لو قدّر للرئيس الراحل هواري بومدين أن يعيش بيننا، إلى يومنا هذا، لبلغ من العمر 82 سنة، لأجل ذلك لم يكن الأمر هينا، ونحن نبحث في هذه السنوات الضاربة في ما قبل الثورة وأثناءها وبعدها بحثا عن ملامح الوجه الآخر لرجل عاش لغزا ومات لغزا، وعندما توفي لم يكن عمره قد زاد عن السادسة والأربعين، دون أن يترك ابنا واحدا، وترك بالمقابل الكثير من علامات الاستفهام.
والمدهش في رحلة البحث عن سيرة بومدين في قلب المنطقة التي ولد فيها ?المة، أو المدينةالتي درس فيها قسنطينة، أن أكثر الناس زمالة له وحتى أقربهم إليه من أهله وأصدقائه،أقسموا بأنهم يجهلون الكثير من خصوصيات هذا الرجل، الذي رحل دون أن يترك وراءه مالاولا أملاكا ولا حتى أولادا، بل ترك مواقف وأقوالا لا زالت تصنع الحدث في كل مناسبة تمربها البلاد أو حتى بعض البلدان الأخرى، ولعلٌ ما أدهشنا خلال محاولتنا اقتحام القلعةالحصينة للبحث في خصوصيات الرئيس الراحل هواري بومدين، أن أهله وأفراد عائلتهلازالوا يؤمنون بأن التطرق لخصوصيات الزعيم من الطابوهات التي لا يجب أن تكسر مدىالحياة، فالرجل لم يكن ككل الرجال، بل هو حالة خاصة لا تتكرر .. نعم هكذا يؤمنون.
تعود الذكرى 36، وتعود معها نفس الأسئلة من هو بومدين؟ كيف وصل للحكم وهو دونالثالثة والثلاثين، وكيف رحل وهو دون السادسة والأربعين؟ ولا جواب سوى عن كيف ولد،فمسقط رأسه هو دوار بني عدٌي بمشتة العرعرة ببلدية مجاز عمار حاليا، بتاريخ 23 أوت1932، من والده الحاج ابراهيم بوخروبة ووالدته تونس بوهزيلة، ومسجل ضمن سجلاتالحالة المدنية ببلدية عين احساينية التي أصبحت حاليا تحمل اسمه الثوري هواري بومدين،وهي البلدة التي لم يبق فيها أي فرد من عائلة بوخروبة.
بومدين كان أحمر الشعر أزرق العينين
كان صعبا على هواري بومدين، أن يقود القارة السمراء، فعندما رأس الاتحاد الإفريقي ثاررئيس الزائير في ذلك الوقت، وتساءل كيف لرجل أشقر، بعينين زرقاوين يقود القارةالسمراء، التي يقطنها أصحاب البشرة السوداء، ولكن بومدين ردّ عليه بأن دمه أسمر،وصبر إلى أن أصبح رمزا إفريقيا وهو في ربيع العمر.
الحاج عمي علي بوهزيلة ابن خال الزعيم الراحل ورفيق طفولته، والذي وجدناه في حالةصحية صعبة، بعد تقدمه في العمر، لم يبخل علينا بشهادته رغم المرض، حاولنا إرجاعهبسنوات عمره الطويلة إلى طفولته، ليتذكر بعض المشاهد عن طفولته وطفولة ابن عمتهمحمد بوخروبة، فأسرد بالقول: بومدين كان متميزا بسلوكه وتصرفاته من بين كل أفرادالعائلة، حيث كان انطوائيا، متشددا وجادا في معاملاته، حتى في اللعب، لا يحب السخريةوالاستهزاء، كان منذ الصغر حالما، ناقما على الاستعمار الفرنسي، وأبناء الكولون، كان فيشخصيته شيء لم نكن نفهمه في ذلك الوقت ـ حسبه ـ، قبل أن يضيف عمي علي بوهزيلة،بأنه ومع مرور السنين تبيّن أن محمد بوخروبة كان متميزا في كل شيء وأن قوة شخصيتهصقلتها الظروف الاجتماعية الصعبة التي ترعرع فيها، كونه ينحدر من عائلة كثيرة العددوبسيطة ماديا، يعتمد فيها والده الحاج ابراهيم على الفلاحة في معيشته، وتعبر بصدق عنمدى تعلقه بالجزائر.
