فضاءات بشار

بشار

فضاء الثقافة والمواضيع العامة

العضو الأكثر فعالية على مستوى الـبلدية
ابو زكرياء ابراهيم
مسجــل منــــذ: 2010-10-15
مجموع النقط: 1619.56
إعلانات


العلـــــم والضمـــــــــــير

العلـــــم والضمـــــــــــير

المحرر الأثنين 30 شعبان 1442? 12-4-2021م

د. بدران بن الحسن *

منذ أيام نشرت جريدة التايمز البريطانية يوم 28 مارس/آذار 2021م خبرا مزعجا للضمير وللعلم، يتحدث عن اغتصاب الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو لأطفال صغار في تونس لما كان أستاذا في جامعتها في ستينيات القرن العشرين، وممارسة فعل قوم لوط معهم والعياذ بالله. والقصة التي أثارتها جريدة التايمز تروي تلك الفظائع استناداً إلى اعترافات صديقه المؤرخ الفرنسي غاي سورمان.
وليس في القصة جديد يتصل بشذوذ فوكو، فهو شاذ معلوم الشذوذ. بل الجديد ممارستُه ذلك الشذوذ على أطفال تونس تحت سلطة المعرفة والمال والحصانة الاستعمارية، مع تواطؤ من النخبة الفرنسية التي رأته وكتمانها للأمر. وقد علق غاي على الحادث بأن فوكو «لم يكن ليتجرأ على التفكير في فعله أبداً في فرنسا، وأن من بين من رأوه مراسلون وكتاب لم يتجرأ أيٌ منهم على كشف الخبر لأن فوكو كان إلهاً في فرنسا» (فال، 2021).
إن هذا الفعل الخارج عن الفطرة الذي قام به هذا الفيلسوف الفرنسي، الذي يعتبر إلها للفكر والمعرفة عند الفرنسيين خصوصا، كما عند من مقلدتهم من الحداثويين العرب والمسلمين، الذين انفصم عندهم العلم والفكر عن الضمير، وصار العالم أو المفكر فيهم قامة فكرية وفلسفية كبيرة، لكنه خرب الضمير يعيش فصاما بين مقولاته العلمية الحالمة وبين حياته الأخلاقية البائسة.
إن هذه الحادثة تمثل عينة واحدة من كثير، مما أشار له مالك بن نبي مبكرا في الأربعينيات من القرن العشرين في سياق نقده للحضارة الغربية، إذ يرى بن نبي أنها أوقعت الإنسانية في فصام بين العلم والضمير، بسبب رؤيتها المادية للكون والحياة. هذه الرؤية التي لها أبعادها الاجتماعية والنفسية، من خلال الطابع الاستهلاكي للحياة، والتوجه نحو تنميط الحياة على أساس الاقتصاد والدخل الفردي، والتمركز حول القوة باعتبارها نفسية ذات جذر مادي، واستبعاد البعد الروحي المعنوي…
وبالرغم من إنجازها في ميدان التقنية وتحسين المستوى الاجتماعي والاقتصادي للإنسان ورفع فعاليته إلى الحدود القصوى، فإن هذه النظرة الكونية الغربية تواجه في الوقت الراهن تحديًا بسبب تطور العلم، أدى إلى صراع العلم والضمير. ذلك أن التقدم التكنولوجي والاطراد التاريخي يقود الحضارة الغربية إلى التقدم والتقرب نحو الإنسانية في مصيرها المشترك، وتطلعاتها نحو الوحدة، غير أن ضميرها المتخلف، وريث عصر الكشوفات الجغرافية والاستعمار، يكبح الغرب عن أن تتوحد في نظرته مع الإنسانية، وذلك بفعل النظرة المادية التي أسست الغرب الحديث، وما زالت تهيمن على مناهج العلم، وتوجهات الفلسفة، ويوميات الحياة الغربية.
