فضاءات الاحراز

الاحراز

فضاء القرآن الكريم والسنة النبوية

العضو الأكثر فعالية على مستوى الـبلدة
ناصر قطب محمد سليمان
مسجــل منــــذ: 2010-10-19
مجموع النقط: 52
إعلانات


زيِّنوا أخلاقكم بالتغافل

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فليس من شرط أولياء الله المتقين ألا يكونوا مخطئين في بعض الأشياء خطأً مغفورًا لهم، بل ولا من شرطهم ترك الصغائر مطلقًا، بل ولا من شرطهم ترك الكبائر أو الكفر الذي تعقبه التوبة"(1).
وقد قال الله تعالى: ?وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35) ? (الزمر) فقد وصفهم الله بأنهم هم المتقون، والمتقون هم أولياء الله، ومع هذا فأخبر أنه يكفِّر عنهم أسوأ الذي عملوا، وهذا أمرٌ متفق عليه بين أهل العلم والإيمان"(2).
وابن تيمية- رحمه الله- بهذا يقرِّر حقيقةً مهمةً، وهي أن الخطأ من طبيعة الإنسان، وأنه مهما بلغ أعلى درجات التقوى والصلاح، والمتمثلة في الولاية، فلن يخلو من خطأ أو نقص أو عيب فيه؛ فالكمال لله سبحانه وتعالى وحده.
وقد قرَّر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: "كل بني آدم خطَّاء، وخير الخطائين التوابون"(3).
ورُوي عن سعيد بن المسيب قوله: "ليس من شريف ولا عالم ولا ذي فضل إلا وفيه عيب، ولكن من الناس من لا ينبغي أن تُذكر عيوبه، فمن كان فضله أكثر من نقصه وهب نقصه لفضله"(4).
وكما قيل:
من لك بالمهذَّبِ النَّدبِ الذي لا يجد العيبُ إليه مُخْتَطَى (5)
وإذا كان الأمر كذلك فحريٌّ بالمؤمنين- وبخاصةً الدعاة والعاملون في حقل الدعوة إلى الله- أن يزيِّنوا أخلاقهم بخلق التغافل عن أخطاء وعيوب إخوانهم، إذا لم يترتب عليها مفسدة، وأن يقبل الأخ أخاه بعيبه الذي هو فيه، وأن يغضَّ الطرف ويتغافل عما لا يعجبه فيه من صفات أو طبائع، فإن ذلك من مكارم الأخلاق وسبيل العافية كما قال الإمام أحمد بن حنبل- رحمه الله-: "العافية عشرة أجزاء، كلها في التغافل"(6).
والتغافل هو: تكلُّف الغفلة، مع العلم والإدراك لما يتغافل عنه تكرُّمًا وترفُّعًا عن سفاسف الأمور.
والتغافل والترفُّع عن سفاسف الأمور من شيم الكرام كما قال سفيان: "ما زال التغافل من فعل الكرام"(7).
بل التغافل من أخلاق السادة كما قال أبو تمام:
وليس الغبي بسيد في قومه إنما سيد قومه المتغابي
أما أصحاب الهمم الدنيئة فيقفون عند الهفوات، ويلتمَّسون مواطن الزلاَّت والعثرات، وكما يقولون "يجعلون من الحبة قبة ومن القبة مزارًا".
أما الأكياس العقلاء فإنهم يتغافلون عن الهفوات، ويقيلون العثرات كما قال الإمام الشافعي: "الكيس العاقل هو الفطن المتغافل"(8).
وقال بعضهم:
وإني لأعفو عن ذنوب كثيرة وفي دونها قطع الحبيب المواصل
وأعرض عن ذي الذنب حتى كأنني جهلت الذي يأتي ولست بجاهل
ومع طول الصحبة وصدق المودَّة تشتد الحاجة للتغافل.. روى البخاري في صحيحه من حديث أنس رضي الله عنه أنه قال: "خَدَمْتُهُ- يعني النبي صلى الله عليه وآله وسلم- في السفر والحضر، ما قال لي لشيء صنعته: لمَ صنعت هذا هكذا؟ ولا لشيء لم أصنعه لم تصنع هذا هكذا"(9).