أما الحاج مصطفى سريدي الذي رحل عنٌا منذ فترة قصيرة، فقد خصّ الشروق اليومي فيرحلة البحث للغوص في بعض خصوصيات الراحل هواري بومدين، رفيق دربه في الدراسة،وذكر لنا أنه تعرف على محمد بوخروبة في مدرسة ألومبير والتي أصبحت حاليا تسمىبإكمالية محمد عبده بقلب مدينة ?المة، وذكر المرحوم مصطفى سريدي، أن الطفل محمدبوخروبة، عندما بلغ سن السادسة من عمره، سنة 1938 حلٌ بمدرسة آلمبير بمدينة ?المة،قادما إليها من مشتة العرعرة حيث كان قد حفظ جزءا من القرآن، ليكمل دراسته النظامية فيذلك الوقت، وكانت مدرسة آلمبير مقسمٌة إلى قسمين، قسم خاص بأبناء المعمرين والكولونوأبناء الأغنياء والأعيان، وقسم آخر مخصص للآهالي من عامة الناس، ومن الطبيعي أنيكون محمد في القسم الثاني.
وعلى الرغم من ذلك كان يدرسٌه المعلم الفرنسي المسمى سيغالا، الذي تم استدعاؤه فيمنتصف العام الدراسي لأداء واجب الخدمة الوطنية، فاستخلفه وقتها معلم فرنسي آخر يدعىلوروا، وهو المعلم الذي لاحظ أن محمد بوخروبة، كان سابقا لجيله، إذ كان سريع الحفظوالفهم، وأنه يجتاز كل الامتحانات بسهولة مطلقة، كما أنه كان يبدو أنيقا، رغم حضوره إلىالمدرسة حافي القدمين أو مرتديا نعلا باليا مع قشابية الصوف، التي نسجتها له والدته تونسبوهزيلة في الدشرة بمشتة العرعرة، ولم تغادره خلال مرحلته الدراسية، ولأن محمدبوخروبة كان أطول أترابه في الصف الابتدائي، فقد زادت قشابية الصوف من أناقته، وكانتجد لائقة على هندامه، وزاد لونها البني في جمال الطفل الأشقر صاحب العينين الزرقاوين،والتي كان ينظر بهما رغم صغر سنٌه في ذلك الوقت بنظرات جد حادة، كنا نظن في البداية أنهاجدّية مبالغ فيها.
كان يصرّ على حضور ملتقيات الفكر الإسلامي
مهما قيل عن ميولات بومدين نحو المعسكر الشرقي بما في ذلك من تناقضات فكرية وحتىعقائدية، فإن التاريخ سيشهد على أن الراحل وفّر جوا فكريا إسلاميا راقيا لم تعرفه الجزائرأبدا، وهو ملتقيات الفكر الإسلامي التي سلّم مشعلها لمفكرين كبار في الجزائر مثل أحمدطالب الابراهيمي ومالك بن نبي ونايت بلقاسم وأحمد حماني، وكان بومدين يصرّ على أنيحضر افتتاح كل ملتقى أو يكتب بيده رسالة للمحاضرين، ودعا إلى الملتقى كبار العلماء مثلالشيخ المرحوم سعيد البوطي والمرحوم محمد الغزالي والشيخ يوسف القرضاوي وحتىموسى الصدر الشيعي الذي اختفى في رحلة لغز من ليبيا إلى إيطاليا، وخلال أيام الملتقى كانيقيم ملتقيات موازية وخاصة، يلتقي فيها مع كل عالم ويبقى رفقته لعدة ساعات، ناهيك علىأنه صاحب فكرة إنشاء الجامعة الإسلامية الأمير عبد القادر بقسنطينة.