فكأن تطور العلم يقرب الناس لبعضهم، في حين أن فصل مفهوم العلم والحياة عن العواطف والأخلاق والمشاعر والاعتقادات الدينية، أدى إلى اختلال في الضمير، وتخلف عن مسايرة منتجات تطور العلم. ولهذا فإن الحضارة الغربية أنتجت لنا هذا الفصام بين العلم والضمير، كما أنتجت الخواء الروحي، بفعل تضافر المادية والعقلانية المجردة المبعدة للغيب عن التاريخ. وهذا ما جعل الفيلسوف الألماني اشفيتسر يصرخ قائلا: «الحقيقة الرهيبة -هي أن تنمية الحضارة الحقيقية قد أصبح أشدّ عسرًا من جراء تقدم التاريخ وتطوير الاقتصاد في العالم -هذه الحقيقة لم تجد من يعلنها». ولذلك يؤكد أمر المآل الرهيب الذي آلت إليه الحضارة الغربية بفعل تمركز المادة، مما أدى إلى اختلال التوازن، فيقول: «والخاصية المروعة في حضارتنا هي أن تقدمها المادي أكبر بكثير جدًا من تقدمها الروحي. لقد اختل توازنها… فإننا نغالي في تقدير إنجازاتها المادية، ولا نقدر أهمية العنصر الروحي في الحياة حق قدره… إن الحضارة التي لا تنمو فيها إلا النواحي المادية دون أن يواكب ذلك نمو متكافئ في ميدان الروح هي أشبه ما تكون بسفينة اختلت قيادتها ومضت بسرعة متزايدة نحو الكارثة التي ستقضي عليها» (ص107).
إن الإفراط في الكمية والاعتماد على لغة الأرقام في تقدير السعادة الإنسانية، أدى إلى إلغاء كثير من القيم لأنها لا تدخل ربحًا ماديًا، وهذا نتج عنه إتلاف الكرامة الإنسانية والمفهوم التسخيري للكون، فأتلفت الحضارة المعاصرة قداسة الوجود كما يقول بن نبي. ولم تنفع معها تلك العقلانية الديكارتية، لأنها ذات جوهر مادي، أنتجت لنا هي بدورها صراع الأخلاق والسياسة، كما تبين ذلك في الإنتاج العلمي الذي خلّفه ميكيافلي الذي يشارك العقلانيين رأيهم في الرفض التام لأي بعد غيبي، كما ينكر تدخل الدين في شؤون الحياة اليومية للبشر، من خلال فصله التام بين الأخلاق وممارسة السياسة، ورفضه لوجود قيمة عليا أو مصدر أعلى خارج الإرادة البشرية، ويتدخل في السياسة والحكم (برنال، ص150).
ونعود إلى ما بدأنا به، وهو أنّ ما قام به فوكو من أفعال مخالفة للفطرة مع الأطفال لما كان أستاذا جامعيا حينها، ثم تطور معه الأمر إلى أن حول شذوذه ومرضه وهوسه الجنسي الشاذ كما يقول أحمد فال إلى فلسفة وأيديولوجيا، فإن هذا كله يجعلنا ندرك ما أوصلتنا إليه الحضارة المعاصرة من فصام بين العلم والضمير. ذلك أن تأمل الحركة التاريخية للحضارة الغربية وإفرازاتها، يبين لنا أنها جعلت من الحضارة عملاً قصديًا، ووحدت من الهم الإنساني، ودفعت بفعل عاملها التكنولوجي إلى الربط بين أطراف المجتمع الإنساني، هذا من جهة. لكنها من جهة أخرى جعلت العالم يعيش مثقلاً بالعلم وبثقافة التوسع والسيطرة، وجعلته مليئا بالمآسي، يضج بروح الحرب وبوسائل الحرب، ويعيش فراغًا كبيرًا من الضمير ينبغي له أن يمتلئ، وإلا فإن مصير الإنسانية ليس تجاوز الفطرة فقط، بل محوها تماما.
ولعل مالك بن نبي كان محقا لما رأى أن الحضارة الغربية تعيش في عالم كوّنه علمها، غير أن ضميرها لا يعلمه تمامًا، لأنها تجهل فيه مسألة رئيسة، تجهل الإنسان الذي اعتادت أن تنظر إليه بروح القرن التاسع عشر حتى الآن على أنه من أبناء المستعمرات (الأفروآسيوية، ص125-126)، فراحت تستغله وتمتهن كرامته، وفي هذا السياق يفهم ما فعله فوكو بأطفال تونس.
ولا مناص من رؤية غير مادية تستعيد للإنسان إنسانيته، وتستعيد له توازنه، وتجعل العلم مرتبطا بالعمل، والقول مرتبطا بالفعل، كما علمنا القرآن؛ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}[الصف:2-3].
*مركز ابن خلدون للعلوم الاجتماعية والإنسانية/ جامعة قطر


تقييم:

0

0
مشاركة:


التعليق على الموضوع


لم يسجل بعد أي تعليق على هذه المشاركة !...

...........................................

=== إضافة تعليق جديد ===
الإسم:

نص التعليق:

انقل محتوى صويرة التحقق في الخانة أسفله:
الصورة غير ظاهرة