فضاءات أولاد حسون

أولاد حسون

فضاء الإبداعات الأدبية والفنية

العضو الأكثر فعالية على مستوى الـجماعة
اسماعيل البحراوي
مسجــل منــــذ: 2010-12-26
مجموع النقط: 11.6
إعلانات


عاشقة..مراكش؟


كانت (أوستين) فتاة ليست كباقي فتيات الشمال..إنها سريعة الغضب دقيقة الفهم صغيرة الحجم رشيقة الحركة ناعمة الصوت شديدة سواد الشعر وبياض البشرة.
إنها عند كل حلقة بصفها الدراسي تحوم كلمات زميلاتها عن قضاء العطلة الصيفية بموجة دافئة تشد بها الرحال من الحنين و العشق إلى قرية صغيرة.. تملها بإلف العادة،قرية غنية بألوان الشؤم و الشر..نظرة واحدة إليها تحت وطأة الظلام و الجفاف يجعلك تنظر إلى الدنيا و إلى كل ما يجري على أرضها،نظرة ليس فيها شيء من لون النور الذي كان يمثله عشقها.

و رغم ذلك كله كان عشقها الحلم الأكبر و الأعظم الذي كان يملك عليها خيالها كله، و كيانها و حواسها..إنها كانت تحتفظ به سرا خاصا تفضي به دموعا حارة ببراءة عذراء إلى قلبها العاشق الذي نقشت على بابه صفحة عنونتها بعنوان "عاشقة..مراكش ؟".لكي لا تدنسها أيادي تجهل قيمة ترك شيء ما في نفس حزينة كالأثر الذي تركه فيها حنينها إلى وردة حمراء بين النخيل.
فقد كانت تعشقها ،و كانت حواسها كلها معلقة بهمساتها ..بهدوئها .ولأنها كانت تعشق الهدوء فقد انتظرت حتى ولد شهر ذو الحجة .. حتى هدأ كل المغاربة من شراء الأضحية ، حتى ذبحت الكباش،حتى سكنت الحركة بطنجة و نامت أعين العشاق بمراكش..ثم استعدت أوستين راشدة في ربيعها السابع عشر بفرحة عارمة. كان سرها في فرحتها، و كانت فرحتها هذه بعضا من حلمها وهي تودع أمها بقبلة في خشوع و صمت، ثقة لم تمنع رضاءها حين اكتفت بقولها ."اعتني بنفسك يا صغيرتي .و بلغي تحيتي إلى ناس القرية ..." فأجابتها بابتسامة و هي تحاول أن تنسيها مرارة ماض ليس ببعيد، ماض عادت صورته إلى الذهن ..{"لا عليك أمي ؟ أنت حبيبتي أهواك ..؟ فلا تحزني إني سأكون بخير"
تحركت حافلة ستيام ،وامتقع لونها وأسرعت ضربات قلبها حينما عادت بها الذكرى إلى ماض سحيق..ماض زادته الاحداث بعدا في أعماق النسيان..و كان طبيعيا أن يحصل ذلك و هي ترجع شريط الزمن ليحيلها أخيرا عن بعض الوصايا التي كان يقدمها لها الشاب..الذي كان قد أهدى لها كلاما ذهبيا بعد سنتين حيت كانت تودعه بدمعتين كبيرتين قد ترقرقتا على خديها ، فمد يده و أمسك بها فأمالت رأسها على كتفه و طبع قبلة خفيفة على خدها ، و تنهدت سعيدة و قالت في هدوء و ببساطة :
" كيف سأراك حبيبي مرة أخرى ؟و المشاكل تطاردنا"

"لا تقولي هذا ..إن الله معنا"
" نعم ..و لكن"
".و لكن أحبك ..و إني قادر ان أهديك روحي و الدم الذي يسري في عروقي"

" شكرا ..لا تجهد نفسك ؟أنا كذلك أحبك..."

فجأة سمعت صوت شاب بجانبها يسألها عن اسمها في أدب و حشمة قائلا:
" إنك جميلة ...؟ "
" شكرا ..إني واثقة من ذلك"
"هل يمكن لك أن تقولي لي ما اسمك؟"
" هل ضروري ذلك؟"
"لا...و لكن أود التعرف عليك؟"

إنها مراهقة ذكية ..حين استطاعت إخفاءه بمهارة .. و حين أقنعته بملامح وجهها أنها في رحلة عشق مستمرة مع الماضي الذي يخفق بالأمل ..إلى موعد...؟؟؟و عندها خاب أمله حين تنفس بعمق و بصوت مسموع ."معذرة ..لعلك لم تملي وجودي بجانبك ؟"سارعت قائلة ."لا...هل اقتربنا من مدينة مراكش؟"

إنها الساعة الخامسة صباحا ..بعد ساعتين إن شاء الله سنصل
حسنا..أشكرك..؟
كانت تعرف أنها اقتربت من نهاية رحلتها ..و لترضي مشاعرها و ترضي ضميرها .. و لترضي الحلم الذي أدركها أن الحياة هي العشق الذي يناله من الدنيا الدنيئة إنسان في إنسان ...
تأملت وهي تطل من النافدة لتقع عيناها على امرأة عجوز أيقظها في هذا الصباح ألم الفقر..الأمر الذي جعلها تدرك أن الحياة ليست سعادة، فقط بل هي فرح و قرح، دمعة وابتسامة هزيمة و انتصار...