وفي حديث أم زرع قالت إحدى النساء واصفةً زوجها مادحةً إياه على صنيعه معها: "زوجي إن دخل فهد، وإن خرج أسد، ولا يسأل عما عهد"(10) قال بعض العلماء في تفسير (فهد): إنها تشبِّهه بالفهد؛ إذ إن الفهد حيوان شديد التغافل فهي تصفه بأنه يتغافل عن عيوبها وزلاَّتها، مع معرفته بتلك العيوب كرمًا منه.
يقول أبو فراس الحمداني:
لم أؤاخذْك بالجفاء لأني واثق منك بالوداد الصريح
وجميل العدو غير جميل وقبيح الصديق غير قبيح
وقد ترك لنا سلفنا الصالح كنزًا من الأقوال المأثورة التي تحثُّ على التغاضي والتغافل عن هفوات الإخوان: فأبو عمرو المكي يقول: "من المروءة التغافل عن زلل الإخوان"(11).
ويقول الأعمش: "التغافل يطفئ شرًّا كثيرًا"(12).
وقال بعض العارفين: "تناسَ مساوئ الإخوان تستدِمْ وُدَّهم"(13 ).
وقد قيل في سبب تسمية حاتم بن عنوان بن يوسف بالأصم: أنه جاءته امرأة فسألته عن مسألة، فاتفق أنها خرج منها صوت في تلك الحالة فخجلت، فقال حاتم: ارفعي صوتك، فأوهمها أنه أصمّ، فسرَّت المرأة بذلك، وقالت: إنه لم يسمع الصوت، فلقِّب بحاتم الأصم(14).
وقال ابن الأثير رحمه الله متحدثًا عن صلاح الدينِ الأيوبي رحمه الله قال: "وكان رحمَه الله حليمًا حسَنَ الأخلاقِ متواضِعًا صبورًا على ما يكره، كثيرَ التغافل عن ذنوب أصحابه، يسمَع من أحدهم ما يكرَه ولا يُعلمه بذلك، ولا يتغيَّر عليه" (15).
فبمثل هذه الأخلاق ساد وسما هؤلاء العظام، فما أجمل هذا الخلق الجميل، وما أحوجنا أن نتخلَّق به، متغافلين ومتجاوزين عن الهفوات، ومقيلين العثرات، ساترين القبيح ومظهرين الجميل.
فهيا بنا نزيِّن أخلاقنا بخلق التغافل.
-----------
الهوامش:
1- مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء الحادي عشر.
2- مجموع الفتاوى [11، 66، 76] فصل في من هم أولياء الله، وأولياء الله هم الذين آمنوا وكانوا يتقون.
3- أخرجه الترمذي [2499]، وابن ماجه [4251].
4- التمهيد لابن عبد البر [11 / 161].
5- البيت أبي بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي (أمالي المرزوقي)
6- البيهقي [6 /330]، وتهذيب الكمال [19 / 369]، (شعب الإيمان 10/575).
7- نسبه لسفيان الآلوسي في روح المعاني وصاحب عون المعبود.
8- (شعب الإيمان 6/330).
9- "البُخَارِي" 4/13(2768) و"مسلم" 7/73(6079).
10- البخاري (5/1988 ، رقم 4893) مسلم (4/1896 ، رقم 2448).
11- شعب الإيمان 6/330.
12- شعب الإيمان- البيهقي [6 /347].
13- (شعب الإيمان 13/504) و (آداب الصحبة 1/46).
14- مدارج السالكين، [2 /344].
15- الكامل في التاريخ [10 /224

تقييم:

0

0
مشاركة:


التعليق على الموضوع


لم يسجل بعد أي تعليق على هذه المشاركة !...

...........................................

=== إضافة تعليق جديد ===
الإسم:

نص التعليق:

انقل محتوى صويرة التحقق في الخانة أسفله:
الصورة غير ظاهرة