل بعض أترابه بشكل ثنائي حتى يشتركوا في تحمل عناء الطريق.



كيف جاءته فكرة التنقل إلى القاهرة؟

في الحقيقة الفكرة فكرته هو، فموازاة مع دراسته في الكتانية وقراءة القرآن في كتاتيب مسقط رأسه بني عدي، فقد بدت رؤية جديدة لإكمال دراسته، وهو الأمر الذي جعله يختار القاهرة وجهة جديدة له لطلب العلم والنضال في نفس الوقت.



ما هو المخطط الذي اتبعه للوصول إلى القاهرة؟

المهمة لم تكن سهلة، لكن ما حفزه أكثر هو سفرية عمه إلى الحج، حيث اتخذها كمرجع مهم لرفع التحدي في رحلة التنقل إلى مصر، وهو ما جعله يدوّن كل ما يرويه عمه أثناء تنقله وعودته من الحج، ليصل إلى مرحلة تجسيد الفكرة عام 1951 تزامنا مع وصوله مرحلة أداء الخدمة العسكرية، وقد اختار محمد الصالح شيروف مرافقا له في هذه الرحلة لغرض الدراسة، وقد غادر تراب الوطن وتوجه نحو طرابلس ليواصل المسيرة بصورة تدريجية حتى وصوله إلى القاهرة، وقد أبان بومدين عن اجتهاد كبير في التحصيل الدراسي، وبدا في الوقت نفسه مهتما بالنضال العسكري والسياسي، خاصة في ظل الأجواء التي وقف عليها هناك، وتواجد بعض القادة الجزائريين على غرار أحمد بن بلة، آيت أحمد، محمد خيضر وغيرهم، ليلتحق بعد ذلك بالكلية الحربية بالعراق، وتخرج ضمن صدارة الدفعة كضابط.



هل نفهم من كلامك أن رحلته إلى القاهرة كان لها هدف مزدوج؟

بومدين تنقل لغرض الدراسة لمواصلة تعزيز معارفه موازاة مع المستوى التعليمي الذي وصل إليه في ?المة وقسنطينة، وحين تواجده في القاهرة وقف على أمور أخرى تكيف معها بشكل جيد، وفي مقدمة ذلك الاهتمام بالنضال العسكري والسياسي، وهو ما جعله يرمي عصفورين بحجر واحد.



هل يمكن أن تعدد لنا صفات بومدين في فترة الطفولة والشباب؟

بومدين يتسم بالهدوء والرزانة، يفضل التعبير عن المسائل المحيطة به بابتسامة، أعتقد أنه تعلم كثيرا من فترة طفولته التي عاشها بعيدا عن والديه، ولا تنسى أنه كان يتنقل من عائلة إلى أخرى منذ أن كان عمره 8 سنوات، وكان يتحلى بالصبر، فالإنسان الذي يعيش بعيدا عن عائلته ووالديه أكيد قد يتعرض للجوع أو الاحتياج، لكن سلاحه كان الصبر ومواصلة التحدي.



كيف كانت علاقتك المباشرة به؟

كثيرا ما يتحدث لي عن أسراره وهمومه وبعض أسرار الثورة والحكم فيما بعد، فقد كنت إلى جانبه في موقع الخال والأخ والصديق، بومدين لم يتغير وبقي محافظا على خصاله وطيبة قلبه وحزمه أيضا، كما أن الذي كان يعرف أسرارا كثيرة عن بومدين هو الجنرال الأسبق شلوفي مصطفى الذي كانت تربطني به علاقة متينة وتفاهم تام، لأنني عملت معه وكنت نائبا له في"اللوجيستيك"، هو كان مكلفا بالأمور الإدارية، وأنا بالمسائل الميدانية.



هناك من يقول إن بومدين شارك في مظاهرات 8 ماي 1945 وأصيب على مستوى القدم؟

صحيح أنه شارك في مظاهرات 8 ماي 1945، لكن كان يناضل في هدوء ونظام، وليس من الذين يحبون الظهور من أجل الظهور. وعليه أنا لست متأكدا من إصابته، على خلاف صديقه مزعاش الذي يعد من نفس المشتة التي ينتمي إليها بومدين.



كيف تمت عودته إلى الجزائر؟

كان ذلك في شهر أفريل 1955، حيث أن المصريين كانوا يحبون بن بلة كثيرا، ما جعلهم يجهزون باخرة "دينا" بالأسلحة، تحت إشراف 4 ربان تم اقتراحهم من قبل المصريين و7 آخرين جلبهم بن بلة، وفي مقدمتهم كان هواري بومدين، وتنقلت الباخرة إلى ايطاليا للتحول إلى الجزائر، حيث نجحت المهمة إلى حد كبير بعد وصولها ليلا، لكن حدثت ذلك مشكلة بعدما وجدوا صعوبة في الرسو، ولما قرّبوها من الميناء الصخري تعرضت للضرر، ورغم ذلك تمكنوا من نقل الأسلحة، حيث كان لزاما أن يغادر 7 من المتواجدين على أن يبقى أربعة منهم بغية تحويل الباخرة إلى اسبانيا، وهو ما تسبب في إلقاء القبض عليهم، وتعرضوا للمساءلة، وبرروا ما حدث على أنه ناجم عن أسباب مناخية دون أن يتم كشف هويتهم وضلوعهم في جلب الأسلحة.