وقفت الحافلة..كل شيء جديد .. إشراقة شمس مراكش...يقظة رضيع بابتسامة براءة...بداية يوم جديد يملئه نوم عميق و عناء جراء قطع عشرات الكيلومترات..
المحطة أنتظرك}. وهي ما تزال تنتظره غارقة في قلق..حتى استقلت سيارة أجرة صغيرة ثم بعد ذلك أخرى كبيرة التي أوصلتها إلى فيلاج معروف ليس ببعيد عن القرية.
نظرت إلى شخص ما تعرفه ، فلم تجد إلا ذلك الهاتف النقال لتكتب رسالة أخرى.."إنني بالفيلاج ..لا تدعني لوحد."
كان الشاب ليس من عادته أن يقفل هاتفه النقال,ما عدا تلك الليلة التي سهرها مع أصدقائه خارج البيت بمناسبة عيد الأضحى.. استيقظ بعد ساعة متأخرة من الصباح , أخذ هاتفه النقال و عيناه نائمتان,لا يعلم بهدوء قوي ما تخبئه له هذه الذبذبات الإلكترونية .. أشغله و شعور ذكريات تتزاحم بمخيلته ،فجأة رن صوت استقبال الرسائل،مد يده و مرت بباله خاطفة ،رسائل تهنئه من أحد أصدقائه بالجامعة أو إحدى الجمعيات لا أكثر ,لكن تغضنت ملامح وجهه و هو يضغط عن الزر ليقرأ:"..إني ..لا تدعني ..أين أنت ؟..." فلم يراجع نفسه حتى قام مسرعا ليتساءل إن كان الأمر صحيحا أم لا؟ وجد نفسه يركب رقم هاتفها و هو يرتعش كمحموم و قلبه معلق بخيط بين حقيقة و افتراء ليقول.."إني آت حبيبتي...أين أنت الآن؟"ردت بسكون يصطحبه نفس الإحساس قناته موجات في السماء-"إني وصلت لبيت جدتي بعد ساعة ...؟"..و كان قد تأكد حقيقة انه في يقظة ,وانه سيعيد سيناريو شريط زمن البيت الذي طالما كرهه لإكراهات الدهر و قوة الفقر و نكهة الشؤم الذي طبعه له سيداته- البيت- في قلبه بعود الكبريت المؤلم- عادت به الذكرى لتدميه و هو يتحمل أيام سنوات لما كان يأتي إليها ,رغم ما يحمله من شوق لرؤيتها ..رؤية أقسى من جرح مفتوح فوقه ملح.

بقيت تنتظر وصوله في حركات بطيئة ..ترتب ملابسها ,و تنظف غرفتها , تتردد بإخفاق كيف ستستقبله لتقلب صفحات ماضيها و تعانقه ...فظهر و هو يمسك بيده طفلة صغيرة..عمرها سبع سنوات تدعى "ماري" التي تختزل سبع سنوات من الحب الذي شهدته بدون وعي ..؟.استقبلتهما بدفء لتقبل ماري قائلة ..{كيف حالك ؟إنك جميلة ..اجلسي },و تعانقه بصدق و شوق حار تحت كلام سريع .فلم يبق معها سوى دقائق معدودة ....

مضت ساعات و افترقا .. قبل أن يلتقيا مرة ثانية في جو يملئه دفء العشق و الحب الذي يسيطر على مشاعرهم ..و الحماس الذي حدد موعدا بعيدا عن القرية,بعيدا عن حقدها.فصار كل شيء وفق اتفاق وضعته بنفسها. ..

خرج صباحا متوجها إلى الجامعة و قلبه يخفق بموعد المساء,وهو يظن إنه الأخير ...وصلت بعد الظهر إلى نقطة التقاء الحياة, ساحة العجائب,و برفقتها شاب طويل القامة, قوي العضلات, خشن الصوت.. كان يرشدها مازحا ببعض النكت الطريفة تارة, وسائلا عن علاقتها القوية هذه بأخيه تارة أخرى ...

تأخر بعد عدة مكالمات هاتفية.. إنه تمنى أن تطوى الأرض وصولا إليها, ليعانقها حنينا إليها. وصل بوجه يملئه طل الصباح الباكر ,وابتسامة رضيع بين أحضان أمه .. وجه تسلل هروبا من ضوضاء المتعطشين لرؤية نتائجهم الفصيلة بالجامعة

لاتزال في انتظاره حتى و وقعت يدان ناعمتان, صغيرتا الحجم على عينيها الحزينتين لتقول .."أنت حبيبي..أين تأخرت ؟" فعانقها بحرارة ,و ضمها إليه قائلا.."ساميحني ...و أضاف مبتسما .."أهلا أخي...شكرا جزيلا}."

