فضاءات قريتي كفر عبد الأمين والشهيد مصطفى حموده
إعلانات


بين الطبيب والمريض


مهنة الطب من أشرف المهن شريطة أن يمارس الطبيب مهنته بإخلاص وإتقان ، وأن يلتزم الطبيب بالخلق الكريم .
وعلى الطبيب أن يدرك أنه مهما بلغ علمه ، فإن أسرار الجسم البشري لا يزال أكثرها مغلقا ، ومازال الطب عاجزا عن إدراك العديد من تلك الأسرار .
ويعبر عن ذلك عنترة العبسي بقوله :
يقول لك الطبيب دواك عندي إذا ما جس كفك والذراعا
ولو عرف الطبيب دواء داء يرد الموت ما قاسى النزاعا
ولا يستطيع الطبيب ، مهما أوتي من علم وخبرات ، أن يدفع أمر الله إذا حل بالمريض . وكثير منا يعرف حالات مات فيها الطبيب قبل مريضه ، بل ربما مات بنفس المرض الذي كان يعالج مريضه منه . وفي ذلك يقول الشاعر :
ما للطبيب يموت بالداء الذي قد كان يبرئ منه فيما قد مضى
مات المداوي والمداوى والذي جلب الدواء وباعه ومن اشترى
أعرف طبيبا كان يعمل معنا في المستشفى ، كتب في ملف مريضه أن مرضه خطير
وكان المريض مصابا بالسرطان - وأنه ربما لا يعيش أكثر من أشهر معدودات .
ولم تكد تمضي تلك الأشهر المعدودات حتى مات الطبيب بسرطان انتشر في جسمه ، ومرت سنوات وذاك المريض بخير وعافية . تأملت فيما كتب ذلك الطبيب وقلت :
يا سبحان الله !! وتذكرت قول الشاعر :
وكم من مريض نعاه الطبيب إلى نفسه وتولى كئــيـبا
فمات الطبيب وعاش المريض فأضحى إلى الناس ينعي الطبيبا
وتذكرت قول علي بن الجهم :
كم من عليل قد تخطاه الردى فنجا ومات طبيبه والعود
والأعمار كلها بيد الله . ( وما تدري نفس بأي أرض تموت ) . ولا تعرف من يسبق إلى الموت : الطبيب أم المريض ؟!
ويقول الخليل بن أحمد الفراهيدي مذكرا بالاستعداد لذلك اليوم :
وقبلك داوى الطبيب المريض فعاش المريض ومات الطبيب
وكن مستعدا لدار الفناء فإن الذي هو آت قريــب
فإذا ما سمع مريض من طبيبه أن حياته غدت قصيرة ، وأن أيامه أصبحت معدودات ـ فلا ييأسن ولا يقنط من رحمة الله . فما اطلع الطبيب على غيب ، ولا علم أن أحدا يموت غدا ، إنما هو تخمين الطبيب حسب المعطيات العلمية المتوفرة لديه .
الشفاء بيد الله :
أعجبني مثل بلجيكي يقول " الله يشفي والطبيب يؤجر " . والله تعالى يقول في محكم كتابه منذ أن خلق الخلق : ( وإذا مرضت فهو يشفين ) .
ويذكر ابن نباته السعدي أن تناول الدواء لا يمنع قضاء الله ، فالشفاء بيد الله وحده :
نعلل بالدواء إذا مرضنا وهل يشفي من الموت الدواء ؟
ونختار الطبيب وهل طبيب يؤخر ما يقدمه القضاء ؟
وما أنفاسنا إلى حساب ولا حركاتنا إلا فناء
ويقول ابن مقلة :
يمنيني الطبيب شفاء عيني وهل غير الإله لها طبيب
ويؤكد الفرزدق ذلك المعنى بأن الشفاء بيد الله وحده لا بمن يعطيك الدواء :
يا طالب الطب من داء تخوفه إن الطبيب الذي أبلاك بالداء
فهو الطبيب الذي يرجى لعافية لا من يذيب لك الترياق بالماء
ولا شك أن كل إنسان ، كائنا من كان ، يلجأ في ساعات اليأس والشدائد إلى الله وحده . يقول الربيع بن خيثم :
فأصبحت لا أدعو طبيبا لطبه ولكنني أدعوك يا منزل القطر
ولا بد من الإشارة إلى أن على الطبيب أن يمنح المريض إحساسا بالأمل والرجاء ، وأن يبعث في نفسه الطمأنينة ، فإن ذلك يساعده على الشفاء من مرضه ، والطمأنينة والسكينة تقوي جهاز المناعة عند المريض ، وتشد من عزيمته ، وترفع معنوياته .
وحديثا صدر كتاب أمريكي للدكتور هربرت بنسون بعنوان Timeless healing يتحدث عن كيف أن الإيمان يقوي مناعة المريض ويقهر الأمراض .
والأطباء - كما يقول أخي وصديقي الدكتور زهير السباعي - يختلفون في تعاملهم مع المريض بمرض ميؤوس من شفائه ..