ما هي المهام العسكرية التي تولاها بومدين بعد التحاقه بالثورة؟

كان مسؤولا عسكريا رفقة بوصوف الذي كان يلقب آنذاك بـ"سي مبروك"، وبقي معه حتى عام 1957، وعلى ضوء مخلفات مؤتمر الصومام في 20 أوت 1956، وكذا الاجتماع الذي عقد في القاهرة يوم 20 أوت 1957، أصبح بوصوف بعد ذلك عضوا في لجنة التنسيق والتنفيذ التي توسعت تركيبتها من 5 إلى 9 أعضاء، منهم 6 عسكريين كل واحد منهم يمثل ولاية من الولايات التاريخية، و3 سياسيين وهم فرحات عباس، عبد الحميد مهري ولمين دباغين، وشرفيا كان الخمسة المتواجدون في السجن، وهذا لتفادي التقسيم ومن باب توحيد الجهود، وهو ما يؤكد أن من يقود الثورة كانوا عمالقة في التفكير وحسن التدبير، ولما تم تحويل بوصوف إلى مهمته الجديدة كعضو في لجنة التنسيق والتنفيذ، تم ترقية بومدين إلى مسؤول الولاية الخامسة إلى غاية 1960، وتزامن ذلك مع قضية العقداء، حيث تنقل إلى تونس التي كانت فيها قيادات الولاية الأولى والثانية والثالثة والرابعة وجزءا من الولاية السادسة (منطقة الصحراء)، وأصبح بومدين فيما بعد المسؤول الأول على العقداء، وحرص على تكوين جيش يتماشى مع متطلبات الثورة، كما حرص على إدماج الضباط القادمين من فرنسا الذين وضع فيهم الثقة وأدرجهم في جيش التحرير الوطني.



كيف تعامل بومدين مع قضية وقف إطلاق النار؟

قام بمجهود كبير في المهمات الموكلة له خلال الثورة، وهو ما جعله يسعى إلى تعزيز مبدأ الاستقلال وإخراج فرنسا مهما كان الثمن، لكن مع ذلك فقد أبدى بعض التحفظات بخصوص المفاوضات الجارية مع الطرف الفرنسي، حيث لم يكن موافقا على شيء مهم أثناء المفاوضات الجارية مع الاستعمار الفرنسي، خاصة ما يتعلق برد الفعل السلبي من الاستعمار الذي لم يحترم مبدأ توقيف القتال الذي تم يوم 19 مارس 1962، بعد الذي قامت به المنظمة الإرهابية "أواس" من أعمال قتل وتخريب، على خلاف جيش التحرير الوطني الذي لم يطلق أي رصاصة منذ ذلك الاتفاق، كما لم يوافق على بعض بنود اتفاقية إيفيان التي يرى أنها ظالمة ولم تعط الحقوق التي يطمح إليها الجزائريون، وفي نفس الوقت سعيت إلى تقزيم الاستقلال الذي حققه رجال الثورة.



ما هي أبرز هذه الجوانب التي تحفّظ عليها؟

فرنسا سعت إلى فسخ جيش التحرير الوطني وإنهاء مهامه بانتهاء الثورة، وهو الأمر الذي رفضه بومدين جملة وتفصيلا، لأن فرنسا دعت إلى توظيف خدمات عناصر ما يصطلح عليها بالقوة المحلية التي كانت مشكّلة من جنرالات فرنسا والحركى، وعليه فإن بومدين لم يقبل بمنطق تقزيم دور جيش التحرير الوطني الذي ضحى من أجل الاستقلال، وفي النهاية أرادت فرنسا أن تمرغ رأسه في التراب من خلال سعيها إلى فرض بنود قاسية في هذا الجانب، وعليه كان بومدين يقول كيف لجيش أثار الرعب في الاستعمار الفرنسي أن يتم التقليل من قيمته، وهو القادر على مواصلة مهمة حماية الوطن والحفاظ على استقراره، كما لم يقبل الحكومة الانتقالية التي كانت مشكلة من عناصر جزائرية وأخرى فرنسية بقيادة فارس عبد الرحمان.