محمد بوخروبة لم تمنعه الدراسة في مدرسة آلمبير الفرنسية، من الاستمرار في حفظالقرآن، حتى ختمه، وكان في العطلة المدرسية، يرجع إلى دوار بني عدٌي ليعلم أطفال الدشرةحفظ القرآن، كما حفظه هو بتحايله على معلمٌه الفرنسي، حيث كان بحسب المرحوم مصطفىسريدي يضع دفترا كان قد دوٌن عليه آيات قرآنية وسط كراس اللغة الفرنسية، وعندما ينشغلالمعلم في تحضير الدروس أو تصحيح الكراريس، يقوم محمد بقراءة تلك الآيات سرا، دونأن ينكشف أمره من أحد سوى زميله سليمان بن عبدة الذي كان يجالسه في نفس الطاولة.هذا التصرف أكد بعد السنوات الطويلة بأن محمد بوخروبة الفتى، اعتاد على عدم تضييعشيء من وقته، لأنه كان يعلم قيمة ذلك الوقت، ومعاناته بعيدا عن عائلته التي بقيت مقيمةفي دوار بني عدٌي بينما استقر هو عند إحدى العائلات بمنطقة باب السوق بمدينة ?المة،مقابل أن يدفع لها والده الحاج ابراهيم شيئا من المؤونة والقمح.
وقد استقر محمد بوخروبة حسب ابن خاله علي بوهزيلة في بادئ الأمر بمنطقة باب السوقثم عند عائلة أخرى بمنطقة باب سكيكدة وقضى آخر سنة من دراسته في مدرسة آلمبير عندعائلة بحي بومرشي عرب، ويتذكر كبار السنٌ بهذا الحي العريق بوسط مدينة ?المة، كيف كان محمد يحفظ دروسه بمدخل الحي، أمام المارة، ولم تلهه أبدا ألعاب الطفولة حسب عميعلي بوهزيلة عن دراسته، التي تفوّق فيها، كتفوقه في حفظ القرآن الذي ختمه عند الثالثةعشر من عمره وتحديدا سنة 1947 .
المرحوم الشيخ مصطفى سريدي ذكر لنا في شهادته، أن الفتى محمد بوخروبة، كان سابقالجيله، يتميز بين أقرانه بقوة الشخصية، مواظبا على دروسه وأداء كل واجباته، حتى لا يمنحأي فرصة للمعلمين الفرنسيين لإهانته بأي كلمة قد تجرح مشاعره وتمس بكرامته، أوالاعتداء عليه بالضرب، ويتذكر أترابه وزملاؤه في القسم التأهيلي الثالث عندما لم يتمكنمحمد من مراجعة أحد الدروس، وعندما شرع المعلم الفرنسي في توجيه الأسئلة للتلاميذ،حفظ منهم الطفل الفطن، وبذكاء خارق شرع في رفع أصبع يده للمشاركة في الإجابةالصحيحة، وهو ما جلب انتباه معلميه الفرنسيين، خاصة وأنه كان حسب الشيخ مصطفىيتحصل دائما على النقاط الجيدة في امتحانات آخر السنة، وأنه لم يسقط ولا مرٌة في مرحلتهالدراسية.
محمد بوخروبة الذي أصبح فيما بعدا مجاهدا ثوريا ورئيسا للجمهورية الجزائرية، كان فيصغره يتميز بالأنفة والكرامة، ولم يضع يوما قدميه في المطعم المدرسي، المخصص للتلاميذالمعوزين، وأولئك الذين يقطنون خارج مدينة ?المة كحال محمد الذي كانت تتوفر فيه كلالشروط للاستفادة من مختلف المزايا التي يوفرها الفرنسيون للتلاميذ، إلاٌ أنه كان يرفضذلك رفضا قاطعا، وحدث مرٌة بأن قام مدير مدرسة آلمبير المدعو فاني بتسجيل خمسة تلاميذلتمكينهم من أحذية أو نعال، ومن بين المسجلين كان محمد بوخروبة، وبعد أسبوع جلبالمدير مجموعة من النعال لتوزيعها على التلاميذ المسجلين، لكن محمد بوخروبة رفضاستلامها، وهو ما أثار تساؤل مدير المدرسة آنذاك وعبر عنها بالقول إنه جلب تلك الحصةمن النعال حتى لا يمشي التلاميذ النجباء على الأقل حفاة، كما كان الشأن لمحمد.
