فضاءات غور الصافي

غور الصافي

فضاء الإبداعات الأدبية والفنية

العضو الأكثر فعالية على مستوى الـبلدة
خالد عطية الحشوش
مسجــل منــــذ: 2011-01-02
مجموع النقط: 11
إعلانات


القاص والروائي خالد العشوش


خالد عطية العشوش.
المؤلف في سطور:
· خالد عطية سلامه عرمان العشوش
· مواليد غور الصافي 6/3/1963
· 1983 حصل على الثانوية العامة / مدرسة الصافي الثانوية حيث تلقى تعليمه الابتدائي
· والإعدادي والثانوي
· 1987 حصل على بكا : لغة عربيه من جامعة الموصل / العراق
· 1997 دبلوم عام في التربية من جامعة مؤتة
· 1987 عين معلما في محافظة الطفيلة / مدرسة العين البيضاء
· 1991التحق بالخدمة بالقوات المسلحة مكلفا لمدة عام ونصف
· 1993 عين مرة أخرى معلما في محافظة الكرك / مدرسة النقع الاساسيه ثم الصافي الثانوية الشاملة للبنين
· 2001 عين مديرا لمدرسة الصافي الثانوية الشاملة للبنين حتى تاريخه
· 2005 فاز بمسابقة القصة القصيرة لملتقى بصيرا الثقافي عن قصة (أبو صليبا)
· 2008 نشر في العديد من المجلات الثقافية / عبر الانتر نت كالفضاء الثقافي والفوانيس وعراق الوركاء وأصوات الشمال وانكيدو الثقافية وأدب فن والعرب الثقافية وزهرة الدفلى ومجلة بصيرا الثقافية ونشر عددا من التحقيقات الصحفية في صحيفة صوت الشعب سابقا والدستور
· 2008 صدر له كتاب ( لواء الأغوار الجنوبية (عبق الماضي واشراقة المستقبل ) وله مجموعة قصصية تحت الطبع / وزارة الثقافة الأردنية ( الرقص في العتمة)ورواية ثلاثيه بعنوان ( الأرض والعاصفة)
· حاصل على الرخصة الدولية لقيادة الحاسوب ( ICDL ) وإنتل التعليم للمستقبل
· عضو سابق في ملتقى الكرك الثقافي, كما وزار كل من تركيا وبلغاريا إضافة الى العراق
ابرز الأعمال :
أولا : الرقص في العتمة : مجموعة قصصية نشرت بدعم من وزارة الثقافة .
المجموعة القصصية الأولى للقاص خالد العشوش , تقع في 145 صفحة من القطع المتوسط , وقد تنوعت بين العام والخاص , ذات صبغة واقعية وإنسانية تعكس أجواء القرى وملامح الريف , فيها قصص ناضجة ومكتملة البناء , تبشر بميلاد جيد ومثال ذلك قصتي شظايا المتكسرة وهي قصة موفقة فنيا تدل على شمولية القمع والإسكات وزحل في أعماق الصحراء وهي من قصص الخيال العلمي فيها تجريب بنائي يحسب للقاص, أما قصة ثروة من نوع أخر فهي من أجمل قصص المجموعة بناؤها محكم وفيها شذرات فلسفية , ولغتها سلسة , فيما باقي المجموعة تناولت مضمون وثيمة حياتية مثل هموم المغترب والترهل الإداري والوظيفي والوشايات وجدلية الذكر والأنثى والقدر والمصير والوحدة والأحلام المكسورة وبعضا من الحقائق العلمية وهي مضامين من الأهمية بمكان .
ثانيا : لواء الأغوار الجنوبية : كتاب صادر عن دار عالم الثقافة للنشر والتوزيع من الحجم الكبير ويقع في 520 صفحة يحكي تاريخ الأغوار الجنوبية من العام 1700 تقريبا وكما ورد في رحلات المستشرقين للمنطقة , ويحتوي على 8 فصول مابين جغرافية وتاريخية واجتماعية وثقافية . كما وثق الكاتب لتاريخ عشائر اللواء الذي أغفلته الكثير من الكتب , هذا وقد وثق الكاتب الكتاب بالعديد من الصور .
ثالثا : رواية مخطوطة بعنوان : آيات رحمانية , ذات صبغة دينية تاريخية , يتناول فيها الكاتب تاريخ البشرية والآيات الدالة على قدرة الله , وهي بمثابة رد على رواية آيات شيطانية لسلمان رشدي .
رابعا : رواية مخطوطة بعنوان : الأرض والعاصفة: من ثلاثة أجزاء تحكي صراع الإنسان مع الإنسان حول الأرض
خامسا : مجموعة قصصية بعنوان : الحبيب المجهول : تقع في 17 قصة مابين العام والخاص ذات لغة شاعرية في معظم قصصها .
نماذج من اعماله:
المعبد المهجور..
تراتيل من سفر الفاشلين
قصص قصيرة
خالد عطيه العشوش
الإهداء:
إلى التي رجمتني بأبشع الكلمات, كلمات ليست كالكلمات رمقته بنظرات.. ليست كالنظرات,
الحبيب المجهول..
تراتيل من سفر الفاشلين 000
الإهداء إلى التي رجمتني بأبشع الكلمات
( 1)
المعبد00
في معبد حبها القابع في أعماقه, كما الوشم, وأمام صرحها العاجي الذي نحته من حجارة الكرنك الخالدة , وكما المسحور أو المصاب بالمس, جلس شاخصا ببصره إليها بعينين زائغتين, ترفضان االاستاجابة لأوامر البكاء الصادرة إليهما , وكعادته اخذ وبأصابعه المرتجفة يزين ويعيد النظر في الكثير من تقاسيم تمثالها الكر نكي , مضيفا شيئا من شموخ كليوباترا, وصلابة زنوبيا وبعضا من غطرسة ساحرة الإغريق اليه0
كان يراها بعظمة الشلالات المتدفقة من أعالي الجبال , وبروعة الهضاب: خضراء يانعة ,وبسعة الصحراء وامتدادها, وبجمال الغابات المملؤة بالورود, رأها فلاحا يعمل في أرضه بعشق أزلي, وفارسا في حومة الوغى يصرخ ويستغيث (ولقد ذكرتك والرماح نواهل مني وو)
صوت يملا عليه الصرح ( أنا هيمان ويطول هيامي صور الماضي ورائي وأمامي..)
( 2)
اسمها00
كانت بالنسبة له مصدر الإلهام والسلام والإيهام , كتب اسمها في صفحات القلب, كتبه ممزوجا بدم في العروق دب .
كانت مصدر حبه وهيامه , ومن هنا منحها الحب, والقلب والنفس , شرب اسمها كما الماء
يسير حيث تسير ويجلس حيث تجلس , رأى في خطاها الأمل يسير وفي ثوبها رأى الحب عبير وفي عينيها شعاع منير , امتدت يده إلى تمثالها , لامس أنامله , كانت فيهما رقة كما الحرير , نظر إلى عينيها , اخفق ففيهما سحر مثير ,ارق من النسيم , وأعذب من الماء , أنفاسها دواء
هدوءها ليل, وطلعتها راحت تحاكي أصالة الخيل .
صوت يبدد سكون الصرح مرة أخرى .
أناجيك , أحاكيك , انظر إلى زرقة السماء , انظر إلى الغيوم .,هناك قصر فوق السحب ,وأمل يبدد الشهب ,هناك خلف التلال ووراء الهضاب, لعبنا لهونا, وعدنا نقذف كلانا بشتى أنواع السباب
وددت ساعتها لو يغمر حبي كل نفس أبيه, وددت لو اغمر العالم بآمال سخية
( 3 )
الحمامه00
خرج من صرح حبها, أخذ يسير وحيدا في طريق طويل, وسط غابة ليس فيها هديل, ليس فيها حمامة بيضاء أو خضراء أو حتى سوداء, وليس فيها ضياء, ظل يسير ويسير إلى أن وصل إلى بركة ماء, حيث الحمام كثير, فر الحمام, التفت يمنة ويسرى ,رأى واحدة تنظر إليه بهدوء, تنظر بحنان ليس فيه سوء, قالت على استحياء :
- من أين أتيت من أي ارض سريت؟
قال مفتونا وقد لجمته المفاجأة :
- لما ؟
قالت بعينين تائهتين:
- أنت قدري وبقدر الله رضيت ( لم تقل هي ذلك ولكن انا تخيلت)
(4 )
يوم السبت00
لم يحتمل بقاءه بعيدا عن صرحها , عاد إلى أعماقه, صرخ بجنون لماذا الصمت ؟ لماذا الكبت ؟ قرر أن يصرخ بأعلى صوت, قرر أن يقولها لكل الناس, يوم السبت يوم رأيتك يوم أصابني السهم حيث تألمت , وأصابني الفرح فتألقت , غمرني شعور عظيم, كأنه سديم,وقلت يا رب يا كريم, جثوت , ركعت, لم احتمل لأني إليك اشتقت .
صوت يبدد وحشة الصرح الصامت: (ما بين معترك الأحداق والمهج
أنا القتيل بلا إثم ولا حـــــــرج)
(5 )
لحظة اللقاء 00
( لم يكن لقاءا بمعنى اللقاء وإنما زين له الفشل ذلك الهباء )
إنه الآن أمل بارق كنجمة في السماء , يعيش على تذكر لحظة اللقاء, لحظة كان الجو فيها غاية في النقاء, والصفاء ,حيث رأى العيون الكحلاء, وحيث فمها المفتر عن أسنان بيضاء, رأى شبابا وحروفا تجمع كل الأسماء رآها شامخة كما لو كانت قصرا في الهواء, أو ماءا عذبا يترقرق.. فيه للضمان شفاء.
انتابته سحابة من اكتئاب , وخوف من مجهولٍ عليها , خال كل العيون تتربص بها, تحسده منها وعليها , رآهم يجتهدون في تقبيل يديها, زاد خوفه تحول إلى هلوسة مجنون, وبدأ يخاف الظنون عندما أحس انه بها مريض ومسكون .
