فضاءات جنين بورزق

جنين بورزق

فضاء القرآن الكريم والسنة النبوية

العضو الأكثر فعالية على مستوى الـبلدية
حجيرة ابراهيم ابن الشهيد
مسجــل منــــذ: 2010-10-19
مجموع النقط: 3041.12
إعلانات


ارضَ عن خالقك تكن أسعد النّاس

مِن أجلّ نعم الله -جلّ وعلا- على عبده، أن يوفّقه ليكون رضوان الله همّه الأكبر في هذه الحياة الدّنيا، ويرحل عن الدنيا وقد سمع تلك العبارة التي طالما تمنّى سماعها وهو يجود بروحه: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾.. يسمع قول الملك: “يا أيتها النفس الطيّبة، اخرجي راضية مرضية، إلى روح الله وريحان ورب راض غير غضبان”.. رضوان الله -عزّ وجلّ- هو أغلى أمنية وأجزل عطية وأثمن جائزة ينالها العبد في الدنيا وفي الآخرة: ﴿رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾.. لذلك فالعاقل حقا من جعل رضا الله عنه أهمّ وأعلى وأعظم هدف له في هذه الحياة الدّنيا، وإذا سئل عن أعظم أمنية يحملها بين جنبيه، أجاب من دون تردد: أمنيتي أن يرضى الله عنّي.

صحابة النبيّ -عليه الصّلاة والسّلام- وُفّقوا لهذا الفضل، فكان رضا الله غاية أمنياتهم، وكفاهم فضلا وشرفا أنّ الله علم مِنْ قلوبهم ذلك وشهد لهم بأنّهم أرادوا رضوانه، فقال: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا﴾ [الفتح: 29]، فماذا كانت الجائزة؟ أحلّ عليهم رضوانه ووعدهم جنّات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾.. وهذه الجائزة العظيمة ليست خاصّة بالصّحابة، فهي مرصودة لكلّ عبد مؤمن يجعل همّه الأكبر في هذه الدّنيا أن يرضى الله عنه، ويسعى حثيثا ليبلغ الغاية ويحرز الهدف، ويظفر بخيري الدنيا والآخرة؛ نعم بخير الدّنيا وخير الآخرة؛ فالله -جلّ وعلا- إذا رضي عن عبده أدهشه بعطاياه وأسعده في الأولى والباقية: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾.

لو سئل أيّ منّا عن الأسباب التي تبلّغ العبد رضوان ربّه، لأجاب: الحرص على الطّاعات والقربات، واجتناب المعاصي والمخالفات.. وهذا حقّ، لكنّ هناك سببا مهمّا يكمّل هذه الأسباب ويتمّمها، طالما ينساه كثير من السّاعين، هو رضا العبد عن ربّه، فيما أعطاه ومنحه، وفيما منع عنه وحرمه.. يقول سبحانه وتعالى عن عباده المؤمنين: ﴿رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾.. والله -جلّ وعلا- لا يرضى عن عبده حتى يرضى العبد عن ربّه.

ما من عبد إلا ويجد من السهولة أن يرضى عن ربّه وخالقه ومولاه إذا أعطاه في هذه الدنيا ما يحبّ من مال وولد وسكن وصحة وعافية، لكنّ قليلا من عباد الله من يرضون عن الله عندما يبتليهم بما يكرهون، ويحرمهم ما يريدون، عندما يمتحنهم بنقص من الأموال والأنفس والثمرات، ويحرمهم ما يتمنّون وما به يدعون.. لماذا؟ لأنّنا لا نفهم عن الله الرؤوف الرحيم سننه في هذه الحياة، ونقيس الأمور بظواهرها وبداياتها، ونتسرّع في الحكم على الأشياء.. سئل الحسن البصري -رحمه الله-: من أين أتِي هذا الخلق؟ قال: “من قِلَّة الرضا عن الله”، قيل له: ومن أين تأتي قلّة الرضا عن الله؟ قال: “من قلّة المعرفة بالله”.

صعبٌ أن يرضى عن خالقه ومولاه عبدٌ ينسى أنّ المنحة قد تأتي في ثوب محنة، والعطية قد تأتي في ثوب بلية، وأنّ الخير قد يأتي مع المنع، ورب ضارة نافعة؛ ورب أمر يكرهه العبد فيه نجاته، ورب أمر يحبه فيه هلاكه.. يقول الله -عز وجل-: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُون﴾.