أصيب في رجله خلال مظاهرات الثامن ماي
عندما سألنا ابن خال الرئيس الراحل محمد بوخروبة، عمي علي بوهزيلة، عن حقيقة الروايةالتي تتحدث عن إصابة ابن عمته برصاصة طائشة في أحداث الثامن ماي 45، لم يقدم لناإجابة واضحة، وقال إنه لم يتذكر تلك الحادثة، التي تداولها عدد من الكتاب والمؤرخين الذينخطٌوا لتوثيق حياة هواري بومدين، وذكر عمي علي أنه يتذكر عديد المواقف الشجاعة لابنعمته الذي قال إنه كان يكره الفرنسيين وكل ما هو فرنسي، بدليل أنه عندما سافر إلىالقاهرة رفقة محمد الصالح شيروف للالتحاق بالأزهر، عاد بعد سنوات مناضلا وثوريا فيوجه فرنسا، وتحدثت عديد الروايات أن محمد بوخروبة وخلال تواجده في مدرسة آلمبيرب?المة سنة 1945، وقعت أحداث الثامن ماي وكان قد أنشد مثل باقي أترابه وسط جموعالمواطنين الذين خرجوا في مسيرة ذلك اليوم المشؤوم مرددا يحيا مصالي، وغيرها منالعبارات التي جعلت عساكر فرنسا يطلقون النار في كل الاتجاهات، ليفرٌ بعدها الصبي محمدبوخروبة وسط أترابه باتجاه أحد الأحياء القريبة ليقفز من أعلى سور المدرسة معتمدا علىالأعمدة الكهربائية الملاصقة للجدار، فسقط على علب السردين الصدئة والتي كانت وقتهاتغطيها أوراق الشجر الشائكة، ما تسبب في إصابته بجروح بليغة على مستوى الساق،وأجبره على العودة بعد أيام قليلة من تلك الأحداث مرتديا قشابيته الصوفية بنية اللون لإخفاءتلك الجروح، على الرغم من ارتفاع درجات الحرارة في شهر ماي.
هذا ما روته شهادات بعض زملائه في الدراسة، لكن بعض الشهادات الأخرى ذهبت على حدالتأكيد أن محمد بوخروبة الذي شارك في مسيرة الثامن تعرض لإصابة على مستوى الساقمن رصاصة طائشة، وتلقى على إثرها العلاج في المستشفى، وهي الرواية التي لم نجد لهاأي تأكيد حتى لدى المقربين منه.
محمد بوخروبة كان رجوليا في تعاملاته منذ نعومة أظافره، كان يتميز بروح القيادة، أصبحمعلما للقرآن الذي علمٌه لأبناء دشرته ولم يتجاوز من العمر الرابعة عشر، كان صبورا ولميسمعه أحد من زملائه في الدراسة يشتكي بردا أو حرا أو جوعا، والأهم من كل هذا ابتعادهعن والديه للدراسة في مدينة ?المة في سن مبكرة لينتقل بعدها إلى قسنطينة التي له فيهاحكايات أخرى مع أصدقائه والتي انطلق منها في رحلته الطويلة والشاقة إلى القاهرة التيسافر إليها مشيا على الأقدام برفقة محمد الصالح شيروف.
وأكد رفيقا الدرب علي بوهزيلة ومصطفى سيريدي أن أخلاق هواري بومدين كانت تدفعهدوما للاعتراف بفضل الغير عليه، وهو ما جسده في سياسته وعلاقاته مع الدول، كما جسّدذلك في زيارته إلى قسنطينة حيث طلب الالتقاء بمعلمه الشيخ الطيب، الذي احتضن بومدينخلال تواجده بمدينة الجسر العتيق وقبل السفر إلى القاهرة، بل أنه طالب حتى بتكريمه،وعندما زار الشيخ الطيب الجزائر العاصمة سنة 1976 وهواري بومدين رئيسا للجمهورية،وضع هذا الأخير تحت تصرفه سيارة خاصة من باب كرم التلميذ لأستاذه.
وللأسف فإن ثقل السنين على عديد الشخصيات الذين لم تسمح لنا ظروفهم الصحية بجمعشهاداتهم وجعلتنا نكتفي بهذا القدر مما سجلناه عن طفولة هذا الطفل الذي كان يدرس حافيالقدمين وينظر إلى ماسحي الأحذية بعين مشفقة، قبل أن يثور على واقعه المر ويصبح رئيساللجزائر وهو في عز الشباب ثائرا على الفقر والتخلف ومهنة مسح الأحذية التي رسخت فيذاكرة طفل لم يكن يمتلك حذاء يذهب به لطلب العلم.