ما هي مخلفات هذه التطورات؟

يوسف بن خدة الذي كان آنذاك رئيسا للحكومة تمسك ببنود اتفاقية إيفيان، وهو ما جعل موازين القوى تنقسم إلى 3 أجزاء، خاصة في ظل الخلاف الحاصل بين الباءات الثلاث وبومدين من جهة ومع بن خدة من جهة أخرى، فهذا الأخير كان يعول على فرنسا لتطبيق بنود اتفاقية إيفيان، لأنه لم يتحكم في الجيش ما جعله يسعى إلى فسخه، فيما كان بومدين هو المتحكم في مقاليد الجيش، ببساطة لأن الجيش كان يحب بومدين، وحسب وجهة نظري، فإن بومدين هو الذي جنب البلاد من أزمة الانقسام الناجم عن غياب الإجماع بين الأطراف الفاعلة آنذاك، بدليل أنه منح القيمة اللازمة لجيش التحرير الوطني الذي أصبح فيما بعد الجيش الشعبي الوطني الذي يعد منذ الاستقلال حامي البلاد ومفخرة الجميع.

كما أنه قام خلال فترة حكمه بإعادة النظر في الشروط الأربعة التي وضعتها فرنسا وحرص على فسخها فيما بعد، على غرار المركز النووي في الصحراء الجزائرية، وكذا مطار المرسى الكبير، إضافة إلى تأميم البترول، ما جعل الجزائر حرة مستقلة في ممتلكاتها وشعبها ودينها، وهذا كله من نتائج وتضحيات بومدين، والحمد لله أن الثورة التحريرية فيها الكثير من المخلصين الذين ساهموا في استقلال الجزائر منهم الراحل هواري بومدين.



كيف تقيم فترة حكم بومدين من ناحية تسيير البلاد؟

بومدين كان مخلصا وصادقا طيلة فترة حكمه للبلاد، والشيء الأهم أنه لم يكن مبذرا ولا مفلسا، بدليل حرصه على خزينة الدولة، حيث كان يقول لمقربيه وأفراد عائلته "أطلبوني في عيني نمدهالكم ولا تطلبوني في فرنك تاع البلاد"، وعليه ينطبق عليه المثل القائل "عاش ما كسب مات ما خلى"، ترك الشرف وسمعة البلاد، كان لا يعرف أبوه ولا أمه ولا إخوته في مثل هذه الأمور، حيث تكفل بحج والديه من أمواله الخاصة، مثلما تولى علاجهما أيضا بعيدا عن أموال الدولة، فبومدين حرص على سمعة وشرف الجزائر حتى تبقى واقفة على قدميها، مات ولم يترك أي فرنك في حسابه الخاص، وفي الوقت نفسه ترك كمية من المال في الخارج، لكن تام نهبها للأسف الشديد، والتاريخ سيظل شاهدا على ذلك في كل الأحوال، ولو كان بومدين في الوقت الحالي قد تكون الجزائر أغنى من أمريكا، أقول هذا الكلام بكل مسؤولية، لأن حجم الفساد الذي عرفته البلاد يثير الكثير من التأسف والاستياء.



ما هي أبرز مواصفات بومدين السياسية والتسييرية حسب رأيك؟

الشيء المهم فيه أنه رجل مخلص، ورجل دولة ينظر بشكل بعيد وعميق للأمور، وكان يقول آنذاك"إذا لم نتحل بالجدية وروح المسؤولية سنقع في أزمة اقتصادية"، وحسب بعض أصدقائه فقد قال بومدين للرئيس السوفييتي آنذاك، إذا لم تغير السياسة الاقتصادية سيأتي يوما تعطون أيديكم لأمريكا، بومدين مات والمسؤولين على الحكم يتحملون المسؤولية فيما بعد.



لكن الكثير كان ينتقده بسبب محيطه المقرب، ما قولك؟

الكثير من الذين كانوا يكرهون بومدين كان بسبب محيطه المقرب، وكثيرا ما يقال لي إنهم يكرهون بومدين بهذا السبب، لكن أقول بكل صراحة، إن الذين كانوا إلى جانبه شبان، وبومدين كان يسعى في كل مرة إلى تجاوز كل التفاهات، ويحرص على إطفاء النار ولا يشعلها وتقريب وجهات النظر بين جميع الأطراف، تسوية أي إشكال مطروح، حتى اليمين زروال حفظه الله من الرجال المخلصين الذين خدموا البلاد أثناء الثورة وبعد الاستقلال وخلال توليه رئاسة البلاد، لكن ربما من أسباب انسحابه هو محيطه الذي يكون قد أساء إليه أو صعب له المهمة، ويكفيه فخرا أنه الرئيس الوحيد الذي قدم استقالته في الوطن العربي وكرس مبدأ التداول على الحكم بطريقة سيدوّنها التاريخ، كما رفض الالتقاء بالرئيس الفرنسي ورفض أيضا تشريح أزمة الجزائر في سانت إيجيديو، والحمد لله أن الشعب الجزائري كله راض عنه، وعليه فإن مشكل المحيط المقرب قد يطرح لأي رئيس، لكن العبرة في كيفية تجاوز المشاكل المطروحة.


...........................................

=== إضافة تعليق جديد ===
الإسم:

نص التعليق:

انقل محتوى صويرة التحقق في الخانة أسفله:
الصورة غير ظاهرة