فضاءات بئر الحفي

بئر الحفي

فضاء الإبداعات الأدبية والفنية

العضو الأكثر فعالية على مستوى الـمعتمدية
ابراهيم
مسجــل منــــذ: 2010-11-14
مجموع النقط: 1.4
إعلانات


عبد القادر بن الحاج نصر وهموم كتابة الرواية


عبد القادر بن الحاج نصر وهموم كتابة الرواية
بوشوشة بن جمعة
نظّـم المعهــد العالــي للغـات بتونس، مساء الجمعة 2 مارس 2007، لقاء أدبيا مع الكاتب عبد القادر بن الحاج نصر، احتضنه فضاء مدرّج ابن منظور، وحضره ثلّة من أساتذة المعهد، وجمع غفير من طلبته، وأداره الأستاذ بوشوشة بن جمعة. وهو لقاء يندرج ضمن انفتاح الجامعة على المشهد الثقافي في شتّى تشكّلاته الإبداعيّة، ومنها الإبداع السرديّ الذي مثّل مدار تجربة هذا الأديب. وهو الإبداع الذي يتنافذ ويترافد مع عدد آخر من مسالك الإبداع التي جرّبها عبد القادر بن الحاج نصر وكانــت له فيهــا إسهامــات، بعضهــا مسرحيّ، وبعضها الآخر نقديّ، وآخر إعلاميّ مرئيّ.
استهلّ الأستاذ بوشوشة بن جمعة تقديم الكاتب عبد القادر بن الحاج نصر، بإبراز جملة من السمات المفيدة والعلامات الدّالة التي ميّزت تجربته الأدبيّة عامّة، والسرديّة الروائيّة خاصّة، فبيّن التنوّع الأجناسيّ في مسيرة إبداعه الممتدّة في الزمان، منذ أواسط الستّينات، فكانت نموذجا دالاّ على تنافذ الأجناس الأدبيّة والفنون في تشكيل عوالمها .. إذ تترافد فيها القصّة القصيرة، وقد تواتر صدور مجموعاتها منذ السبعينات من القرن الماضي، بظهور «صلعاء يا حبيبتي»، (1970)، لتتواصل بنوع من الإنتظام في : «البرد»، و«أولاد الحفيانة»، و«زبد المياه المتّسخة»، و «عجائب زمن»، وأخيرا «عجميّة»، والرواية التي كان يمارسها بالتوازي مع القصّة القصيرة و بنوع من المراوحة بين هذين الجنسين الأدبييّن، فتواتـرت رواياته منـذ أواخر الستّينات من القـرن الماضي، إلى اليوم، بــدءا بـ «الزيتون لا يموت»، (1969)، مرورا بـ : «صاحبة الجلالة» (1981)، و«زقاق يأوي رجالا ونساء»، (1994)، و«الإثم»، (1997)، و«امرأة يغتالها الذئب»،(1998)، و«قنديل باب المدينة»،(1999)، و«مقهى الفنّ»، (2002)، و«ساحة الطرميل»، (2004)، و«جنان بنت الريّ»، (2005)، وانتهاء برواية «عتبة الحوش»، (2006).
وينضاف إلى جنسيْ القصّة القصيرة والرواية جنس ثالث، يتمثّل في المسرح، حيث كتب عبد القادر بن الحاج نصر ثلاث مسرحيّات، هي: «كلاب فوق السطوح»، و«محاكمة الشيخ السفطي»، و«ولد الحفيانة».
وكان لمثل هذا التّمازج الأجناسي في شخصيّته مبدعا أن حفّـــزه على كتابة عــــدد من المسلسلات التلفزيونيّـــــة، هي «الحصاد»، (15 حلقة)، و«الحمامة والصقيع»، (15 حلقة) و«الريحانة»، (18 حلقة) و«دروب المـواجهـة» (15 حلقــة) و«جمـل جنّـات» (30 حلقة).