صوت :( مرضي من مريضة الأجفان
عللاني بذكرها عللانـــــــــي )
( 6 )
الغريب00
شعوره بالغربة ليس له حدود, وحتى يبدد شيئا من تلك الغربة كان في حديث دائم مع نفسه, وظل يطرح السؤال تلو السؤال, فمرة يخاطبها طالبا من كلماته أن تدخل إلى قلبها الرقيق, وإلى عقلها الأنيق, إنها الأجمل ,والأروع والأعقل, إنه يحبها ..يحبها يشعر بأنامله تداعب أناملها, ولسانه يسألها, ماذا تفعلين الآن؟ ماذا تقولين؟ وأنا الولهان, إنه يراها بين السطور, فيما يجمع هو أشلاءه كما المدحور .
وشعر فعلا بأنه غريب, شعر بأنه كئيب ,وبأنه عجيب, فهو لن يسافر, ولن يغامر, لأنه يراها يسترحمها, يستعطفها, يعيش على ذكراها, يغمره شعور زينته أوهامه بأنه سيراها, في كل ليلة يعيش معها بين السطور, يكتب اسمها بأحرف من نور, شعرا لم يقله شاعرٌ في بدر البدور, كانت بالنسبة له الدار والدور, خالها من عمى الحب ذات إحساس وشعور .
( 7 )
سأعود 00
بعد السفر سيعود ,وسوف يكسر كل القيود, سيعود وسيبقى اليأس مفقود, سيبقى الحب والأمل والوعود ,سيعود ليراها لينعش قلبه المفئود, سيحملها على روحه وفي قلبه الواهن المنكود, إنه وحيد في صرح حبها الممتد عبر تلا فيف روحه وجسده المقيد بالقيود, وحيدا يتجرع بُعد اللقاء يصرخ مناديا ويبقى النداء خواءا ,هباء في صحراءَ كانت بالنسبة له فيحاء, فيها الهواء والماء والدواء والوعود .
هناك ترفرف تحط في وداعة , تطير ترنو إليه, تقذفه بأرق ما قد بدا له بأنه نوع من أنواع السراب الخداعة.
(8 )
محموم يهذي ..
محموم يهذي باسمها, حواء, يهذي باحثا عن الدواء, نار في قلبه, جمرة تحرق الكبد, أي وباء؟, يهذي حبيتي حواء.. حواء روحي عقلي ,على يديك الشفاء, وزوال الهم, أنت الهواء أنت النور والفرحة, أضأتِ النفس ,هزمتِ عتمة ليلي, قمرٌ أضاء صفحة السماء ,حبيبتي انا أشلاء, انا ممزق انا غريق حتى الأحشاء .
بعد أيام أكون طليق, بعد أيام انظر الطريق, بعد أيام يشتعل الحريق, أعود لأرى ذاك البريق, أعود مشتاقا إليها لا أطيق.. لا أطيق بعدك يا حلوة الريق ,احن إليك لأنك الرفيق, لأنك الصديق, لأنك الشهيق.
إليك يا واثقة تسير, أشكو بعدك والحرمان, أشكو إليك قلبا بحبك ولهان, أشكوك إلى الرحمن ,سأكتب رغم ملل الخلان, سأكتب رغما عن انف الزمان, سأكتب لترحل عني الإحزان.
سوف اكتب في كل الدفاتر, سوف أتمرد على كل المخافر, سوف اقفز من فوق الأسوار اعبر الحدود إلى ساكنة القصر المرصود ,سوف ادخل حجرتها, سوف اطلب يدها,ولن أكون المفقود, ولن تكون سمائي ممطرة , ولن يكون طريقي المسدود , وسوف اصنع من ضفائرها ورود ا انثرها على شطآن عينيها والخدود .
سوف اهرب, سوف أطير سوف أتمرد على هذا المصير .
وسوف اكتب على نفسي الندم ,وسوف اشرب من كاس العدم, سوف احرق نفسي بالألم, وسوف انتحر على سفوح عينيك ,مضرجا بدماء سفحتها الأشواق حتى القدم.
( 9 )
المفقود00
ويعود كالمفقود, يعود إلى صرح حبها وكله وعود, ويعزي النفس بالردود, سوف يراها سوف يسود, سوف تأتيه بالقيود,ولكن لا شيء مشهود, ويصرخ باكيا مهزوما واليوم الموعود, النفس في جمود, تقول له لن تراها, إليكَ أبدا لن تعود.
تدب فيه قشعريرة التحدي, يصرخ ويحطم القيود , سأعود حاملا سلاحي سأعود لأبدا كفاحي ,لأدفن جراحي, لأحلم بأفراحي, ولكن ليس إليها, لقد قذفته ورجمته بأبشع الكلمات.. كلمات ليست كالكلمات رمقته بنظرات.. ليست كالنظرات, سحقته كما الحشرات.
( 10 )
المعبد الكسير.
هناك خلف التلال, وخلف الجبال, حيث كان يلعب ويلهو,حيث كان يحلم بالحبيب المجهول,جاءه الصوت من بقايا المعبد المكسور قائلا: ( آه لو كنت معي نختال عبره , بشراع تسبح الأنجم إثره
حيث يروي الموج في أرخم نبره حلم ليل من ليالي كليو بترا)
المعبد المهجور..
تراتيل من سفر الفاشلين ( 2 )
( 1 )
الصرح..
مضت سنين طوال والصرح مهجور, تملأه رطوبة وغبار , كانت الشمس إذا طلعت تبدد شيئا من رطوبته, وإذا غربت تتركه لتراتيل وحشيه, تبعث في نفس من يراه خوفا وفزعا شديدين.
عاد إلى الصرح, بعد أن لملم جراحه ,عاد وبقايا الجراح التي أثخن بها لا تزال تعيد إليه الذكريات الأليمة , كان الظلام مخيما , علته أتربة وغبار قديم , وقف صامتا , حاول أن ينفض شيئا من غبار السنين, الذي كان يثقل أعماقه , أرهف السمع عل وعسى أن يأتيه صوت يخفف من وطأة جرحه الغائر في أعماقه , السكون الشديد,واختفاء أخر خيوط الشمس, زاد من وحشة المعبد وأضفى شيئا من صورة وحشية إلى الصرح , راح يائسا يحاول الوقوف على أي شيء ,ومهما كان, ليخفف من حمى السنين الطوال, التي لم يدخل فيها معبده المهجور.
على حين غرة انتفض مسحورا ومبهورا, فثمة على ما يبدو صوت, أرهف السمع سمعه يقول وكأنه قادم من أعماق بئر مهجورة: ( ارق على ارق ومثلي يأرق
وجوى يزيد وعبرة تترقرق )
( 2)
تذكر ..
راح يائسا يتذكر, محاولا التلذذ فيما يتذكر , مع أنه كان يدرك بما لا يقبل الشك, بأنه لم يكن هناك ثمة من ذكرى, ولا حتى ما يشبه الذكرى, تذكر أيام الفراق , تذكر الوحدة وغربته التي كانت لا تطاق , تطوقه تخنقه, وأدرك أنه أشبه ما يكون بتائه في جزر واق الواق.
تمتم بما يشبه الجنون .
أهلا أيها المعبد, ففيك ساكنة الفؤاد , فيك سالبة الرقاد , فيك التي أحبها حتى الإجهاد .
جاءه صوت , زاد من بريق عينيه, وتلصصهما في المكان كقط جائع.
صباحا مساء ليلا لن أنساها
لك القلب والجوانح وما حواها
لك الروح والنور ليس سواها
مشتاق , مشتاق , لبسمة من فاها
( 3)
21 يوما ..
إنها الأيام التي ترك فيها الصرح, وغادر فيها معبد حبه المهجور , مرت إحدى وعشرون من الأيام , مرت كأنها أعوام , أو أشبه ما تكون من الحجارة أكوام , الفراق يدب في جسده حتى العظام, ظمأ وعطش حوَله إلى حطام , فجأة وعلى حين غرة, مرت من أمامه تسير كالجهام, تنظر إليه تسحره تلجمه.. حصان لا يملك إلا أن يسير إلى الحِمام .
عندها فقط انطفأت ثورة الغضب , أغلق كل الكتب , فيما قلبه تحيط به ألوان شتى من الحجب
صوت( طاف بالدنيا شعاع من خيالي
حائر يسأل عن سر الليالي
يا له من سرها الباقي ويالي
لوعة الشادي ووهم الشاعر)
( 4 )
أحزان وانكسارات ..
كم هي الأحزان والانكسارات التي تغلف روحه, ونفسه , وكم هي معركة خاسرة تلك التي صعقته بها, رجمته, أهملته, كانت أطواق حبها تلتف حول عنقه منذ الصغر, وها هي تلفحه بنارها عند الكبر, جزء من نفسه عاد إلى المقر ,عاد إلى القلب إلى الروح لا مفر , انتفض رعبا وهلعا, فهو مجرد ملاح تاهت سفينته في بحار حبها من الرياح.
صوت فيه اكتئاب ( اقضي نهاري بالحديث وبالمنى
ويجمعني والهم بالليل جامــــع)
( 5 )
كذاب ..
كان يؤمن بما لا يقبل الشك بأنه كذاب, يوم قرر أن يهجر معبد حبها, أدرك ذلك عندما جاءه الصوت من أعماقه قويا مجلجلا يقول: كذاب إذا قلت أني سأنساك, وكذاب إذا قلت بأني لا أهواك
أحبك ولن أرضى بسواك , صوت أخر مزق السكون ليقول : حبي لك بركان ثائر , زلزال قوي جائر , يعصف بالقلب وبالسرائر , بالعقل بالروح هادر , ساد السكون قليلا, كان سكونا ثقيلا ترنح.. سقط عند قدميها هاله عودته إلى صرحها , لقد اقسم أن لا يعود إليها , أن لا يتذكرها , ومع ذلك بدد السكون صوت يقول : لن تراها , لن تراها , ولن تحب سواها .
( 6 )
المشاعر المسفوحة ..
مشاعره المسفوحة والمراقة, تملا المعبد, وتلطخ الصرح, تحوله إلى (سربروس) فاغرا فاه, جاء من أقصى الأرض ليسرق حبه , وأرضه , تكَسْر الصرح , هاهنا ساعد مبتور ,وهناك طفل مغدور وقلبه المفئود لم يزل مبتور,رغم جرح سيثور , وسوف يقذف( سربروس) بالحجارة والنذور
نظر إلى صرحها متذرعا وهامسا, يا وردة شوك في عقل معمود, يا رائحة عبقت في صدر مجهود , هل من ساعة فاسود ؟
( 7 )
خلف التلال ..