* تقرؤون في الجزء الثاني عن ذكريات بومدين في القاهرة وعن رحلة الجنون مشيا علىالأقدام من جامع الكتانية بقسنطينة إلى الأزهر الشريف، وانتمائه لجماعة الإخوانالمسلمين
//////////////////////////////////
الوجه الآخر للرئيس الراحل / الجزء الثاني
بومدين سافر للدراسة في الأزهر دون علم والديه
2014/12/26(آخر تحديث: 2014/12/26 على 18:44)
[الرئيس الراحل هواري بومدين]
الرئيس الراحل هواري بومدين
صورة: (الأرشيف)
قطع 4500 كلم لمدة 100 يوم مشيا على الأقدام
احترف التنجيم قبل الرئاسة و"الجاحظ" أنقذ بومدين من الذئاب
لم تكن قسنطينة المحطة الثانية في دراسة الطفل الصغير، محمد بوخروبة، لتكفيه لينهي شغفه بنهل العلم، فقد كانت أحلامه أكبر من ذلك، كان الطفل محمد بوخروبة مستعدا للمخاطرة بحياته من أجل تحقيق حلم العمر، وهو الدراسة في الأزهر الشريف، بالنسبة إليه لم تكن كل الطرق تؤدي إلى روما، وإنما تؤدي إلى القاهرة، حيث شعّ بعض الأمل، بعد الحراك السياسي والنهضة العلمية التي عرفتها مصر، وكان لابدّ لبومدين أن لا يكون جزءا منها، بل محرّكا لها، ومن دون أي تردد قرر القيام بأول وأغرب مغامرة في حياته، وهي أن يقطع 4500 كلم مشيا على الأقدام، في مدة لم تقل عن مئة يوم، فوجد صديق طفولته، الأستاذ محمد الصالح شيروف، الذي مازال على قيد الحياة، ويبلغ من العمر 79 سنة، ويقطن حاليا بحي باب القنطرة بعاصمة الشرق الجزائري.
لم يتناول اللحم في مرحلتي الطفولة والشباب
يصغر محمد الصالح شيروف، الرئيس الراحل بثلاث سنوات، فهو من مواليد 1935 بمدينة وادي زناتي بولاية ?المة، ولكنهما في نفس فصيلة عشاق العلم، فقد جمعتهما نفس الولاية، وأيضا كانا معا ابني فلاحين، ومن الدراسة في زاوية بوحجر بولاية أم البواقي، ثم الزاوية الحملاوية بولاية ميلة، توجّه محمد الصالح إلى مدينة ?المة، وفي إحدى مقاهيها شد نظره تواجد طفل طويل القامة كان يحضن محفظة، ولم يكن هذا الطفل سوى محمد بوخروبة، تجاذب الصغيران أطراف الحديث، كان محمد بوخروبة يدرس في السنة الثالثة ابتدائي في مدرسة فرنسية، حتى لهجته التي يتحدث بها كانت خليطا بين العربية والفرنسية، أصبح يسمع عن العائدين من قسنطينة وهم يحملون حقائب علم باديسية، ولم يعد من همّ له سوى السفر إلى قسنطينة للنهل من العلم، ولا يهمّ الفقر الذي كان يمزق عائلته، واشترك معه الصغير محمد الصالح شيروف في نفس الانشغال، وبدأ الصغيران يسألان عن كيفية الانتساب إلى إحدى المدرستين، إما الكتانية أو مدرسة ابن باديس، وهما مدرستان عربيتان في قسنطينة، يدرس فيهما المئات من أبناء الشرق الجزائري، وهنا بدأت المغامرة، فمنطقة ?المة كانت موصدة الأبواب سياسيا، وكانت حركة انتصار الحريات الديموقراطية وجمعية العلماء المسلمين، قد بلغتا كل المناطق .
وكان لابد للطفلين الصغيرين من متنفس سياسي وعلمي، ولم يجدا أحسن من قسنطينة، فأسرعا للانتساب لمدرسة الكتانية، وكان غالبية تلامذتها ضمن حركة انتصار الحريات، وأشرف عليهما حينها المرحوم علي كافي، الرئيس السابق للمجلس الأعلى للدولة، والصديق الحميم قبل ذلك للتلميذ هواري بومدين، وبقيت في مخيّلة هواري بومدين أن تكون قسنطينة محطة للسفر إلى بلاد أخرى.