إنّها تجربة أدبيّة/سرديّة منفتحة على أكثر من جنس أدبيّ وفنّي…ثريّة من حيث التراكم والتواتر ومتنوّعة من حيث أسئلة الكتابة وجماليّات الإنشاء…تتوفّر على العلامات الدّالة على تحوّلات المشهد الثقافيّ التونسيّ المعاصر، وبالأساس السرديّ منه، على امتداد العقود الأخيرة من القرن الماضي إلى اليوم…وتكشف عن تفاعل صاحبها العضويّ مع مختلف التحوّلات المتأزّمة التي وسمت واقع المجتمع التونسي في ذات المرحلة التاريخيّة، وهي التحوّلات التي استمدّ من إشكاليّاتها أسئلة المتون الحكائيّة لنصوصه السرديّة القصصيّة منها والروائيّة والمسرحيّة والدراميّة التلفزيّة، وكذلك العناصر التكوينيّة لعوالم متخيّله السرديّ: فضاءات، وشخوصا، وأحداثـا، ومناخـات وجـود …يتداخـل فيهـا الفـرديّ بالجماعيّ، الذاتيّ بالموضوعيّ، الحاضر بالماضي، المحليّ بالعالميّ الإنسانيّ، والواقعيّ بالمتخيّل.
فجاءت رواياته تحمل زخم الاستقلال في شتّى صور تحوّله، الذي وسمه التأزّم، بسبب تصدّع الهياكل التقليديّة للمجتمع التونسيّ بفعل وطأة رياح المعاصرة والحداثة... وهي في آن ترشح بأشكال معاناة الفرد الذي وجد نفسه يواجه وجودا إشكاليّا بفعل القضايا المستجدّة في واقعه، والتي طالت البنية الذهنيّة الفرديّة منها والجماعيّة والتركيبة النفسيّة، والمذاهب السلوكيّة، وأشكال ممارسة الوجود، وعلاقة الذات بذاتها والآخر، فكانت نماذجه الروائيّة مأزومة الوجود، معطوبة الكيانات والعلاقات بسبب عطب الواقع في أكثر من مجال، وخسرانها لأكثر من رهان مع الحياة…والوطن… والتاريخ… تبحث عن سبل الخلاص…في أكثر من بديل .. وتتداعى الحدود بين الروائـيّ وشخوصه .. فأوجاعه من أوجاعها وأشكال معاناته…رجع صدى لألوان معاناتها…تتجلّى في أكثر من صورة .
وهي روايات بقدر ما تشتقّ بيانها من كيان صاحبها المتعالق وكيانات مجتمعه…الباحثة عن الأصيل من القيـم فـي واقـع متهافـت فإنّهـا تؤكّـد مسـعى صاحبها/الباحث باستمرار عن البكر من أشكال الكتابة لتصوير أزمته مثقّفا، ولأزمة جيله، في مجتمع التبست فيه معالم الطريق، وغامت الرؤية…كلّ ذلك بعد أن تيقن بأنّ الكتابة/محنة الحرف، وهي وحدها القيمة الأصليّة الثابتة الدّالة على أصالة الكيان، والضامنة للذات الديمومة، فتكون الرمز الدّال عليها…
ثمّ تناول الكلمة الأستاذ منصف الجزّار مدير المعهد فرحّب بالكاتب، وعبّر عن شرف المعهد باستضافته حتّى يلتقي بأساتذته وطلبته، فيتمّ الحوار والنقاش بينه وبينهم حول تجربته الأدبيّة الثريّة والمتنوعّة في أكثر من مجال إبداعيّ. وقد ركّز على قيمة إسهاماته في الأدب التونسيّ المعاصر، وبالأساس في مشهده السرديّ الروائيّ الذي يحظى فيه بموقع متميّز، إذ شكّلت نصوصه القصصيّة والروائيّة والمسرحيّة والدراميّة روافد إغناء وتنويع له، ممّا يعكس ثراء ثقافته وتنوّعها، وتعدّد مواهبه الإبداعيّة في المجال الأدبيّ، وختم حديثه بسؤال الكاتب عن كيفيّة صناعته الرواية…
أمّا الأستاذة جميلة ميلاد فقدّمت مداخلة حول «تجربة الكتابة عند عبد القادر بن الحاج نصر»، بيّنت في مستهلّها سمة التنوّع الأجناسيّ، التي تميّز تجربة الكاتب الأدبيّة على مدى سيرورتها الزمنيّـة، منذ بداياتها في السّتينات من القرن الماضي إلى اليوم، حيث يراوح بين أنماط كتابة متعدّدة ومتنوّعة: قصصيّة وروائيّة ومسرحيّة، ودراميّة تلفزيّة دون أن يقطع صلته بواحد منها، «فإذا تجربة الكتابة حافلة بالأشكال الأدبيّة، التي تفصح عن إصرار صاحبها على امتهان هذه الحرفة منشغلا بمجالات شتّى فيها، حتّى أضحت همّا من همومه وهاجسا يسكنه».