فهناك من يطمئن المريض ، ويفتح له طاقات الأمل ، ويرجيه بالشفاء ، وقد يكذب عليه أحيانا .
وهناك من يواجه مريضه بالحقيقة سافرة ، ويترك المريض يتفاعل مع الحدث ، على أمل أن يتغلب على المشكلة ويواجهها
وهناك من يداري ويواري ويتخلص من الموقف" .
يقول أبو العلاء ، وهو يسأل أحد الأطباء أن يتريث فلا يخبر المريض بقرب موته ، عسى الله أن يشفيه من مرضه :
نعى الطبيب إلى مضنى حشاشته مهلا طبيب فإن الله شافيه
أجرة الطبيب :
يستحق الطبيب - وكل صاحب مهنة - أجرة على عمله وخدماته . وقد حل الإسلام مسألة أجرة الطبيب حلا عادلا عظيما . قال تعالى : ( وإذا مرضت فهو يشفين )
فالشفاء بيد الله لا بيد الطبيب ، ولذلك فإن أجرة الطبيب على أساس ما يبذل من جهد لا على الشفاء ، لأن الشفاء خارج عن قدرته . ولو جعل الله الشفاء بيد الطبيب ، لما استطاع الإنسان أن يوفي للطبيب أجره ، بل لما استطاعت الحكومات ذلك ، لأن الإنسان لا يقدر بثمن . ولا يحق للطبيب أن يمن على المريض بالشفاء ، وفي ذلك رفع لكرامة المريض .
الأطباء والإيمان :
والحقيقة أن الأطباء من أكثر الناس اطلاعا على أسرار ذلك المخلوق الذي سخر الله له ما في الأرض جميعا ، ثم دعانا الله للتفكر في تلك الأسرار . قال تعالى :
ويعجب أبو العلاء المعري من إلحاد بعض الأطباء فيقول :
عجبي للطبيب يلحد في الخا لق من بعد درسه التشريحا
ويقول الطبيب الشاعر عزت شندي موسى في ديوانه " مع الله ورسوله " :
فلقد رأى الإعجاز في الخلق الذي قد صور الخلاق في الحيوان
فالكبد يقظى حين أنك نائم وتبيت في عمل مع المصران
والعين تبصر في نظام معجز والمخ يعقل ما ترى العينان
والأذن تسمع في اتساق مذهل والعقل يفهم ما تعي الأذنان
فلتؤمنوا بالله ملء قلوبكم هل بعد هذا الكشف من برهان
ولعل من أبلغ القصص التي تروى في تأثير الإيمان على المريض قصة عروة بن الزبير
- وكان من أجل علماء المسلمين - لما أصر الأطباء على ضرورة قطع رجله بعد أن أصيب بمرض فيها . عرضوا عليه الخمر ليسكروه كي لا يحس بألم القطع فأبى ، وقال :
" إني سأدخل في ذكر الله ، فإذا رأيتموني استغرقت فيه فشأنكم بها .. وذكر الله ، فلما رأوه استغرق ، بدأت العملية ، وقطعوا اللحم بالسكين المحمى بالنار ( للتعقيم ) ، حتى إذا بلغوا العظم نشروه بالمنشار ، وهو يهلل ويكبر ، ثم حموا الزيت في مغارف الحديد ، حتى إذا غلى كووه بها فأغمي عليه . ولما أفاق الشيخ من غشيته ، رأى القدم في أيديهم، فأخذ يقلبها وهو يقول : أما والذي حملني عليك ، إنه ليعلم أني ما مشيت بك إلى معصية قط " .
مصارحة الطبيب :
وسواء كان المريض مصابا بمرض في جسده ، أو بهموم في نفسه ، فلا بد أن يشرح ذلك للطبيب . يقول المتنبي :
لا تكتمن داءك الطبيب ولا الصديق سرك المحجوبا
ويقول أبو تمام :
غير أن العليل ليس بمذمو م على شرح ما به للطبيب
ولعل البعض يفضل أن يبث شكواه إلى من أوقد النار في كبده . يقول الشاعر :
يا موقد النار إلهابا على كبدي إليك أشكو الذي بي لا إلى أحد
فهو الذي كان سبب الداء ، وهو المرجى للشفاء .
غلط الطبيب :
يرى بعض الفقهاء ألا يحاسب الطبيب على الخطأ إلا أن يكون فاحشا ، لا يجوز أن يقع من الطبيب أبدا . والمهم أن يثبت الخطأ باليقين لا بالظن ، وينبغي استشارة ذوي الخبرة في ذلك للتحقق من غلط الطبيب .
قال ابن الرومي :
غلط الطبيب علي غلطة مورد عجزت موارده عن الإصدار
والناس يلحون الطبيب ، وإنما غلط الطبيب إصابة الأقدار
وقال أحد الشعراء في نفس المعنى :