كانت تبدو و ضيئة و جميلة و هي تتأبط ذراعه ليسير في هدوء بين فاثني الثعابين و الأفعى و مروضي القردة و بين القوالين و المطربين هنا و هناك ,و بين أصحاب عربات العصير و مجموعة كناوة في أقمصتهم القصيرة ذات اللون الأبيض,و سراويلهم العجيبة..وطبول رنانة رائعة ذات إيقاع مليء بالحيوية ,و رقصات غريبة تثير انتباه الزائر إليها..؟

و بعد أن بعثت الشمس أخر أشعتها الذهبية بدفئها ,اكتست جامع الفنا حلة جديدة لتضيء رحابها بمصابيح كثيرة و متفرقة و بمضي الوقت صارت تأخذ صور تذكارية مع خطيبها..هذه و هما يمشيان وسط عيون المارة..و أخرى مع مروض القردة. بقيا على هذه الحال إلى أن زاغت بهما خطاهما إلى أكشاك الجرائد ليسألها.."أنظري إلى هذه البطاقات المراكشية إذا أعجبتكي..؟"و عندها قالت .."لا تشعرني بأني لست مراكشية..دعني أقول لك أني أعشقها أكثر منك",صمت قليلا ثم قال.."حسنا,و من قال هذا؟إن عشقك هذا هو مملكتي الصغيرة..." فابتسمت مترددة ..{آه..عندما أسمع صوتك ..أرسم صورتك في عقلي ..و نفسي أرى إني سأرحل و أنا حاملة معي كل شيء ينبض باسمك}سكت هنيهة,ثم قال بصوت خافت.."لقد اخترتك لي..لأني لا أتصور الحياة بعيدا عنك..بعيدا عن همساتك ..بعيدا عن نظراتك ,عن إحساسي بالدفء و أنا أنعم بقربك..دعيني أحتفظ بدموعك,دعيني أروي لجرحك حكاياتي لعله ينام فتنام معه كل آلامك"

لم يكن هناك شك في تلك العبارات التي قالها ..لأنه يعتقد أنها فرصة ليحضنها إلى قلبه بعيدا عن القرية قبل رحيلها غدا..و أمام جامع الكتبية بصومعته الشامخة , بمصابيحه المضيئة ,و بضوء ساحته الخافت أمالت رأسها على كتفه فأخذت لهما شابة صورة ذهبية .صورة بنكهة مراكشية ..صورة أحست قلبها يستحم في موجة دافئة من الأمل..الأمل الذي صار حقيقة يبادلها الخطى ببذلته الجميلة العطرة قائلا..

" أغمضي عينيك,و افتحي حقيبتك,و عاهديني أن لا تري هذه الهدية البسيطة إلى حين وصولك إلى طنجة... "

"ولكن تعرف إني لا أحب المفاجآت"

لا تخافي إنها أفضل هدية في الكون, لن تجد من يهديها لك... فراودها إحساس أصابت به الهدية...قائلة: "عرفتها.. قرآن عظيم .. شكرا لك , كم أنت جميل ". والذي زادها تعلقا به .. عشقها للحياة في كنف كلمات طيبة, كلماته التي تزيل عنها الألم, كلمات كان يكتبها إليها عند كل مناسبة.. عند كل لحظة يقف فيها شاعرا ليصفها هنا امرأة ترى الحياة طيبة, وتجد كل شيء فيها طيب, حتى الدموع, وحتى الألم.. إنها تحب أن تبكي, وتحب أن تيأس, تحب أن تكون حزينة آسية, إنها تحب الحياة على الرغم من كل شيء؟. ومن هنا, كانت بقلب حزين تحت الأضواء الخافتة قد ارتعش كبدها شوقا إليه لأنها لا تطيق فراقه,وهي تقرأ أخر رسالة .. وفي داخلها عين ناشفة تنظر:

" إلى أغلى فتاة أحببتها

إلى أعظم امرأة عرفتها

إلى من أيقظت في قلبي نار

الحب والشوق.

إلى فتاة الشمال التي طالما

أردتها في حياتي.

إلى فتاة الشمال البيضاء

في عيني وقلبي.

إلى من تدير كيان حياتي بكلمة

واحدة منها

إلى حبي الأول والأخير

إلى أوستين

حبيبك سامي...."

ثم طوقت عنقها بذراعيه, وألصقت خدها المعطل المبتل بخده..واختلطت دموعهم..فامتزجت دموع العاشقين..؟

انتهى.

اسماعيل البحراوي


تقييم:

3

0
مشاركة:


التعليق على الموضوع


لم يسجل بعد أي تعليق على هذه المشاركة !...

...........................................

=== إضافة تعليق جديد ===
الإسم:

نص التعليق:

انقل محتوى صويرة التحقق في الخانة أسفله:
الصورة غير ظاهرة