ثمّ أبــرزت أنّ الزخـم الهائـل مـن مؤلّفـات هـذا الكاتب المبدع والمنتمية إلى أجناس كتابة أدبيّة تتعدّد وتتنوّع يحفّز الباحث على التساؤل عن مسيرة هذا المبدع في الحقل الأدبيّ، وعن المسالك التي نهجها
في أعماله، وعن التزامه بأن يسير في كلّ اتّجاه في مسعى بحثه عن المبتكر من أشكال الكتابة، خاصّة أنّ كتاباته في أجناس أدبيّة شتّى تعلن عن تخطّيه لظاهرة الاختصاص، وعدم اقتصاره على جنس أدبيّ بعينه . كلّ ذلك يغري الباحث، باستقراء المؤتلف والمختلف في كتاباته، فضلا عن استقصاء العلامات الدّالة على ملامح الذات الكاتبة، المتحجّبة عنه خلف ما يوهم به الأديب المبدع من وسائط الفنّ وطرائق الإبلاغ. وذكرت أنّ تشعّب هذه التجربة الأدبيّة وثراءها الكمّي يجعل بعضها يفلت عن أيّ تبويب أو تصنيف . فلا تتيسّر بعض سبل البحث، ولذلك رأت أن تقتصر على إثارة عدد من الإشكاليات التي استوحتها من أعمال الكاتب عبد القادر بن الحاج نصر، من بينها العلاقة بين المؤلّف وقارئه، حيث يعمد إلى توريطه في عدد من نصوصه ويتوجّه إليه بالخطاب ممّا يطـرح إشكاليّـة العلاقــة بين الكتابة/الكاتب والقراءة/ القارئ. والكتابة بما هي تحقيق للذات المفردة والذات الجماعيّة، والقراءة بما هي عقد بين النصّ والقارئ، كذلك إشكاليّة العلاقة بين الكاتب وشخوصه الروائيّة: خلفيّات التشكّل، فضلا عن بنيتها ودلالتها، ومدى تأثير التفاعل الأجناسيّ في صياغتها، وهي الإشكاليّة التي تفضي إلى أخرى تتمثّل في طبيعة العلاقة القائمة بين النسيج النصّي والنسيج الأجناسيّ، كما تطرح أعمال الأديب انحباس الحدث في فضاءات ضيّقة، وأزمنة محدودة، تكسب نصوصه طابعا محليّا يحدّ من البعد الرّؤيوي…
ثمّ تلت هذه المداخلة شهادة الكاتب عبد القادر بن الحاج نصر وقد اختار عنوانا لها: هموم كتابة الرواية… شهادة على مسيرته مبدعا في أكثر من مسلك كتابة… كشف فيها عن خلفيّات تشكّل محنة الحرف في وجوده …عن طقوس الكتابة…والرواية…وعن عوالم متخيّلة السرديّ…فضلا عن مقصدّيته من الكتابة والرواية في آن…في زمن تنحسر فيه مساحات المقروء مقابل امتداد مساحات المرئيّ…
1 - البدايات وارتباكات البحث عن أفق الإبداع
وفد عبد القادر بن الحاج نصر إلى دنيا الرواية، عبر معبر القصّة القصيرة، شأنه في ذلك، شأن أغلب كتّاب جيله ممّن جرّبوا ممارسة الرواية…وكأنّه شعر بضيق جنس القصّة القصيرة على استيعاب إشكاليّات الواقع المستجدّة في السّتينات من القرن الماضي، والناجمة عن مرحلة الاستقــلال بتحوّلاتهـا المختلفـة والتـي يسمهــا التأزّم، فتحوّل عنها ـ أي القصّة القصيرة ـ، دون أن ينصرف نهائيّا ليجرّب مسالك الرواية، فكانت رواية «الزيتون لا يموت» (1969)، أولى لبنات مسيرته الروائيّة . رواية احتفى فيها بلحظة النصر/ الاستقلال عبر تمجيد أحداث 9 أفريل 1938، واختلط فيها العشق للمواطن بعشق الوطن، وكلاهما عنوان انتماء وعلامة هويّة، يقول : «عندما انهمكت في كتابة «الزيتون