انتسب هواري بومدين للدراسة في قسنطينة في الموسم الدراسي 1948 ـ 1949 فأجريت له مسابقة، وسجل في السنة الثانية متوسط كان عمره قد بلغ 15 سنة، وعمر صديقه محمد الصالح 12 سنة، طرح المشرفون على المدرسة على هواري بومدين أسئلة في اللغة العربية، وعلوم الدين، فكان جوابه صحيحا ومدققا، فنال شرف الانتساب لمدرسة الكتانية التي تخرج منها من جيله الجنرال الطيب دراجي، والمرحومين هجريس ومحمد الصالح يحياوي، وكلهم عملوا مع بومدين في سنوات حكمه، فاكترى بومدين بيتا في دار بن جلول في المدينة القديمة، وبدأ رحلة العلم والسياسة.
من غرائب الصدف أنه عندما توفي الراحل هواري بومدين في أواخر 1978 كان كل أساتذته مازالوا على قيد الحياة، ومنهم بالخصوص الذين تتلمذ على أيديهم في مدرسة الكتانية بقسنطينة، مثل الشيخ بولحلايس، والمجاهد الطيب بن لحنش، والشيخ عيسى، والشيخ لفقون الذي درّسه في مادة التوحيد، والأستاذ بولحروف في العلوم الطبيعية، وهم الذين ساعدوه علميا في الحصول على شهادة الأهلية، بإشراف لجنة من جامع الزيتونة، لأن معهدي الكتانية وابن باديس كانا تحت إشراف الزيتونة.
كانت أسابيع الدراسة تمرّ، وتشبث بومدين بالتضحية بكل شيء من أجل دراسته يتقوى، إلى درجة أنه لم يكن يزور والديه سوى في العطلة الصيفية، بالرغم من أن المسافة ما بين بيته في عين احساينية بولاية ?المة وقسنطينة لا تزيد عن المئة كيلومتر، ولم يكن يرسل لأهله حتى الرسائل، كان بذلك يريد تعويد نفسه على أن يعيش بعيدا عن أهله بآلاف الكيلومترات، ولم تكن عائلة بومدين قادرة على أن تمنحه رغيفا وحذاء وكتابا، فالفقر قد بلغ الحلقوم، في بيت أب لا يملك في الدنيا سوى معزتين يعيش بهما، ولا يقدر محمد بوخروبة حتى على تغيير ثيابه، فيرتدي طوال السنة قشابية وكبوسا وسروالا وحذاء واحدا دون تغييرها، كان الطعام الوحيد الذي يتناوله مع أصدقائه في دار بن جلول هو البطاطا أو المرق، فقد أمضى ثلاث سنوات في دراسته في قسنطينة، ولم يحدث وأن تناول اللحم، كما بصم على ذلك رفيق دراسته محمد الصالح شيروف.
لم يهتم الطفل بومدين بالمقرر الدراسي فقط، ظل يستلف من رفاقه وأساتذته الكتب التاريخية باللغة العربية، ويقضي الليل معها، حتى يبلغ آخر سطر منها مع إشراقة شمس اليوم الموالي، كان يهوى قراءة الكتب التاريخية لجورجي زيدان، ومصطفى صادق الرافعي، ومصطفى محمود العقاد، وطه حسين، وأحمد أمين، والمنفلوطي، كان شغوفا، خاصة بكتب التاريخ الإسلامي، التي روت له أمجاد الأمة الإسلامية، وفتوحاتها، وخلافتها العادلة، وقد اعترف بعد ذلك كبار العلماء الذين تعرفوا عليه بمدى الثقافة الواسعة لهواري بومدين، ومنهم عبد الحميد كشك، الذي كان ينتقد ويقصف كل الزعماء الذين مالوا للمعسكر الشرقي، إلا هواري بومدين.
استلهم من حجّ عمه
لم يكن بومدين قد أكمل الثامنة عشرة من العمر، في خريف 1951، ولم يكن في ذاكرته سوى سفرية عمّه لأداء فريضة الحج مشيا على الأقدام، فرسم خارطة السفر بالكامل في كراسة، وبدأ في بيع أثاث البيت، وكل أشيائه لأجل السفر، وبقي مصرا على أن لا يخبر أحدا من أهله حتى لا يمنعوه، وإن فشلت الخطة المرسومة وتم إعادتهم إلى الجزائر، فلا أحد سيعلم بذلك، وبدأ التنفيذ رفقة صديقين آخرين، هما محمد العربي مومني ومحمد الأخضر.