يُروى أنّ شيخاً فلاحا في زمن مضى كان يملك جواداً وحيداً محبباً إليه، فهرب جواده يوما، فجاءه جيرانه يواسونه في هذا الحظ العاثر، فأجابهم من دون حزن: وما أدراكم أنه حظٌ عاثر؟ بعد أيام قليلة عاد إليه الجواد مصطحباً معه عدداً من الخيول البرّية، فجاء إليه جيرانه يهنئونه بهذا الحظ السعيد، فقال: لكن ما أدراكم أنه حظٌ سعيد؟ لم تمض سوى أيام حتى كان ابنه الشاب يدرب أحد الخيول البرّية، فسقط من على ظهر الفرس فكسرت ساقه، فجاء أهل القرية يواسونه في حظه السيئ، فأجابهم من دون هلع: ومن أدراكم بأنه حظ سيئ؟ بعد أسابيع قليلة أُعلنت الحرب وجَندت السلطات الشباب، وعندما وصلوا إلى ابن الشيخ وجدوه مصابا ورجله مكسورة فأعفوه من التجنيد.. مات شباب كثر في الحرب، وبقي ابن الشيخ حيا يرزق بفضل الله.

فتاة زوّجَها أهلها في سنّ مبكّرة، وعانت من العقم لمدة ثلاثين سنة. طلقها زوجها وهي في الأربعينات من عمرها لأنه يريد أطفالاً، فتزوجت من أرمل غني يريد سيدة ليست قادرة على الإنجاب كي لا تنشأ مشاكل مع أبنائه الورثة.. انقطع عنها دم الطّمث فظنته سن اليأس، لكنّها فوجئت بأنّها حامل بذكر وأنثى.. ظنّت أنّ طلاقها من زوجها الأوّل كان مصيبة ومحنة، ولم تكن تدري أنّ الله قد هيّأ لها ما فيه الخير.

إحدى السيّدات، ظهرت عليها بعض الأعراض المزعجة، وعند الكشف تبيّن أنّها حامل في وقت لم تكن فيه مستعدة للحمل.. زوجها وأهله كلّهم لم يكونوا راغبين في ذلك الحمل.. قررت الإجهاض، قبل أن ترى في المنام رجلا صالحا ينصحها بأن تحتفظ بالأمانة لأنها غالية، فاستبشرت خيرا وعلمت أنّها رؤيا صالحة، فتراجعت عن قرار الإجهاض وواجهت زوجها.. مضت السنوات، فتركها أولادها الكبار، وتوفي زوجها، ولَم تجد غير ذلك الطفل الصغير الذي كبر ودرس وعمل واعتنى بأمّه حتى وافتها المنية.. وسبحان الله: ﴿فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾.

وهذه أم ابتليت بابن عاقّ مدمن للمخدرات، فكانت تدعو له بالهداية، لتفاجأ بابنها يصاب في حادث مرور خطير، حتّى يئس الجميع من أمره وبدؤوا يجهّزون لإعلان الوفاة.. دخلت خالتُه الطبيبة لتلقي عليه نظرة الوداع، فشعرت بأنفاسه الساخنة، نادت الممرضين ليتبين أن الشابّ لا يزال حيّا يرزق.. قضى بعدها شهراً في العناية المركزة، ليخرج منها إنسانا آخر تائبا بارا بأمّه، أتمّ دراسته وأصبح طبيبا تفخر به والدته، بعد أن كان عاقا مدمنا.

الرضا عن الله جنّة في الدّنيا وجنّة في الآخرة.. الرضا بما قسم الله وقضى سعادة وأنس وراحة وهناء.. الله لطيف حنّان منّان، لا يأتي منه سبحانه إلا الخير، حتى وإن ابتلى عبدا من عباده، فإنّه يخبّئ له خلف البلاء خيرا ينسيه البلاء.. أسعد النّاس في هذه الدّنيا وأهنؤهم عيشا من رضي عن الله وأحسن الظنّ بخالقه ومولاه: يقول النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-: “اتَّقِ الْمَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ، وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ…” (صحيح الجامع)، ويقول -عليه الصّلاة والسّلام-: “عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سرّاء شكر؛ فكان خيراً له، وإن أصابته ضرّاء صبر؛ فكان خيراً له” (رواه مسلم).. حين سئل الحسن البصري -رحمه الله-: ما سر زهدك وهدأة بالك في الدنيا؟ قال: “علمت أنّ رزقي لا يأخذه غيري فاطمأن قلبي، وعلمت أنّ عملي لا يقوم به غيري فاشتغلت به وحدي، وعلمت أنّ الله مُطلع علي فاستحييت أن يراني عاصيًا، وعلمت أنّ الموت ينتظرني فأعددت الزاد للقاء ربي”.

سلطان بركاني

2022/11/05


تقييم:

0

0
مشاركة:


التعليق على الموضوع


لم يسجل بعد أي تعليق على هذه المشاركة !...

...........................................

=== إضافة تعليق جديد ===
الإسم:

نص التعليق:

انقل محتوى صويرة التحقق في الخانة أسفله:
الصورة غير ظاهرة