لا يموت»، كنت في بداية العشرينات من عمري، ومازال آنذاك طعم القرية التي ولدت فيها «بئر الحفي»، ورائحة مراعيها وحقولها ومشهد خيام الباعة المنتقلين يوم السوق الأسبوعية وألوان البضائع المكدّسة المعروضة للمتسوقّين وعطر البهارات، والكتب الصفراء إلى جانب قوارير الأدوية، وقراطيس الحشائش التي ابتدعها الطبّ الشعبيّ، ما يزال كلّ ذلك يتلاطم في داخلي وأنا أخطو خطواتي محترزا…خائفا من أن أكتب فيهزأ بي بعض العارفين بالأدب الأصيل وبدقائق عمليّة الخلق الأدبيّ. كنت خائفا نعم، لكنّني كنت أيضا مندفعا للتعبير عن ذاتي…عمّا يعتمل في صدري ووجداني…وأنا الذي انتقلت فجأة من نصوص المنفلوطي الجميلة إلى روايات فرنسوا ساغان، فمورياك، فهمنغواي فكامي فتولستوي، وهيغو فبكيت، فنجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس وفلوبير …»
2 سؤال الكتابة، طقوس الرواية
اعتبر عبد القادر بن الحاج نصر سؤال الكتابة، كما الحديث عن طقوس الرواية، من الأسئلة الصعبة التي
تواجه المبدع، لما يمثّله كلّ منها من «دعوة موضوعيّة إلى التوقّف، ومحاسبة النفس من أجل فهم عقلانيّ من قبل الكاتب للسلوك الذي يأتيه قبل الكتابة وأثناءها وبعدها»…وأوضح أنّ عملية الخلق الأدبيّ ممارسة مفتوحة، فهي طريق طويلة بلا نهاية، لأنّها صراع يوميّ من أجل السير إلى الأمام وسط عوائق بعضها ظاهـر للعيــان وبعضــها الآخـــر خفـــيّ. ثــمّ إنّ الكتابــة ـ في تصوّره ـ سبيل المبدع إلى تحقيق ديمومة الأنا، بتحقيق المنزلة الأدبيّة، بعد أن تحقّقت لها المرتبة الاجتماعية . «فقد كان الدافع لحركة كتابة الرواية هو الإثبات للآخرين أنّني قادر على التعبير بأسلوب شخصيّ اعتمادا على ما أفرزته المطالعات المكثّفة من تجربة واطّلاع، أكثر من هذا، كنت أقنع نفسي بأنّه من الواجب أن أرمي بثقلي وسط هذا الحقل الشائك الذي يسمّى الإبداع الأدبي. إنّه الشوق إلى أن أرى نفسي صاحب إنتاج مميّز…»
وهو المنظور الذي جعله يدرك لاحقا- وقد تبلورت معالم مسيرته الأدبية، واغتنت نصوصا وتنوّعت مذاهب كتابة ـ أنّ الكتابة هي الفعل الوحيد القادر على تحويل حيرته إلى رمز، أمّا ما عداها من عناصر الوجود فيمحوه الزمن…ويلفّه النسيان…فالبقاء للبيان عند تلاشي الكيان…» قلت في نفسي : لا شيء باق غير الكتابة، والكتابة لا تؤخذ بمعزل عن المسؤولية…والكتابة أسمى من أن يتعاطاها الكاتب كفسحة لهو وترفيه… فهي ليست بحال من الأحوال ترويحا عن النفس. إنّها مشقّة، وصراع، وإصرار على المواجهة. لاشيء يبقى منّي أنا، ممّا أملك، ممّا أحلم بتحقيقه، ممّا أصبو إلى بلوغه من مطامح بشريّة…لاشيء يبقى غير الأدب، فأهّم وأسمى من كلّ ما أشتهيه من الدنيا رصيد أدبيّ وشعور بضرورة أن أحيا واقفا وأن أموت واقفا».