باع هواري بومدين متاعه في سوق مازال قائما لحد الآن، تحت جسر سيدي راشد بقسنطينة، حتى كتبه ضحى بها، كان الاتفاق ألا عودة بعد السفر، لأنه سيكون عارا على العائلة أمام أهل الدوّار، فاستخرجوا بطاقة تعريف وبطاقة دراسية وشهادة الأهلية، وبدأت الرحلة من دون مال، ولا وثائق إدارية خاصة بالسفر، إضافة إلى أن مسار السفر كله مليئا بالخطر، فتونس كانت تحت الانتداب الفرنسي، وفراز الليبية تحت الانتداب الفرنسي، وطرابلس تحت السيطرة الإيطالية، وبنغازي تحت الانتداب الإنجليزي، كما أن القاهرة عاشت عام 1951 حرائق مهولة، قيل حينها إن الملك فاروق والمخابرات الإنجليزية هي التي هندستها، لأجل أن يهتم بها المصريون، وينسوا مشاكلهم الحقيقية، المهم أن ظروف السفر ومسار الرحلة لم يكن إطلاقا في صالح المغامرين، ومع ذلك كان بومدين قد قرّر، وبدأ منذ تلك اللحظة زعامته التي تحوّلت بعد ذلك إلى حقيقة، منذ أن تولى الحكم في جوان من عام 1965.
حمل الشباب الأربعة والذين كان يقودهم هواري بومدين، رسالة من مكتب حركة الحريات الديمقراطية، وطاروا إلى تبسة، حيث استقبلهم أحد المسئولين، فمكثوا هناك لمدة ثلاثة أيام، ثم أرسل معهم دليلا رافقهم حتى بلغوا الحدود التونسية، ومن الصدف الغريبة أيضا، أن الرحلة إلى القاهرة مشيا على الأقدام، بدأت في الفاتح من نوفمبر من عام 1951.
كانوا أربعة فقط، وخامسهم المجهول، ولم يكن منهم واحد سبق له وأن شاهد الصحراء في حياته، لأنهم جميعا من أبناء الشمال الشرقي، وكان دليلهم الوحيد هم البدو الرحّل، باتوا في خيامهم المصنوعة من الشعر، وأكلوا طعامهم ورغيفهم المطهي على الرمل، وشربوا حليب النوق الذي قدموه لهم، فلا شاغل لبال بومدين سوى كيفية بلوغ الهدف، خاصة عندما بلغوا طرابلس، حيث المسافة بين العاصمة الليبية وبنغازي لا تقل عن 900 كلم، ووُجدت في ذلك الحين في بداية خمسينات القرن الماضي ثلاث قوات أجنبية، خاصة أن عدد الأربعة من المغامرين، تقلص بعد أن توقف مسار الرفيقين مومني ومحمد الأخضر في طرابلس، ولم يبق في مغامرة بلوغ القاهرة، وخاصة الطريق بين طرابلس وبنغازي غير هواري بومدين ومحمد الصالح شيروف، كانا يسيران في البراري دائما، ويتفاديات الطرق الرسمية، وكل الخوف من الحيوانات المفترسة والزواحف التي كانت تطاردهم وتفاجئهم ليلا، إضافة إلى بعض سكان الصحراء الليبية.
يقرأ القرآن على الموتى في ليبيا
وفي مدينة بنغازي تغيرت لهجة الليبيين، وكان واضحا تغيّر التقاليد أيضا فهم أشبه بالمصريين، فظنوا بومدين من المغاربة، فطلبوا منه إن كان يتقن أعمال الدجل والشعوذة وخاصة ضرب الرمل، وكانوا يطلبون من بومدين الحافظ لكتاب الله أن يقرأ القرآن على موتاهم، أي ما يسمى بالفدوة، وقراءة الكف أي التبراج، أما خط الرمل فهي قراءة المستقبل ضمن تنجيم وشعوذة يمارسه أهل الصحراء، كان بومدين مستعدا لمزيد من التضحية لبلوغ هدف بلوغ مصر، فكان يستجيب لكل الطلبات، يقرأ على الموتى، وكلما قدموا لهم الأكفّ يقرأ الخطوط المرسومة على الكف، ويضرب خط الرمل وكأنه خبير تنجيم.