خرج هاربا من الصرح, خانته قدماه وخذلته , لم يكن ثمة من مكان يلجا إليه , حطم ما بقي من صرح حبها, حوله إلى أشلاء , شوه الوجه الذي كان ينبض بالحياة , هرب إلى هناك خلف التلال , وراء ذلك الشلال حيث كانا صغارا .
صوت يأتيه من أفق خياله المهزوم يقول :
هناك خلف تلك التلال
هناك وراء ذلك الشلال
شربنا شعاع الشمس حتى ارتوينا , لعبنا, لهونا ,هناك خلف تلك التلال حرثنا الأرض نبشناها, زرعناها , كتبنا اسمينا بعرق نازف من زلال, هناك خلف التلال, قطفنا الثمار معا, خلطنا الزيت بخبز نار .
سقط أشبه بالمغشي عليه ,جر جسده الواهن إلى تلك الشجرة ,عاد إليه الصوت من جديد يقول:
هناك خلف تلك الروابي, أشعلنا النيران حرقنا الطفولة, فذابت كما الشمعدان, هناك خلف تلك النجاد جمعنا الزهور, نثرنا البذور, سكبنا عليها السهاد , فظلت يانعة ترتوي من حبنا نائمة حتى الرقاد.
( 8 )
التائه ..
تائها ظل يسير في متاهات الردى, مثقلا بهموم أثقل من الحجارة , تجثم على صدره عباءات الفشل الأسود , حاول أن يجمع ما بقي منه , لم يجد إلا حطاما ممزقا ويأسا مزمنا , نظر إلى السماء, تتمتم بأدعية مبتهلة خاشعة , همس : أنت الجدير بالحب والثناء..
( 9 )
الإبحار ..
هذه المرة وبعد أن دب فيه الأمل, وقف منتصبا, قرر الإبحار والسفر, قرر أن يمخر عباب عالمها المجهول , أبحر مرات ومرات , كان الفشل حليفه في كل الجولات , ومن حيث أتى عاد , تمزق الشراع وتبعه شراع , كانت الريح عاتية , والأمواج عالية , تقذف سفينته ذات اليمين وذات الشمال , وفي الأفق فشل جديد أخر يجذبه يسلب منه القدرة على الإبحار.
( 10)
السندباد..
وسط الأمواج العاتية وبينما كان يحاول جاهدا تثبيت الشراع , جاءه الصوت من أعماق البحر ,
يقول : رحل النهار
ها إنه انطفأت ذبالته
على أفق توهج دون نار
وجلست تنتظرين عودة سندباد من السفار
هو لن يعود
هو لن يعود
لقد سافر رحل بعيدا.. أسرته آلهة البحار..
الرسول00
على خلفية الإساءة إلى الرسول الكريم / ابتهالات عاشق
( 1 )
النبض..
الرسول هذا النبض فينا , الرسول الذي سيحيينا , الرسول الذي سيدمي مآقينا , صلوات عليك يا سيدي , هي الأمل الذي سينجينا ,من بعد ما موت , ستعود لتقذف في وجوهنا صلواتنا و مآسينا .
لتقتل فينا الغرور, والجراح, لتخرجنا من ظلمات أنفسنا , إلى نور يزكينا .
الرسول هذا النبض فينا, نتعبد باسمه, ليتما يعود ليعرف من فينا ..
الرسول الذي اقسمنا باسمه,أن أنت هادينا, وحامينا , روحك الطاهرة, نور يهدي التائه في غياهب ليالينا , لك الله أيها النور من قوم ظالمين , ما عرفوا طهرك وما عرفوا أنهم ناقمينا.
أبا الزهراء ,هل من قبس من نور وجهك الكريم؟, ندنو به من مقامك الكريم ليبقينا .
( 2 )
صحوة ..
الرسول هذا النبض فينا, سيعود من بعد ما رحيل , باعثا في النفوس الظمأى , صحوة الرحيل.
سيعود ليرجم فينا مكر السنين , وأوجاعا تتجافى لها المضاجع تأنيبا وليس تأمينا .
لك الله سيدي من قوم ظالمينا, ماعرفوا قدرك وأنت ألامينا , ما عرفوا أنك في وادٍ غير ذي زرع
جئت بالحق حطمت رجسا أعمى الأحداق فينا .
( 3 )
الرسول الحي ..
ما أنت يا سيدي إلا رسول قد خلت من قبله الرسل , ما أنت إلا رسول قد أصبح قاب قوسين أو أدنى , هناك عند سدرة المنتهى , دنوت اقتربت, تكشفت لك الحجب , أي مقام هذا الذي أصبحت فيه من الملكوت تقترب ؟, وهناك على الأرض قوم يبتهلون, رافعين الأكف يدعون لك.. إنهم النجب, لقد بلغتَ سماء لا يطال لها على جناح, ولا يسعى لها, مهما كتبت الكتب .
لو كان البحر مدادا لأقلام الشعراء, ولو اجتمعت بُردى ونهجها, لبقيتَ السماء التي ما طاولتها سماء ,
( اقتباس ) ونودي اقرأ تعالى الله قائلها لم تتصل قبل من قيلت له بفم ..
هناك أذن للرحمن فأمتلات أسماء مكة من قدسية ابـــــــد
سرت بشائره بالهادي ومولده, بالشرق والغرب مسرى النور في الظلل
أتيت والناس فوضى لا تمر بهم إلا على صنم قد هام في صنم .
( 4 )
العاشق..
اقتباس : ليالي بعد الظاعنين شكول
طوال وليل العاشقين طويل
ليالي باقات ورد وأشعار, سطور حالمات اهديها لروحك الطاهرة, ليس عنها بديل , ليالي شوق لمقامك الكريم, لروضة من رياض الجنان, تسكنها أنت بها نزيل , الله أكبر أصبح الظالم على مقامك يتطاول , أي ظلم هذا إني منه عليل؟! , الرسول أيها النبض فينا , عد لتطهرنا لتزكينا من خناس جاثم على الصدور يقتلنا يفنينا .
عد لترى زمانا وغربانا تنعب, تسب, تشجب, تستنكر, تمزقنا إربا فتردينا .
الرسول أيها النبض فينا .
نسوا أنك تركت لنا, ما إن تمسكنا به لن نتوه , اسم الله العظيم والضمير إن صحا فينا .
في أصقاع مكة وشعابها, في بطحائها, في نجادها ووهادها , تحت وطأة حرِّها وضيق بابها , خرجت, حلـَّقت ,أحييت أمواتا , حطمتَ الأصنام من حجر , ومن بشر, كانت بالأمس تجافينا .
( 5 )
الزلزلة ..
الرسول هذا الأمل فينا , من غيره إذا زُلزلت الأرض زلزالها يبقينا , يشفع لنا من نار قد تلفح الوجوه فنمسي بها جاثمين , يوم لا تنفع مليارات ولا تريليونات نفتدي بها من مآسينا .
سيثور الرسول فينا, سيحرق الأقنعة, ويزيل اللثام عن وجوهنا, فيعرف ساعتها من فينا .. يومها ستضع النفوس أوزارها, وتلقي بأثقالها, وسؤال واحد يؤرقنا .
ما لها ؟!
ما لها ؟!
الرسول يومها, ورحمة الله فقط ستنجينا, تبعث الحياة فينا , يومها تورق الأشجار وينبت الزرع
يعود الماء كوثرا, واللبن لبنا, وسحقا للظالمين .
( 6 )
الطاغوت ..
محمد من أعماق الزمان والنور, تقذف الطاغوت, ترجمه, تمزقه شراذمه متفرقين , تحرق الظلم تزج به في مزابل التاريخ , تحلق في سماء الحق تنشر العدل.. والشياطين في الأرض مصفدين, وأعوانهم من الظالمين يقتاتون على جماجم الأطفال, يفقأون العيون , يلتهمون الزرع ,يهلكون النسل والحرث , تدوس أقدامهم التراب تدنسه , محمد تعويذة الحق تلجمهم وتحد من زحفهم وانتشارهم , إنهم هناك في غياهب الظلم يقبعون , نبض في العروق يحفظها من الأفك ومن أحقادهم أنى يؤفكون .
محمد والذين معه نور في العيون , أمل بارق يبدد عتمة السجون , يسافر عبر الزمن يسفك الظلم يلقي به في أتون , وأنى يؤفكون.. أنى يؤفكون , هذا النبض فينا رغما عنهم سيهزمون ويشردون ويسحقون , والصحراء التي انبتت من كل زوج بهيج.. منها يهربون .
اقتباس :فاق النبيين في خَلق وفي خُلق
ولم يدانوه في علم ولا كـــــــرم / رسالة منه إليهم بها يحرقون ويقتلون
( 7 )
الرحيل ..
رحلتَ وكم باك عليك بأجفان شادن , رحلتَ وكم باك عليك بأجفان ضيغم , هناك عند سدرة المنتهى لا بل قاب قوسين أو أدنى, تحلق روحك الطاهرة في ملكوت الله , وخلفك الشهداء والقديسين , ومن حولك الولدان المخلدون, كأنهم اللؤلؤ المكنون , حولك يسرحون ويمرحون
ويوم النفخ في الصور , نحن وهم من الأجداث ينسلون , وقائل يقول:
ما لها ؟!!
ما لها ؟!!
يوم إذن تحدث إخبارها .
بان ربك أوحى لها .
يومها الذين ظلموك يُرجمون, يُحطمون, إلى الجحيم يساقون, الرسول يومها ورحمة الله فقط ستنجينا, تبعث الحياة فينا , يومها تورق الأشجار وينبت الزرع.
يعود الماء كوثرا واللبن لبنا وسحقا لهم, أنى يؤفكون .
( 8 )
أسعف فمي ..