ثمّ كشف عن اختلاف طقوس الكتابة والرواية عن سائر أشكال ممارسة الوجود، في قوله : «إنّني أرى نفسي ساعة الكتابة، لحظة الإمساك بالقلم ومواجهة الورقة البيضاء، خالي البال من كلّ العناصر التي تؤسّس لرؤية فكريّة واضحة المعالم، أي أنّني ساعة الشروع في الكتابة لا أستحضر في ذهني قضيّة اجتماعيّة أو سياسيّة أو عاطفيّة…تلك التي من المفترض أن تبنى عليها الأحداث، كما لا أستحضر الشخصيّات التي سأحمّلها الرسالة التي يجب إبلاغها إلى القارئ، أي أنّني عند الشروع في الكتابة أكون في وضع من سيخوض حربا دون سلاح. فلا عنصر لديّ البتّة ممّا تتطلّبه الرواية، إنّما لديّ شيء واحد ألا وهو الإحساس الملحّ بالانفجار نتيجة معاناة يمتزج فيها الخوف بالرفض، بالثورة، بالرغبة في التهديم، بالرغبة في الهروب، بالرغبة في المواجهة…
الخوف ممّن؟ والثورة ضدّ من؟ والرغبة في مواجهة من ؟ ربّما كنت خائفا من الآخرين، وربّما كنت خائفا من نفسي، ربّما كنت ثائرا على الآخرين وعلى نفسي…، وربّما كنت أرغب في تهديم ما حولي:الأشكال والمضامين لأنّني في حاجة إلى أن أبني على أنقاض نفسي وقناعات الآخرين بناء جديدا…
ويتمّ قادح الكتابة / الرواية لديه، من التقاء إحساس الآخر وإحساس الكاتب، حيث يأخذ نسيج الكتابة أبعاده برسم ملامح شخصيّة أولى، تستدعي شخصيّة أخرى. ومن الإحساس المعاناة الإنسانيّة يولد حدث يؤدّي إلى حدث آخر .
3 - الكتــابة والاختلاف
تبقى الكتابة لدى عبد القادر بن الحاج نصر فعلا مشتقّا من وجود فرديّ، يتعالق مع آخر جماعيّ، قبل أن يرتقي إلى مصاف إنسانيّ، لذلك ألحّ على ضرورة اختلاف الكاتب الروائيّ عن الآخرين وعمّن يشترك معهم في ممارسة فعل الإبداع الأدبيّ . وذلك من خلال ما يتوفّر عليه من قدرة على التعبير تحمل سمات تميّزها، فيقول: الكلمة التي يختنق بها الآخرون ولا يقدرون على التصريح بها، ويصف الإحساس الذي يعتريهم ولا يقدرون على وصفه، فيتحوّل من صيغة
المفرد إلى كلّ الأشخاص الذين يحيطون به لينفذ بقلبه وفكره إلى حقيقة العوامل،ويتجلّى مسعى هذا الأديب إلى إنشاء كتابة مختلفة ورواية مغايرة للسائد السرديّ، في بحثه الدائب عن المبتكر من الأشكال، والتي تتبلور أثناء عمليّة الكتابة لا أن تكون منجزة من قبل، ليتمّ إخضاع العمل الروائيّ لمقتضياتها وشروطها. يقول : «لا أتفنّن في التحضير للشكل، فإمّا أن يفرض نفسه تماشيا مع المحتوى، وإمّا أن تنهار عملية الكتابة برمّتها».
«إنّني إذا لم أشعر أنّ الشكل يساعدني نفسيّا على الصياغة، يتعطّل كلّ شيء لديّ ... المسألة لا تتعدّى أن تكون في مجملها متعلّقة بالرضا أوالنفور، إلاّ أنّني والإحساس يقودني لا أستسيغ أن أكرّر نفسي، وأن أستخدم نفس الأدوات التي أستخدمتها في السابق، لأنّي أكره السير في الطرق المعبّدة، حتّى لو أنّ الذي عبّد الطريق هو أنا. فالإحساس عندي يحملني على السير إلى الأمام دائما إلى الأمام، والبناء على أسس جديدة... دائما جديدة قدر ما استطيع، والسعي إلى التخلّص من الرواسب التي تجمّعت في نفسي والقناعات المحنّطة».
كلّ هذا يجعل من الكتابة لدى عبد القادر بن الحاج نصر فعلا باحثا باستمرار عن المغاير للسائد من الأشكال، قصد إنشاء النصّ السرديّ المختلف بأفق حداثيّ، تسمه حريّة بلا ضفاف، ذلك أنّ «الهدف دائما هو البحث عن الحريّة. والكتابة، هذه المحنة هذه اللعنة الجذّابّة، إمّا أن تكون متحرّرة أولا تكون» .