ويتذكر الأستاذ محمد الصالح شيروف شتاء الصحراء الليبية، كان الصقيع والجوع والخوف من الذئاب يتضاعف، والشابان ينامان في العراء، فيدفن الراحل هواري بومدين نفسه في الرمل، ويترك رأسه عاريا حتى لا تلسعه الأفاعي والعقارب التي لم يكن البرد ليوقف زحفها، وبحثها عن فريستها، إلى أن أبان بومدين مرة أخرى عن ملكات ومواهب في ترجمة ما قرأه إلى أفعال، عندما تقدّم منه ذات ليل قارس ذئب مفترس، فسكن الخوف صاحبه، ولكن بومدين بكل هدوء، أخرج الكبريت وشمعة وأشعلها، فعاد الذئب من حيث أتى مسرعا، ولم يكن بومدين مخترعا لطريقة تهرّب الذئاب، وإنما طبّق ما قرأه في كتاب الحيوان للجاحظ، وهي ليست الحادثة الوحيدة التي تؤكد بأن بومدين يبتلع ما يقرأه في أمهات الكتب العربية والعالمية، وإنما ظهر ذلك عندما قاد البلاد، فكانت خطبه جميعها معجونة بكتب أبو فرج الأصفهاني والمتنبي والجاحظ.
قتلت رحلة القاهرة في بومدين شهية الأكل نهائيا، فقد كان يمضي رفقة صاحبه أربعة أيام من دون أن يأكلا لقمة واحدة، بل مجرد شربة ماء، إلى أن وصلا إلى مدينة بنغازي، وانتظرا هناك عشرة أيام صديقيهما محمد العربي مومني ومحمد الأخضر، فربما قررا اللحاق بهما، ولما يئسا من قدومهما، بدأت رحلة الرمق الأخير إلى القاهرة، فالهدف اقترب، لأن المسافة لم تعد تزيد عن 200 كلم فقط، كان بومدين في منتهى الغبطة، فقد قطع أكثر من 4000 كلم، ولم تبق سوى بضعة أيام وبضعة كيلومترات، ليحقق أول أحلام عمره وهو الوصول إلى القاهرة والانتساب لجامعة الأزهر، وتنفس الحرية بعيدا عن الاستعمار الفرنسي.
وفي جبال درنة الليبية، تراءت لبومدين ملامح منطقته ?المة، التي ظل يتحدث دائما عن أشجارها وهوائها النقي، اقترح بومدين على صديقه محمد الصالح شيروف، السير على حافة الأسلاك الشائكة، نصح بومدين رفيقه بأن يواصل مساره إلى القاهرة إذا مات هو، سارا ثلاثة أيام من دون توقف نحو مصر، من دون أكل لقمة واحدة، حتى إن الأحذية التصقت في جلد أقدامهما، إلى أن بلغا مدينة الإسكندرية، فأكملا الرحلة إلى القاهرة، ولكن هذه المرة بوسائل النقل الجماعية من حافلات وقطار، كما بقيا في زاوية سيدي البدوي مدة ثلاثة أيام، ووصلا القاهرة في 15 فيفري 1952، بعد أن قطعا 4500 كلم في ظرف ثلاثة أشهر، وحتى لا ننسى، فإن الرحلة بدأت ذات الفاتح من نوفمبر 1951 .
الغريب أن بعض السينمائيين المصريين يبحثون عن القصة الكاملة لهاته المغامرة لأجل تحويلها إلى فيلم سينمائي، بينما لا أحد عندنا اهتمّ بها، بالرغم من أنها تعني أحد رجالات التاريخ الجزائريين، ناهيك عن الجانب التشويقي فيها، وحتى لا ننسى أيضا، فإن قسنطينة التي منها انطلقت هاته المغامرة، ستحتضن تظاهرة عاصمة الثقافة العربية قريبا.. ولكن لا حياة لمن تنادي..
[الرئيس الراحل هواري بومدين] [الرئيس الراحل هواري بومدين]