أسعف فمي, وأنا أقف في بابك الكريم , أقف عند مقامك العظيم , أسعف فمي فالكلام نثرا , شعرا , أصبح سقيم , والظالم ذاك الشيطان الرجيم, يصورك يرسمك , يستبيح نورك الرحيم , أبا الزهراء غفرانك إذا تجاوزت قدري , فأنت بكل اللغات, حليم,هناك أراك في البطحاء والبيداء في
شعابها ووديانها تحت حرها ولهيبها تحطم الرجس والأزلام , تدوس خيلك الميسر والأصنام , تحرر النفوس تسجد لخالق الأنام
***أبو صلـــــــيبا 000(1)
مهداة الى روح ابو صليبا حيث كان يملا المكان بركة
كنقطة ضئيلة متناهية الصغر بدا يسير مترنحا تائها على غير هدى , قاطعا المسافة نفسها التي يقطعها ربما مرة أو مرتين في الأسبوع , بدءا من (المزرعة) مسقط رأسه مرورا (بعسال) محطته الثانية , (فالميره ), إلى أن يصل إلى مشارف( الصافي) مخترقا (العنبر) , (فحارة العرامين)ومن ثم( السيل)انتهاء (بالجور)محطته الأخيرة 0
وكغيري من أشقياء الحارة كنت انتظر مروره بفارغ الصبر, للتحرش به, أو لمراقبته وهو يقذفنا بالحجارة متمتما ولاعنا بلغته غير المفهومة ( سا 00 سا ) وهذا ما يتقنه من اللغة 0تجمعنا معا قرابة الخمسة, لأخذه على حين غرة ,فيما كانت تلك النقطة تكبر شيئا فشيئا , وبالضبط عندما وصل مقهى( سليمان الاطرم )بدأت ملامحه بالظهور , كان نحيلا هشا ضعيف البنية , يده اليسرى معقوفة إلى الأسفل , أما الثانية فكان يحمل بها أشياءه
التي كانت عبارة عن حجارة صغيرة يقذف بها من يتحرش به أو يضايقه , ولفائف من دخان (الهيشه ) يشعلها بين لحظة وأخرى , أما رأسه فكان مغطى بقطعة بالية من القماش , فيما كان يرتدي معطفا ضخما فوق جاكيت سوداء متهرئة , غير عابئ بارتفاع درجة الحرارة 0
وقفنا متأهبين وخائفين في نفس الوقت لحظة اقترابه منا , وكان كل واحد منا يحاول وعن غير قصد أن يحافظ على هدوءه واتزانه أمام هذا المخلوق البشري الهش المطلق الحرية , وكنت وبالكاد أسيطر على مشاعري وأنا أراه يسير متعبا ومترنحا لا يتوقف الالشرب الماء من القناة المحاذية للشارع , أو لإشعال سيجارة , أصبح قاب قوسين منا أو أدنى , يسيل منه العرق بغزارة , نظرت حولي لم أر أحدا من تلك( الفتوات) كانوا قد أطلقوا سيقانهم للريح ,فيما وقفت أمام( أبو صليبا )وجها لوجه , ربما يكون الخوف الشديد منه هو الذي جعلني أتسمر في مكاني, والدليل على ذلك أني فقدت للحظة وجيزة قدرتي على الكلام , وكنت انتظر منه أن يلطمني اويقذفني بأحد حجارته كما لو كنت شيطانا مريدا , وكانت عيناي تراقبان حركة يديه المرتجفتين, وتمتمته غير المفهومة ( سا 00سا ) ساد السكون قليلا ,ولاحظت انه وبفطرته كإنسان يراقب المكان خوفا من مفاجأة , أو ضربة على حين غرة , وأدركت انه يملك القدرة على التحليل والمراوغة والأخذ بالأسباب , وعندما شعر بالأمان حدق ممعنا النظر في قسمات وجهي الشيطانية , بينما أغمضت عيناي منتظرا ذلك المنقذ أو المخلص لي من هذا المخلوق , وعندما طالت لحظات الانتظار فتحت عيني اليسرى فقط نصف انفتاحه , فيما كانت الأخرى مطبقة الأجفان , امتدت يده برفق شديد ملامسة وجهي , اخذ يمررها على مناطق مختلفة منه , وكأنه يحاول قراءة ما يدور بخاطري من أفكار , امسك بأنفي الصغير ,ثم بعد ذلك فرك أذني برفق شديد , توقفت بعد ذلك يده عن الحركة , ليدخلها في جيب معطفه, مخرجا قطعة حلوى كبيره ,خرجت بها من هذه المقابلة المرعبة مع( أبو صليبا ), الذي كان يحاول جاهدا الإيحاء لي بأخذها 0
في تلك اللحظة بالذات أخذت احلل شخصية( أبو صليبا) رابطا بينه وبين (فرحان) لذلك الشبه بينهما , غير أن فرحان كان يملك القدرة على الكلام ويتلاعب بالألفاظ ويحفظ الشعر , ملامح وجهه قاسية ,وله نظرة ثاقبة فيها شيء من المكر , أما شبريته الذهبية الحادة الرأس فكانت مصدر خوف لايوصف بالنسبة لنا ,وشارباه المشوبان بالحمرة وصبغة الدخان المنبعث من انفه فكانا أشبه ما يكونان بالأسلاك المثبتة على شفته أسفل انفه العريض ذي الفتحات الواسعة , وأما( أبو صليبا) فربما ولست متأكدا مما أقول ,كان صاحب إحساس مرهف ولكنه لا يملك القدرة على التعبير عن تلك المشاعر والأحاسيس 0
وأنا في غمرة أفكاري هذه كان (أبو صليبا) قد ابتعد عني شيئا فشيئا , فيما خرج الأشقياء الأربعة من مخابئهم غير مصدقين ما رأوا وشاهدوا , كانت عيونهم ترمق قطعة الحلوى باستغراب وعفويه , لم اترك لهم مجالا للحوار أو النقاش , قسمتها بينهم فيما اكتفيت أنا بمتعة المشاهدة , وأنا أراهم يلتهمون هدية (أبو صليبا) لي 0 حتى لحظة التهامهم لقطعة الحلوى , كنت لا أزال أعيش تلك الحالة من اختلاط المشاعر والحزن والأسى على أحوال ذلك لمخلوق الذي كان ينظر إليه على انه لا شيء , وكانت القصص التي تحاك حوله أكثر من القصص التي نسمعها عن جحا أو عنترة ,وفي الحقيقة لم أر مما يقولون سيئا , وأغرب ما سمعته عنه , أن حفنة من لصوص الآثار حاولوا تقديمه كقربان لفك الرصد عن احد الكنوز , وقد تقدموا بعرض مغري , لأهله للموافقة على ذلك , غير أن شقيقه الأكبر رفض ذلك رفضا قاطعا 0 قطع علي حبل أفكاري احد الأشقياء وهو يقول: ( هل بقي معه شيء من تلك الحلوى )؟ قلت بشيء من الازدراء :( إنها الاخيره معه ) وعندما حاولوا اللحاق به منعتهم مستميتا من فعل ذلك وقلت لهم بصرامة ( لن نؤذي أبو صليبا بعد الان ) وبشيء من الاستهجان والخيبة تفرقوا غير راضين عن تصرفي هذا , فيما بقيت واقفا أتابع (أبو صليبا) الذي اختفى كنقطة ضئيلة متناهية الصغر مخلفا وراءه شعورا بالحزن كان يلفني, وندما مني على فهمي الخاطئ لشخصيته الغامضة 0 سرت لمسافة ليست بالقليلة وراءه مطرق الرأس , فيما أخذت أتحسس المناطق التي لامسها بيده , أخذت امسح بيدي على وجهي , وفركت انفي كما فعل , ووقفت أراقب ذلك الفراغ الذي تركته تلك النقطة وراءها , وعندما يئست من عودته عدت أدراجي إلى ذلك المكان الذي أهداني فيه قطعة الحلوى , كانت (سأسأته ) وملابسه الرثة ,ولفافات سجائره تنتشر في أرجاء المكان , فوق الإسفلت, وعلى حواف الطريق ,وبقايا من عود ثقاب كان قد أشعل فيه سيجارته المفضلة ملقى طريحا على الأرض , فيما أثار أقدامه , في المناطق الترابية , ظلت تعانق الأرض وتبعث فيها الحياة من جديد , التقطت في حالة من الانتشاء عود الثقاب الذي تركه خلفه وكأنه كنز ثمين , وبحرص لم أعهده من قبل قبضت عليه بيدي معانقا , إني أراه في كل مكان يسير مستكشفا عالمنا الخفي, الذي لم يكن له فيه أي وزن, أو مكان 0اراه ينثر البركة في حقول الذرة ,و يزيد من تدفق الماء في القنوات , فينبت (الخرفيش ) و ( الحناء ) وتعبق رائحة ( العصفر) , (والريحان) ,و(النعناع البري) ,وتسيل عصارات العنب من حباتها كحلمة ثدي يسيل منها الحليب في فم الرضيع 0بعد هذه الحادثة وبعد أن اختفى كنقطة ضئيلة لم تقع عيني على( أبو صليبا)قط , مرة واحده جاء الأشقياء يصرخون ( أبو صليبا 00 أبو صليبا !!) قفزت فزعا ومشتاقا له , وأخذت اركض,واركض لاهثا لرؤيته , شاقا لي طريقا وسط أغصان( السليل) الجارحة محطما ومكسرا أي عائق يصادفني , صارخا وباكيا دون جدوى 0 ______________
1- فازت هذه القصة بالمركز الأول في مسابقة مهرجان ملتقى بصيره الثقافي ونشرت في مجلة انكيدو الثقافية الحرة
انظر الرابط التالي:m.ankido.us/forum.php?action=view&id
حلـــــــــــيط 000(1)
مهداة الى احد الرموز الشعبية من ابناء الاغوار الذي افرح العشرات بصوته/ والى رفاقه