4 - الرواية وبلاغة تحويل اليومي إلى جمالي
حدّد الكاتب عبد القادر بن الحاج نصر ماهية الرواية، في أنّها «شهادة عن الأحداث الجارية في دنيا الواقع الذي تحياه، وعلى الكاتب ألاّ ينأى بنفسه عن مواجهة قضايا زمنة، إلاّ أنّ انخراطه ضمن مذهب الواقعيّة النقديّة في ممارسة الكتابة الروائيّة، يكشف عن قدرة وموهبة إبداعيّة تتجلّيان في تحويله تفاصيل الحياة اليوميّة إلى قيم جماليّة تميّز رواياته، وهو ما أفصح عنه في حديثه عن خلفيّات كتابة روايته «قنديل باب المدينة» : «إنّ رائحة بخور متسلّلة من فتحات نافذة أمام عتبة أحد البيوت هي التي أوحت لي بكتابة رواية «قنديل باب المدينة»، «كنت أسير في أحد الأنهج في المدينة العتيقة فشممت رائحة بخور طيّبة، تساءلت: هل يعقل أن تنشر رائحة بخور طيّبة جذّابة عبثا ؟ لا بدّ أنّ أحدا وراءها، غالبا ما تكون إمرأة…وهذه المرأة عندما رمت البخور على جمرات الكانون كانت تفكّر في شيء محدّد…لا شكّ في أنّ البخور يحتوي رسالة موجّهة إلى طرف له علاقة بصاحبة البخور، وأيّ علاقة هذه إذا لم تكن عاطفيّة …
هكذا بدأت الرواية بمفردة من مفردات الحياة اليومية العادية لتمتدّ أوّلا في المكان: باب منارة، نهج المرّ، سوق العصر، مونفلوري، باب سويقة، باب البحر…، ثانيا في الزمان: أواخر الخمسينات وأساسا الستّينات والسبعينات من القرن الماضي…ثالثا: في الشخصيات، من سعاد صاحبة البخور، وهي المرأة الشابة التي تقضي أيّـاما طويلة في شقّة بالطابق الثاني في انتظار زوجها العامل على إحدى السفن التجاريّة انتظارا أوقد في قلبها عشقا لابن خالتها الذي يعمل أستاذا، والسّاكن في الطابق الأوّل، تترصّد عودته . فإذا ما أطلّ على الساحة التي توجد بها العمارة رمت البخور على الجمرات لتلفت انتباهه، وهو يصعد الدرج ويدخل شقتّه…ومن سعاد إلى كريمة الحوت إلى الناجي إلى حمّة والهادي كركدن، ثمّ بدرة الأوّل وبدرة الثاني وهما موظّفان ساميان برتبة وزير…
ثمّ تتأسّس علاقة الشخصيّة مع المحيط الداخليّ والمحيط الخارجيّ، والتي تتحوّل مع تنامي دور الشخصيات إلى علاقات صراع من أجل إثبات الذات، والدفاع عن مصلحة أو تحقيق غاية…
5 - مقصديّــة الكتابة في التزام الكاتب
إنّ اعتراف الكاتب عبد القادر بن الحاج نصر بأنّ كتاباته القصصيّة والروائيّة المنتمية إلى السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، كانت مقصديّته منها إرضاء غريزة حبّ الظهور، فإنّ الأمر قد تغيّر مع منتصف التسعينيات، من خلال مساءلته لذاته عن قيمة منجزه السرديّ، وعن إمكانات تجاوزه، ووظيفته في الحركة الاجتماعيّة «كأنّ لهفة الكتابة انطفأت في داخلي، فلم تعد تأخذني نوبة حبّ الظهور والتميّز. خالجني شعور بأنّني قد أنهيت المهمّة، أيّ أنّني بلغت ما كنت أصبو إليه . ولعلّ هذا يعكس هشاشة الرؤية الثقافيّة . فبين أن تصيغ أدبا للأدب، وبين أن تصيغ أدبا يحمل في ثناياه قضيّة سياسيّة واجتماعيّة وفكريّة فاصل شاسع».
وبنـاء علـى ذلـك أقـــام مقصديتــه مــن الكتابـة علــى الالتــزام بقضايــا مجتمعـه، فلا شيء - في نظره أجدى بالنسبة إلى الكاتب من أن تكون له قدم صدق حيثما كانت دائرة الأحداث، وحيثما كانت حركة الإبداع ..