وإذا القضاء جرى بأمر نافذ غلط الطبيب وأخطأ التدبير
وقال صردر يوصي بألا يلام الطبيب إذا ما أدى واجبه ، فالموت داء لا دواء له :
نلوم الطبيب وما جرمه وداء المنية داء عقام
وحدوث الاختلاطات الجراحية أمر معروف في فن الجراحة . وهناك نسب محددة لكل اختلاط من الاختلاطات ، كالتهاب الجرح ، وعدم التحام الكسر ، وحدوث النزف بعد العملية وغير ذلك . ولكن البحتري يرى أن خياطة الجرح دون تنظيف أو تعقيم تفريط من الطبيب :
إذا ما الجرح رم على فساد تبين فيه تفريط الطبيب
نصائح الطبيب :
ومن الناس من لا يستمع إلى نصائح الطبيب ، فينغمس في شهواته من طعام وشراب ، وإذا السقام يقف له بالمرصاد . يقول الشاعر خلف بن فرج الشهير بالسمير - وهو من شعراء الأندلس - :
يا آكلا كل ما اشتهاه وشاتم الطب والطبيب
ثمار ما قد غرست تجني فانتظر السقم من قريب
وقال ابن الرومي :
فإن الداء أكثر ما تراه يكون من الطعام أو الشراب
وهذا عين الحقيقة ، فإن أكثر الأمراض انتشارا الآن سببها الطعام والشراب ، فكثرة الطعام والشراب سبب للبدانة ، والبدانة سبب لكثير من الأمراض كارتفاع ضغط الدم والسكري وغيرها . كما أن كثيرا من التهابات المعدة والأمعاء التي تحدث يوميا عند ملايين الناس في العالم سببه عادة تلوث في الطعام أو في الشراب .
ويسخر المتنبي من الطبيب الذي يرجع مرضه للشراب والطعام ، ولا يدري أن تحديد الإقامة الذي فرض عليه هو الذي أضر بجسمه وأوهنه :
يقول لي الطبيب أكلت شيئا وداؤك في شرابك والطعام
وما في طبه أني جـــواد أضر بجسمه طول الجـمام
والحقيقة أن ألذ الطعام من لحوم وحلويات ومقبلات غنية بالدهون والكولسترول ، فالإفراط فيها يزيد من كولسترول الدم ، وقد يؤدي إلى تصلب الشرايين وتضيق شرايين القلب التاجية . يقول الشريف الرضي :
فوا عجبا للمرض والداء خلفه ومن حوله الأقدار والموت أمه
يسر بماضي يومه وهو حتفه ويلتذ ما يغذى به وهو سمــه
ولكن البعض يرفض الامتثال لأوامر الطبيب ونصائحه بالامتناع عن بعض أنواع الطعام، يقول أبو طالب المأموني وقد أصابه الاستسقاء :
فاحجبوا عني الطبيب وقولوا أنا بالطب والطبيب كفور
هات أين الكباب ؟ أين القلايا أين رخص الشواء أين القدير
أنا لا أترك التديخ ولا البـ ـطيخ والتين أو يكون النشور
وللأسف فقد مات هذا الشاعر قبل أن يبلغ الأربعين من العمر كما يذكر الزركلي في الأعلام .
مرض الأطباء :
والأطباء يمرضون كما يمرض الآخرون ، والحقيقة أن المرض كثيرا ما يكون أشد وطأة على الطبيب ، فهو أعلم بمصائب الأمراض وما تؤول إليه الأمور . وقد لا يحتمل البعض منهم الألم البسيط . فهذا الرئيس ابن سينا ، وقد أصيب بالزكام ، وهو في عرف الأطباء من الأمراض البسيطة ، ومع ذلك تراه يشكو الأمرين ، حتى كتب في ذلك شعرا قال فيه
ونزلة كنت أحمي وجه موردها ففاجأتني على ضرب من الحمر
سدت علي طريق الروح منتشقا وأسلمتني لأيدي الروع والحذر
ففي شؤوني حريق من تلهبه وفي الخياشيم ضيق محصد المرر
وهنا يعجز " إمام الأطباء " في علاج هذا المرض البسيط ، فلا يفيد في ذلك دواء،فيقول:
لا الفصد يغني ولاماء الشعير ولا طول احتماء إذا ما هم بالدرر
وأخيرا يسلم أمره لله ، ويحمده أنه لم يصب بما هو أشد منه :
فالحمد لله حمدا لا كفاء له على السلامة وقاها من الغير

تقييم:

0

0
مشاركة:


التعليق على الموضوع


لم يسجل بعد أي تعليق على هذه المشاركة !...

...........................................

=== إضافة تعليق جديد ===
الإسم:

نص التعليق:

انقل محتوى صويرة التحقق في الخانة أسفله:
الصورة غير ظاهرة