كان أخر عهدي به منذ فترة طويلة جدا ,عندما كان في عنفوان شبابه وعطائه , بعد ذلك كنت أراه على فترات متقطعة , لم أتمكن خلالها من تعرف أحواله وظروفه, و ويبدو الأمر مختلفا هذه المرة عندما رأيته يسير مترنحا, زائغ النظرات , تائهها , يتوكأ بيده اليسرى عصا كثيرة النتؤات , وكأنما قطعت لتوها من شجرة شديدة اليباس , فيما كان بيده اليمنى يتأبط ذراع زوجته التي دلفت به إلى ردهة المشفى , أمعنت النظر في (حليط) حد الاستغراب , سائلا نفسي أمن المعقول أن يكون هذا حليط ( أبو توفيق ) الاسم الأشهر في تاريخ قريتنا ؟! (حليط) الذي كانت الناس تقطع المسافات الطوال لسماع صوته وموسيقاه , حليط الذي لو قدر له لقاء (عبد الوهاب) لكان من الأسماء اللامعة في عالم الفن , ربما أكون في مشاعري هذه وأنا أراه , الوحيد الذي ساءه ما كان عليه (حليط) من حالة يرثى لها , في الوقت الذي كان غيري لا يعيره أدنىاهتمام0
(حليط) واحد من أربعة فرسان اشتهروا في قريتنا بفنهم الشعبي الرفيع , كان هو عازف الإيقاع ( الدربكة ) الأول أما الثاني فكان (محمد مونس) عازف الناي ( الشبابه ) الأول أيضا , أما الثالث وهو أسطورة زمانه في قريتنا, وكان كفيفا ( أبو علوان ) عازف إيقاع أيضا , كان اسمه عند بعض النابهين من قريتنا يقترن باسم (سيد مكاوي) , أما الرابع فكان ( أبو رمزي ) الذي كان يتناوب العزف على شبابته المزركشة بالخرز الملون مع (محمد مونس) 0
ولا ادري لماذا أجد علاقة بين الفرسان الاربعه ( دارتنيان) المعادل الموضوعي بالنسبة لي (لحليط) و ( بورتوس واراميس واتوس) كمعادل موضوعي أخر ل ( أبو علوان ومحمد مونس و أبو رمزي ) علما أن وجه الشبه بين الفريق الأول والثاني مختلف جدا , وليس ثمة علاقة بين عالم الغناء والعزف من جهة, وبين عالم الفروسية من جهة أخرى , ولكني ومن وجهة نظري كنت انظر إلى الموضوع من زاوية أنهم أربعة لا يساوم الواحد فيهم على الأخر, وكان شعارهم (اصرف ما في الجيب , يأتي ما في الغيب ) وهو موازي لشعار ( الواحد للجميع والجميع للواحد ) 0 كان حليط ( أبو توفيق ) القاسم المشترك بين الأربعة , بصوته العذب وكان إلى جانب (أبو علوان) يشكلان ثنائي في العزف على ( الدربكة ) فيما ( أبو رمزي ومحمد مونس) يشكلان ثنائي في العزف على الشبابه , يقودهم في ذلك ويوزع الأدوار بينهم ( حليط ) 0
الغريب في الأمر أيضا أن ( حليط ) مع الثلاثة ( أبو رمزي وأبو علوان ومحمد مونس ) وباتفاق منظم لا يحيون أية (رقصه) ومهما كانت إلا بوجودهم معا , الأمر الذي جعل أهل القرية مجبرين على إحضار الأربعة , تحت أي ظرف كان 0
وأصبح لدى الجميع قناعة مطلقة بأن أية ( رقصه أو دبكه ) لا يوجد فيها الاربعه محكوم عليها بالفشل الذريع 0وأصبحت ( دربكة أبو علوان ) و( شبابةابو رمزي ومحمد مونس ) مضرب مثل واعتزاز عند أهل القرية , أما أي صوت غير صوت (حليط) فهو مرفوض رفضا قاطعا 0
في ركن قصي - وربما لأول مرة ذهبت بصحبة أبناء الحارة لرؤية الفرسان الأربعة , لقرب المسافة من ناحية, ولشغفي الشديد في استكشاف عالم (حليط وأبو علوان ومحمد مونس وأبو رمزي ) من ناحية أخرى - جلست انتظر حضورهم فيما حشد كبير من الناس كانوا يشكلون حلقة واسعة للدبكة , وفي زاوية من زوايا الحلقة ترك فراغ للأربعة , ليس فيه إلا ستة قطع من الطوب, وضعت فوق بعضها , كل قطعتين معا ليجلس عليها حليط وفريقه , وفوق قطع الطوب وضعت قطع من مفارش بالية, لم تعد ثمة حاجة إليها كعلامة مميزة للأربعة 0
وكنت وببراءة أتابع المشهد الملحمي أمامي , رأيت في وجوه المنتظرين رغبة جامحة لقدوم حليط وفريقه وانتظار شبه محموم لسماع صوت (حليط ), بل إن الأمر كان يصل حد الرغبة في مصافحته والتبرك بقدومه , أدركت فيما بعد أن (حليط ) وفريقه وفي قريتنا بالذات التي كانت تعيش حالة من الاختناق
الاجتماعي والفكري , هم مصدر سعادة وفرحة شريحة كبيرة من أهل القرية, الذين كانوا محرومين من أشياء كثيرة , وان العالم كان بالنسبة لهم مجرد (عرائش وخشش)ليس غير00
وشق الانتظار والترقب هتاف وصرخات الحاضرين ( جاء حليط 00 جاء حليط ومعه أبو رمزي ومحمد مونس وابوعلوان كمان ) وارتفعت الأصوات بالتهليل والتكبير , فيما وعلى استحياء مددت عنقي باحثا عن (حليط) وراغبا برؤية الكفيف الذي أذهل الناس بعزفه على ( الدربكة ) شاهدتهم الأربعة وشاهدت معهم شخصا خامسا يدعونه ( احمد عواد ) يقولون بأنه معاون لحليط في الترديد والغناء 0
كانوا يستقلون ( تراكتور المسي ) الذي أحضرهم إلى المكان , بحثت بعيون زائغة خائفة عن ( حليط ) كان يجلس إلى يمين السائق على الجناح الأيمن (للتركتور) يقابله على الجهة الأخرى (أبو رمزي ) أما محمد مونس وابوعلوان واحمد عواد , فكانوا يجلسون في العربة, يتوسطهم أبو علوان الذي كان يمسك (دربكته)بعطف أبوي ليس له مثيل 0
لم ينتظر احد نزول حليط وفريقه من ( التراكتور ) ,فقد قفزت مجموعة من الشباب الواعدين والحالمين بمرافقة حليط وفريقه وحملتهم على الأكتاف, وأجلستهم في الأماكن المخصصة لهم , فيما راح احمد عواد يحمي ( الدربكات ) 00
وأبو رمزي ومحمد مونس يجربون شباباتهم للعزف , في انتظار شارة البدء من (حليط )الذي كان يهمس في أذن احمد عواد للاتفاق على المقاطع التي سيبدأون بها ملحمتهم التاريخية 0
وشيئا فشيئا بدأت ليلة من ليالي القرية, وأخذ صوت حليط وبعذوبة نادرة يشدو بعذب الألحان, التي وحتى لحظة متأخرة كنت اصغر من أن افهم منها شيئا , مع أن معظمها كان ترديدا لاغاني معروفة ومشهورة , ولم أكن ادري لماذا كان الحاضرين يتمايلون طربا على تلك الأنغام , بل أني لم أكن افهم ماذا تعني ألفاظ من مثل ( أحلى 00 أحلى ابوتوفيق ) ويقصدون حليط احتراما وتبجيلا ) و ( اعطي 00 اعطي يسلم هالصوت ) أو ( اردف ) عندما تشتد حرارة الدبكة وقوتها ) الأمر الذي يدفع أعدادا كبيرة من المتجمهرين للمشاركة في الدبكة والرقص فيها حتى ساعات الفجر , وقولهم ( ولعت ) اذا بلغت الدبكة حد ارتداء ملابس النساء من قبل الرجال , للنزول بها إلى ساحة الرقص, ومحاكاة النساء في رقصاتها 0
ادهشني الثنائي الجديد (احمد عواد ) وهو يردد مع حليط ( الله يلعن الدخان اللي سببلي الدوخان, كل ساعة عالدكان يا غريب روح عبلادك يا غريب ) ليرد عليه حليط ( يابو تكسي ملاكي خذي أحمد ويياكي خلي يعشق دواكي على كده وكده ما يناموش , ما يناموش عشاق الليل ما يناموش ياليل يا عين ) ووسط هذه الاحتفالية البسيطة كان (أبو علوان) وبمعاونة من أحد الواقفين يجذب نفس سيجارة يضعها على فمه ذلك المعاون , وما أن تنتهي سيجاره حتى يطلب غيرها دون أن يرفض له طلب , فيما شخص أخر كانت مهمته مسح عرق (حليط )وتجفيفه وتقديم الماء له , ولا ادري لماذا دفعني الفضول للاقتراب , درت دورات عديدة حتى اشق لي طريقا وسط الملتصقين , كانت الأكتاف أقوى من أن أزحزحها أو أحركها , وإذا ما أفلحت , كان يدفعني احدهم زاجرا وساخطا, لأني اختلست منه شيئا من نشوته بسماع صوت ( حليط ) فقط ومن مكان ضيق جدا, بدا لي كاهل أبو رمزي الذي كان منشغلا بالعزف على ( شبابته المزركشة بالخرز الملون ) أما الساحة او ارض المعركة , فقد كانت مكتظة بالدبيكة , الذين كانوا وبحركات آلية منظمة يدهشوون الواقفين ويدفعونهم للتصفيق بشدة , جذبني أحد الواقفين بغلظة ورمى بي خارج الحلقة ساخطا, ومتمتا ( ولد مسقع ) ووقعت عين (حليط )علي وأنا أقع أرضا , وبإحساس مرهف توقف عن الغناء, ليصمت بعد ذلك الجميع, وسط ذهول واندهاش غريبين, وسؤال محير مالذي أغضب (حليط )؟! وقال حليط برقة ( تعال يا شاطر ) وقبل أن ينتظر قدومي اندفع شاب قوي مفتول العضلات ووضعني بين يدي حليط الذي حملني وأجلسني مكانه , فيما أخذت الأيدي تمسح على رأسي إرضاء (لأبي توفيق) الذي وتحت ضغط المعجبين راح يشدو بصوته مرة أخرى( نعم يا سيدي رعاك الله , ابني , يا خالد , حماك الله) , ولاحظت انه كان ينظر إلي بين لحظة وأخرى, وكأنه يطمئن على حالي , فيما كنت أعيش حالة من الزهو لم اشعر بها من قبل , مع شعوري بشيء من الأسف لأني جئت إلى مكان ما كان يجب علي المجيء إليه, -ربما لصغر سني , او لأني لم أخبر أحدا من أهلي عن ذلك , مع أنها المرة الأولى- وزال ذلك الأسف بعد أن شملني حليط بموقفه الرقيق ذلك, وشفافيته المعروفة , وأهداني ذلك المقطع بصوته الرنان0