وقد أثارت هذه الشهادة للكاتب عبد القادر بن الحاج نصر عددا من الأسئلة التي شكّلت مدار نقاش بينه والحضور، منها ما اتّصل بمدى تجاوزه لمنجزه السرديّ، ومنها ما تعلّق بهيمنة سلطة المكان على إبداعه الروائيّ، ومنها ما طرح علاقته بشخوص أعماله الأدبيّة ومرجعيّاتها. فأبرز في إجاباته عنها بأنّ الكتابة السرديّة لديه فعل يتجدّد باستمرار بتجدّد بحثه عن المغاير من أشكالها، وبأنّ المكان فاعل في تشكيل عالمه الروائيّ لوثيق صلته به، وعمق معايشته له، كما الشخوص التي يؤثّث بها عوالم حكيه والمستمدة ممّا يعايشه من نماذج أو يرصده من نماذج دالّة على وجوه من معاناته... وصور من رؤيته للذات والعالم ...
كلّ ذلك وتبقى الكتابة سبيله إلى تحقيق ديمومة الأنا... لأنّ البيان فعل أقوى من النسيان أن يأتي على الكيان .5 - مقصديّــة الكتابة في التزام الكاتب
إنّ اعتراف الكاتب عبد القادر بن الحاج نصر بأنّ كتاباته القصصيّة والروائيّة المنتمية إلى السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، كانت مقصديّته منها إرضاء غريزة حبّ الظهور، فإنّ الأمر قد تغيّر مع منتصف التسعينيات، من خلال مساءلته لذاته عن قيمة منجزه السرديّ، وعن إمكانات تجاوزه، ووظيفته في الحركة الاجتماعيّة «كأنّ لهفة الكتابة انطفأت في داخلي، فلم تعد تأخذني نوبة حبّ الظهور والتميّز. خالجني شعور بأنّني قد أنهيت المهمّة، أيّ أنّني بلغت ما كنت أصبو إليه . ولعلّ هذا يعكس هشاشة الرؤية الثقافيّة . فبين أن تصيغ أدبا للأدب، وبين أن تصيغ أدبا يحمل في ثناياه قضيّة سياسيّة واجتماعيّة وفكريّة فاصل شاسع».
وبنـاء علـى ذلـك أقـــام مقصديتــه مــن الكتابـة علــى الالتــزام بقضايــا مجتمعـه، فلا شيء - في نظره أجدى بالنسبة إلى الكاتب من أن تكون له قدم صدق حيثما كانت دائرة الأحداث، وحيثما كانت حركة الإبداع ..
وقد أثارت هذه الشهادة للكاتب عبد القادر بن الحاج نصر عددا من الأسئلة التي شكّلت مدار نقاش بينه والحضور، منها ما اتّصل بمدى تجاوزه لمنجزه السرديّ، ومنها ما تعلّق بهيمنة سلطة المكان على إبداعه الروائيّ، ومنها ما طرح علاقته بشخوص أعماله الأدبيّة ومرجعيّاتها. فأبرز في إجاباته عنها بأنّ الكتابة السرديّة لديه فعل يتجدّد باستمرار بتجدّد بحثه عن المغاير من أشكالها، وبأنّ المكان فاعل في تشكيل عالمه الروائيّ لوثيق صلته به، وعمق معايشته له، كما الشخوص التي يؤثّث بها عوالم حكيه والمستمدة ممّا يعايشه من نماذج أو يرصده من نماذج دالّة على وجوه من معاناته... وصور من رؤيته للذات والعالم ...
كلّ ذلك وتبقى الكتابة سبيله إلى تحقيق ديمومة الأنا... لأنّ البيان فعل أقوى من النسيان أن يأتي على الكيان

تقييم:

0

0
مشاركة:


التعليق على الموضوع


لم يسجل بعد أي تعليق على هذه المشاركة !...

...........................................

=== إضافة تعليق جديد ===
الإسم:

نص التعليق:

انقل محتوى صويرة التحقق في الخانة أسفله:
الصورة غير ظاهرة