مع ساعات الفجر انتهت (الرقصة) وابتلع الظلام أكثر الحاضرين, فقد عادوا إلى عرائشهم وخششهم وآلامهم , وسمعت حليط مع فريقه يتفاوضون على الأجرة التي لم تتجاوز ربما الدينارين او الثلاثة وفي أحيان كثيرة مجانا , وسمعت ( أبو العريس ) يقول ( ما قصرت يا أبو توفيق والله ما قصرت ), وكما اختفى أبو توفيق وفرقته , وسط الظلام ,اختفيت أنا أيضا سائرا على رؤوس أصابعي حتى لا يشعر والدي بقدومي 0
استسلمت للنوم وأنا استعرض في مخيلتي موقف حليط وإنسانيته , ورضاه بأقل القليل من باب ( الواحد للجميع والجميع للواحد ) 00عندما دلف (حليط) بصحبة زوجته إلى ردهة المشفى في انتظار دوره لمراجعة الطبيب , دلفت وراءه وكأني بذلك أعود إلى طفولتي وأحلامي البريئة , او لسماع أصوات من رحلوا وهم يرددون ( أحلى 00احلى أبو توفيق ) كانت مشاعري متضاربة وحزينة , وقفت غير بعيد منه , فيما كان هو يتوجع ويتألم , لم أخاطبه ولم أتحدث إليه, فقط ,اكتفيت بترجمة مشاعري إلى صمت عجيب, وأنا أرى جزءا من تراثنا المنسي والى صفحة من صفحات قريتنا المطوية , كانت هذه المرة صفحة بالأسود والأبيض, لم يكن فيها أية ألوان او رسومات , لاقنوات ماء , ولا حقول خضراء , ولا عرائش تحيط بها مساكب النعناع الأخضر , او ( عرا نيس الذرة ذات الشعور الذهبية ) ولا عزف منفرد,ولا هذا ولا ذاك , أمامي على بعد خطوات فقط ( حليط المنسي ) حليط الذي اضحك وأبكى ورقص , حليط الزائغ النظرات , الجالس وحيدا وقد اختفت الحشود التي كانت في انتظاره بلهفة شديدة 0
تراجعت الى الوراء شيئا فشيئا , ناظرا إليه مترحما على حاله , وقد هالني تجاهل الناس له, وعدم اكتراثهم لأمره او حتى التعرف الى حاله , وتذكرت موقفه معي قبل ثلاثين عاما وقوله ( تعال يا شاطر ) وقبل أن يتأزم الموقف ويتحول الى نحيب , خرجت هاربا من الردهة, تاركا حليط وسط معاناته وآلامه, وسمعت صوتا خلفي ينادي ( عبد الرزاق كايد ) ولكن هذه المرة دون ( أبو توفيق او حليط ) 00
1- نشرت في مجلة انكيدو الثقافيه الحره انظر الرابط التلي :m.ankido.us/forum.php?action=view&id
مهباش الجـــــدة 00(1)
أن تعود بك الذاكرة إلى الوراء عشرات السنين, وأن تستلهم من الماضي عبقه وأريجه ,رغم شظف العيش وقسوة الحياة, أمر يبعث على الشعور بالرضي, والرغبة الجامحة في العودة إلى الوراء, والتحليق في ذلك العالم ونبش خباياه ,والتنقيب في مخزون الذاكرة, التي ورغم بعد المسافة إلا أنها لا تزال تحمل في ثناياها أجمل الصور والذكريات , كنت طفلا ربما في الثامنة أو التاسعة من سني عمري المديد- بإذن الله - عندما كنت وعن قصد أكثر من التعامل مع ( الجدة ) والتي لها حكايات وحكايات, ولا أريد أن أصورها على أنها ارث ثقافي, أو رمز حضاري, بقدر ما أريد التلذذ في استعراض شيئا من طيبتها ودماثة أخلاقها ,وربما تكون كغيرها من الجدات مجرد إنسان طواه النسيان, ولكن بالنسبة لي لم يطوها النسيان ,لأني انظر إليها من زاوية مختلفة تميزني عن غيري من أقراني في ذلك الوقت, الذين كانوا يجلسون حولها طمعا في لبنها أو سمنها أو في حكاية تسردها عليهم, أما أنا فكنت اجلس بالقرب منها متأملا وناظرا إلى وجهها المطرز بكتابات الزمن, والمزين بالطيبة التي لا تقبل التردد أو المساومة ,فهي تعطي دون مقابل, ولا تفارق الابتسامة محياها أبدا وأجمل مافي ذلك هو إصرارها على نبش صررها العتيقة, والبحث في أعماقها عن المطلوب, مع إلحاح شديد في تلبية الرغبة لصاحب الحاجة, و كنت ارصد كل ذلك وأسجله في ذاكرتي,وكنت أيضا ونهاية كل أسبوع عندما يبدأ موسم توزيع اللبن على( الحارة ) - وجميع سكانها من أبنائها أراقب سكناتها وتمتمتها مع نفسها, وهي توزع اللبن في علب صغيره مع شيء من السمن والزبده ,ولمن يحبه قلبها تضع شيئا من القشدة اللذيذة, وكانت تخص في ذلك أكبر أبنائها وتقول أثناء ذلك 0
- هذا لوليدي (حمدان) وهذا لحبيبي (سلمان) ثم تنظر إلى الوجوه المحدقة في وجهها المبتسم قائله أيضا ,وهذا لك ولك ولك , بعد ان تغمس يدها في اللبن وتضع في فم كل واحد منا إصبعها الشهي, الذي سرعان ما تغيب محتوياته في تلك الأفواه الجائعه0
وأعترف حقيقة دائما بيني وبين نفسي أنها كانت لا تميزني عن غيري, ولا تخصني لا بقطعة جبن صغيره ولا كبيره ,على العكس من ذلك كانت حريصة كل الحرص على وضعها في يد أغبانا و(اسطلنا )من أبناء الحارة - واقصد قطعة الجبنه - ولا ادري لماذا كانت تخصه في ذلك 0
حفظت منها ومن مثابرتها الكثيرمن الأشياء, والأسماء التي اختفت من المعجم اللغوي (كالرفه ) (والخبنه) و( الشق ) و(الرواق) (والواسط ) و(والكاسر ) ومن أسماء اللبن ( الرايب ) و( المخيض ) و ( الجميد ) و ( الغبيبه ) وكنت لا أتوانى في طرح الاسئله عليها ,لاكتساب مزيد من المعرفه, وكانت تجيب على أسئلتي دوما دون كلل أو ملل , وشاءت الصدف أن يأخذني والدي معه إلى المدينة لم تفارقني صورتها وهي تخض ( السعن ) وتنفخ فيه ,وقررت بيني وبين نفسي شراء علبة ( حلاوة ) لها لأني كنت أعرف أنها كانت تحب (الحلاوة ) وكان والدي في ذلك اليوم قد خصني بنصف دينارمن حصته المتواضعة في غلة الأرض, بعد عام من العناء, كنت اقبض عليه بيدي الطرية ,وكأني امسك بعلبة الحلاوة ولم أفوت على نفسي النظر من نافذة الباص مستطلعا ببراءة مطلقه العالم الأخر, الذي بدا لي عالما جديدا, ولا ادري لماذا كنت ارى وجهها المتجعد ويداها النافرة العروق في ذلك العالم 0
أما (مهباشها) ودلة القهوة الشهيرة فكانت دوما عامره, وكانت لها طريقتها الخاصة في صنع القهوة وتحميصها بالمحماس الذي تآكلت أطرافه, وربما يكون ذلك المهباش وذلك المحماس من أغلى مقتنياتها, إلى جانب إبريق( التوت) الذي تعد فيه الشاي ليلا ونحن مجتمعين اقصد أبناؤها - لأني كنت أقحم نفسي مع والدي في التعليله 0
كنت في تلك الليله الماطرة ملتصقا بوالدي أراقبه وهو يحتسي الشاي, ساكبا من ذلك الإبريق الكأس تلو الكأس, وكنت أراقب وجوه أعمامي على ضوء (فنيارها ) وقد اكتست وجوههم بالسمرة من دفء النار المشتعلة, في الوقت الذي كانت فيه عاكفة على التدخين من غليونها الطويل, وقد علا وجهها جلال الكبر , أثناء ذلك كانت قد رمقتني بنظرها ثم تمتمت قائله :
- أعطني دلة القهوة يا (جديدة )
ووثبت كمن لسعه دبور مستغلا الفرصة في تقديم ما أحضرت لها ,وكمن يقدم خاتم الزفاف إلى محبوبته امتدت يدي الصغيرة البضة وأخرجت علبة الحلاوة , وقدمتها لها بينما كانت عيون أعمامي تختلس النظر إلى يدي , ساد الصمت قليلا ثم مدت يدها وأخذت العلبة وفرح بريء يرتسم على وجهها لتقول بعد ذلك :
- يا (جديده) يطول عمرك 00!
لا أدري لماذا شعرت بالفرحة ؟ولا ادري لماذا لم انم في تلك الليله ؟فلم أكن احلم بمزيد من اللبن ولا الجبن ولا حتى بالقشدة ,بقدر ما كنت سعيدا لأني ربما أكون قد تعززت مكانتي لديها, أو على الأقل أكون قد قدمت لها شيئا تحبه, تماما كما فعلت من قبل عندما قطعت مسافة طويلة لشراء دخان الهيشه لها , أو (التعباه) كما تسميها هي0
وإذ استلهم من ذاكرتي رائحتها الزكية وعبق (الدالف) الذي كان يتجمع في أماكن مختلفة من بيت الشعر, تذكرت أني وعندما طلبت مني مساعدتها في في شد (رواق البيت) كنت قد أعطيتها صره صغيره من والدتي ولا أعرف ما بداخلها , كانت قد أخذتها وهي تقول :
- هات العصابة 0
وفردت أمامي قطعه قماش سوداء ,عرفت فيما بعد قيمة وأهمية تلك القطعة كتعبير قوي عن الاحترام للكبار, وطلبت مني الذهاب إلى قن الدجاج الذي أحضرت, منه قرابة العشرة بيضات, وضعتها في ( سحله ) صغيره وطلبت مني الذهاب بها إلى أمي 0وقبل أن أهم بمغادرة المكان صرخت قائله
- خذ هذا (المفرش) لامك 0
وحملت هداياها المتواضعة ,وأنا انظر إلى (المفرش) المختلف الألوان, ووقعت عيني على قطعة منه حمراء, وتذكرت أنها قطعة من بنطال أحضره لي والدي, وقد أصبحت جزءا من ذلك المفرش 0جذبته إلى صدري بقوه وشممت رائحته الزكية ,ولا ادري لماذا حملت نفسي مشاعر كانت تكبرني, ولا أقوى على تحملها ودون أن ادري أجهشت بالبكاء0
في اليوم التالي, وكان على ما اذكر يوم الجمعة, استيقظت من نومي متأخرا, ولا تزال صورة (المفرش) عالقة في ذهني-وهو ما لن أنساه - تذكرت انه يوم صنع و توزيع (السماط) الذي تفوح منه رائحة البهار والسمن البلدي, وعبقت في انفي رائحة القشدة ,وسال لعابي عندما تخيلت قدرها الكبير الذي كانت تصنع فيه سماطها الشهير,كقهوتها السمراء( الممزمزة) وقفزت من فراشي مسرعا شاقا لي طريقا وسط أبناء عمي الذين كانوا يحملون صحو نهم لملئها بالسماط , كان الطابور طويلا, وكانت العيون ترمقها وهي تملأ الصحون, بينما كنت أقف متأملا يدها التي لاحظت أنها ترتجف ,فيما لم يلاحظ غيري ذلك 0وعندما حان دوري رمقتني بنظرها الذي لاحظت ايضا شروده وقالت كمن أنهكه السهر 0
- وين صحنك يا وليدي ؟
وتذكرت أني لم احضر معي صحني, فاكتفيت بالتزام الصمت منتظرا ردة فعلها , وقطعت علي حبل أفكاري عندما قالت
- سأملأ لك هذه (السحله) ولا تنسى أن تسلم على أمك , وشعرت بالتيه أمام هذه الخصوصية, وهذا التعزيز, كما لو كنت جنديا صغيرا حصل على شيء من الإطراء من قائد كبير 0
واقسم أنني وددت تقبيل يدها التي كانت تغرف بها السماط, ولو استطعت لفعلت ,ولاحظت أن القدر الذي كانت تغرف منه السماط قد فرغ من محتواه, ولم تبق لنفسا شيئا, وإنما اكتفت بلعق ما تبقى فيه مع تنظيف يديها بلسانها الذواق 0
كانت مواقفها وإيثارها للآخرين مثار دهشتي وإعجابي, وكانت دروسا لن أنساها ولا أبالغ إذا قلت مرة أخرى باني الوحيد رغم صغر سني الذي وبالفعل كان يرصد ويسجل ذلك, وكنت إذا حاولت فعل شيء أتذكرها وأقول في نفسي كانت تفعل كذاو كذا,وأتذكر عبارتها وحكمتها الشهيرة (الدنيا رايحه وما باقي غير الله والسترة ) مع شيء من التصرف بالعبارة لاختلاف الزمان والمكان , مع الإيمان المطلق بعظمة الخالق الذي حبى عباده على بساطتهم هذه الطيبة وهذا الحب 0
عندما أصبح لي بيتا, وعندما غزت التقنية بيوتنا ,وعندما كان العالم لا يتجاوز رواق البيت الذي كانت تملؤه بركة وطيبه,بذلت جهدا مضنيا في البحث عن أي شيء يذكرني بها ,ومع الأسف لم اعثر الاعلى (مهباشها ) و(دلة القهوة) وبقايا من (غليونها) الذي لا يقدر بثمن,أما (المفرش) الذي كانت فيه رقعة من بنطا لي الذي اشتراه لي والدي ,فلم اعثر عليه مطلقا 0
أخر ما تسجله الذاكرة عن الجدة أنها كانت طبيب الحارة المداوي والمعالج للجراح ,فهي تحتفظ بأنواع مختلفة من الإعشاب (كالشيح والجعده والبابونج واليانسون والزعفران والبعيثران والقاسوم والحرمل) إلى جانب أدوات للكي خاصة بها, واذكر أني أصبت بتقرحات جلديه( المخسيه) قامت بكي أماكن مختلفة من جسمي, شفيت بعدها تماما, وكانت ماهرة في معالجة االالتواءات وتدليك الجلد وتخفيف آلام ( العفصه ) وطرد ( القرينة ) وقراءة الكف وكشف الطالع بالبخور و(الشبه )
وكانت لها قدره خاصة على لحس العين, وتخليصها من الالتهابات, ولا أذكر أنها لجأت إلى طبيب, أو شكت من الم, أو مغص ,وكانت ترفض رفضا قاطعا المبيت داخل غرفة, أو مكان مغلق, بل تفضل نومة بيت الشعر, أو الجلوس في ( الخلا أو البطين ) مكتفية بتدخين غليونها والنظر بعمق إلى الاشيا ء وسبر أغوارها لتفاجئك بما يدور في ذهنك من افكار0
1- نشرت في مجلة الفضاء الثقافي الليبيه : انظر الرابط التالي:www.elfada.com/modules.php?name
ميلاد في طي النسيان00
قصة قصيرة
روت لي والدتي - وكنت قد سألتها من باب الفضول عن ظروف ولادتي وملابساتها انه صادف يوم مولدي هبوب ريح عاتية ,على الأرجح كانت شرقيه لا غربيه - بدليل أنها كانت تشير بيدها نحو الشرق, فيما الخيمة بيتنا الوحيد ذات العامود الواحد كان مدخلها غربيا - على كل حال كانت تلك الرياح مقدمة لعاصفة مطرية ورعدية, كما فهمت من والدتي, التي راحت تصف لي اللحظات الأولى لخروجي إلى هذه الدنيا , وقالت متنهدة ( كادت الخيمة تقع علينا لولا رحمة رب العالمين ووجود والدك في تلك اللحظة, لقد ظل يا ( وليدي ) ممسكا بقوة بالعامود لمنع الخيمة من السقوط, وكنت ساعتها أعاني آلام المخاض, وكنت بين لحظة وأخرى اطلب منه الذهاب إلى بيت جدتك لتكون إلى جانبي , ودون أن ادري خرجت إلى هذا العالم , وكان أول شيء قمت به أني لففتك (بالملفعه) و(قمطتك) وقطعت صرتك بيدي , بعد ذلك وضعتك في حجري لاحميك فيما لو سقطت الخيمة, ولم يقو والدك على الصمود في وجه العاصفة, ولكن والحمد لله هدأ كل شيء وتنفس والدك الصعداء وكنت اسمعه يبتهل إلى الله أن يكون ذلك فال خير عليك , أدركت ساعتها أن لتلك الليلة تأثيرها الخاص على مزاجي, فربما من باب الصدفة يكون طالعي هوائيا, وربما يكون للجوزاء تأثيرها القوي على مزاجي المتقلب غير المستقر 0
فيما كانت والدتي تسرد علي تلك الأحداث, كنت انظر أليها مشفقا, وكانت هي تنظر إلي ولسانها يلهج بالدعاء إلى الله أن يحفظني من كل مكروه وان ينصرني على أعدائي, وان يرزقني الأبناء ويوسع علي في رزقي , رثيت لحالها ولادعيتها ورحت أقيس المسافة من يوم مولدي إلى هذه اللحظة التي أخذت تسرد فيها علي حكاية الولادة الاليمه , وذلك الصراع مع الحياة , وكأنما زادت رغبة والدتي في تذكر الماضي قالت: ( بعد ذلك يا (وليدي) بأسبوع (هجينا ) إلى (الذراع ) مشيا على الأقدام فقد وقعت الحرب ودخل (اليهود ) قريتنا , في بداية الأمر هربنا إلى الجبال القريبة ومكثنا فيها نصف النهار, وعندما نشر الليل ظله قرر والدك السير على الأقدام إلى اقرب مكان لقريتنا, قطعنا مسافة ليست بالقليلة مرورا (بالميرة ) (فعسال ) ثم (المزرعة) إلى أن وصلنا إلى (الذراع) وكنت أحملك ساعة ووالدك ساعة أخرى, وكان أهل القرية منشغلين كل في حاله كان همي الوحيد هو الابتعاد بك عن نيران اليهود 0وزاد إشفاقي عليها لان المسافة التي تتحدث عنها تزيد على الأربعين كيلو مترا, ولم تترك لي الفرصة في الإشفاق أكثر قالت متلذذة ( ما أحلاها من أيام كانت سعادتنا غامره بولادتك لأنك البكر ولأنك جئت بعد معاناة وطول انتظار , ومن شدة خوفي وقلقي عليك كانت الكوابيس تؤرق نومي وتقض مضجعي, فكثيرا ما كنت احلم أحلاما مزعجه تجعلني استيقظ من نومي خائفة وجله , ولعل أشدها وقعا علي أني حلمت أكثر من مرة بك تسير هائما على وجهك وسط غابة من الأعشاب الطويلة والكثيفة, يشقها طريق ترابي وبينما كنت تسير اعترضت طريقك أفعى سوداء راحت تطاردك وسط تلك الأعشاب , وكنت تركض محاولا النجاة من أنيابها السامة, وظلت تطاردك وأنت تراوغها وتحاول الإفلات منها , وأنا اصرخ بأعلى صوتي قائله ( احذر رأس الأفعى ( يا وليدي ) (أحذر رأس الافغى يا وليدي ) وفي اللحظة التي كادت تعظك بنابها انقض عليها نسر حاد النظرات, مزقها بمخالبه القوية ثم ألقى بها عند قدميك 0
أردفت والدتي قائله بعد أن جذبت نفسا قويا , منذ تلك اللحظة نذرت على نفسي الصوم لله شكرا وحمدا له, لان مشيئته هي التي أنقذتك من تلك الأفعى , توقفت قليلا عن الكلام ورفعت يديها إلى السماء وأخذت تتمتم بأدعيتها المتضرعة والخاشعة إلى الله شاكرة وحامدة قدرته على رحمته ولطفه بي 0دون أن ادري همت عيناي بالدمع حتى كاد يشرق بي , وجذبت يدها إلى فمي وأشبعتها تقبيلا , وسمعتها تتمتم قائلة ( الله يرضى عليك يا وليدي ) كان لوقع كلماتها تأثير قوي في نفسي, كانت أدعيتها هي مصدر قوتي وثقتي في نفسي, وكنت دوما أحدق في السماء محاولا الوقوف على شيء , أو ربما محاولا إشعار نفسي بالثقة وبأن ادعيتها سوف تجلب لي حسن الطالع والرزق 0
وكانت (الخرزة الزرقاء) و(خرزة الكباس) ومجموعة أخرى من الخرز الملون المعلق في رقبتي عن العين والحسد والوسواس الخناس, ومجموعات أخرى من التمائم لا اعرف لها اسما , كانت أيضا وكلما ابتعدت عن ناظرها تجلب لي الحظ والثقة والشعور بأنها إلى جانبي , وكنت كلما شعرت بالرغبة للعب مع أقراني أضعها بحرص شديد في جيب ثوبي القصير كثير الرقع , وكان هذا يزعجها ويقلقها , بدليل أنها كانت تهرع ألي صارخة , لا تضع ( خرزاتك يا وليدي إلا في رقبتك ) 0وفي المساء كما هي عادتها , كانت تدثرني وتلفني وتنفث في وجهي غيوم من البخور والروائح , والادعيه( اخسي خسيتي بالبحر رسيتي ) وتقصد عين الحسود وتمسح جسدي بالماء والزيت وتضع على رأسي الحناء , ثم بعد ذلك تضعني في حجرها لتنويمي ,
ذات يوم شتوي دافئ جذبتني إليها برفق, ووضعت في يدي صرة صغيره وكنت قد بلغت من العمر ما يؤهلني للسخرة, وحمل الأشياء وإرسالها إلى جدتي, وقالت ويدها تمسك بالصرة , ( وليدي حبيبي هذه الصرة لجدتك فيها بعض الأشياء ) صمتت قليلا ثم قالت ( وهذه الصرة الصغيرة فيها عشرة برايز ) أي دينار ( أريدك أن تذهب بها إليها ولا تنسى أن تقبل يدها عند وصولك إليها ) وراحت يدها الأخرى تدس العشرة برايز- تحويشة ربما شهر أو شهرين - في جيبي بل إنها لم تطمئن إلى ذلك فقد أحضرت إبرة وخاطت الجيب وأحكمت إغلاقه على العشرة برايز, وبصوت مبتهل أصدرت أمرها لي بالذهاب , وظل صوتها يرافقني إلى أن اختفيت عن ناظرها, وكان صوتها يتناهى إلى سمعي ضعيفا ورقيقا قائله ( سلم على جدك وعلى خالتك وعلى خالك و و000) وتوقف صدى صوتها ولم اعد اسمعه وكنت بين لحظة وأخرى أضع يدي على جيبي متفقدا العشرة برايز, فيما الأخرى كانت تمسك الصرة بقوة وحرص غريبين 0
حتى أصل إلى بيت جدتي , يجب علي قطع مسافة ليست بالقليلة, وحتى تطمئن هي على سلامتي فإنه يجب علي العودة قبل غروب الشمس, ولهذه الأسباب مجتمعه كنت أحث الخطى للوصول , يدفعني عامل الشوق لخالي واللعب معه, والرغبة في العودة إليها حتى لا اخذلها, ولا ادري لماذا شعرت وللمرة الأولى بأني سأخذلها , وربما يكون لخيالي الخصب ولرائحة الدجاج المشوي بالطابون عند جدتي سببه القوي في خذلانها , مع يقيني الذي لا اشك فيه بأنها تعرف بما لا يقبل الشك بأني أضمرت في نفسي المبيت عند جدتي,على أن لا يزيد ذلك عن ليله واحده , لا يوما وحتى لو كان ذلك عند جدتي , ولم اشعر بأني كنت اركض الابعد تعثري أكثر من مره , ولا ادري لماذا صعقت عندما تذكرت قصة الأفعى وقولها ( احذر رأس الأفعى يا وليدي ) وفجأة وعلى حين غرة وفي منتصف الطريق تماما, وفي اللحظة التي كانت يدي تمسك فيها بالصرة والأخرى تتفقد العشرة برايز تحويشة أمي , برزت أفعى سوداء بشعة المنظر والخلقة , رمقتني بنظرها الماكر وشعرت بأنها قد اتخذت قرارها في مهاجمتي دون سبب يذكر, وتقدمت نحوي على مؤخرة ذيلها , فيما صوت أمي في الأفق يقول ( أحذر رأس الأفعى يا وليدي ) أغرب ما في الأمر أني لم أشعر بالخوف, ولم أصرخ أو اطلب النجدة, وتذكرت النسر القوي الذي انقض على الأفعى , مع شعوري القوي بأن النسر ربما يكون الحلقة المفقودة في هذا الحدث المفاجئ , وبثقة لم اشعر بها من قبل , وضعت الصرة جانبا, ووقفت وجها لوجه أمام الأفعى السوداء التي كانت في يوم من الأيام مصدر خوف وقلق أمي , وفيما كانت تهم بالهجوم, حدت عنها جانبا وبقوة مبعثها الرغبة القوية في إيصال الصرة إلى جدتي, والعشرة برايز تحويشة أمي, أمسكت بها من ذيلها ودرت بها دورات عديدة وضربت رأسها بالأرض, ثم بعد ذلك وقبل أن ترفعه نحوي , دسته بقدمي مرات ومرات , ولم اطمئن لذلك بل تناولت حجرا وهشمت رأسها به إلى أن لفظت أنفاسها أمامي , عندها شهقت وشعرت بسعادة عارمة وأنا أراها ملقاة أمامي هامدة , وكانت هذه أول انتصاراتي 0
مرت حادثة الأفعى بسلام وظلت سرا لم أبح به لأحد حتى لأمي , مع أنها في اليوم التالي لرجوعي سألتني بإلحاح عما إذا واجهت مشاكل في رحلتي إلى بيت الجدة , واكتفيت بإخبارها عن سعادة جدتي وفرحها بالصرة والعشرة برايز , وكنت أثناء ذلك اقرأ قسمات وجهها الذي كان مطمئننا ومستبشرا بعودتي سالما غانما 0
في يوم ربيعي من أيام أمي وكنت قد كبرت شيئا فشيئا وأشتد عودي , وأخذت إثر ذلك تخفف من رقابتها الصارمة على حركاتي, وروحاتي وجياتي , وكانت دوما وبلهجة أمره تقول لي ( لاتبتعد كثيرا عن البيت ) وكانت بين لحظة وأخرى تتعمد مناداتي للاطمئنان على وجودي بالقرب منها, في ذلك اليوم وللمرة الأولى, ولا أدري لماذا تعمدت مخالفة أوامرها الصارمة سولت لي نفسي وبوسوسة من أقراني , الابتعاد عن البيت والخروج في محاولة مني لاكتشاف العالم من حولنا , وربما تولدت لدي الثقة القوية في الخروج بعد ذلك الانتصار الذي حققته على الأفعى , وأثناء ذلك ارتكبت مخالفة أخرى وذلك بتخلصي من تمائمها التي بت أشعر بالحرج من وضعها في عنقي , وتعمدت وضعها في مكان تتمكن فيه من رؤيتها حتى أوفر على نفسي عناء الإجابة عن ذلك السيل الجارف من أسئلتها المستنكرة , والرافضة لتصرفي هذا 0
وأنا في طريق العودة إليها , ومن باب الحرص على رضاها وعدم إثارة غضبها ورفع ضغطها , أخذت أبتكر في مخيلتي الجواب تلو الجواب , والمبرر تلو المبرر لخروجي غير المبرر بالنسبة لها , وكنت أتخيل ردات فعلها ومدى تأثير ذلك علي علما بأنها وعندما تعجز عن معاقبتي تلجا إلى والدي المنهك والمتعب , والذي يكتفي بالنظر إلي معاتبا ولائما , لأنه يعلم بأنها لن تغفر له فكرة أن يعاقبني ولو لفظيا 0 عندما رأتني عائدا أشاحت بوجهها عني وتظاهرت بأنها منشغلة بشيء ما , وعندما اقتربت منها , ولم أجروء على النظر إليها مباشرة , سمعتها تقول أشبه بالهمس ( الغداء هناك , لا بد أنك جائع ) صمتت قليلا ثم قالت بشيء من الحدة ( غداء وعشاء فأنت لم تذق شيئا اليوم ) فيما والدي كان يراقب الموقف خفية دون أي تدخل منه 0في قرارة نفسي, وبعد تحليل وتمحيص وبعد مقاطعة دامت أسبوعا كاملا منها لي , وكانت خلال ذلك تكتفي بوضع الطعام أمامي , أدركت أن أمي كانت مدرسة وحياة يجب أن أتعلم منها الكثير, فلولا مقاطعتها لي ربما أكون تعلمت من العادات ما يكون سببا لانحرافي و ضياعي, ولولا حرصها الشديد علي لكان ميلادي الذي حدثتني عنه في طي النسيان, ذلك الميلاد الذي لم يشهد شموعا ولا أضواء خافته, وإنما شهد آلاما ودموعا سخية منها, وأدعية مبتهلة ربما تكون هي السبب في بقائي إلى الآن , منذ تلك اللحظة وبشي من التحفظ على بعض ممارسات أمي, قررت أن لا أخالف لها أمرا , فالمكان الذي كنا فيه بالأمس لولا عناية الله كاد يشهد غرق طفل صغير خرج عن طوع أمه(1)
1- نشرت في مجلة الفوانيس المغربيه وفي مجلة أدب فن المنوعة :
انظر الرابطين التاليين:alfawanis.com/alfawanis/index.php?option=com
www.adabfan.com/?news

تقييم:

0

0
مشاركة:


التعليق على الموضوع


لم يسجل بعد أي تعليق على هذه المشاركة !...

...........................................

=== إضافة تعليق جديد ===
الإسم:

نص التعليق:

انقل محتوى صويرة التحقق في الخانة أسفله:
الصورة غير ظاهرة