فضاءات الاحراز

الاحراز

فضاء القرآن الكريم والسنة النبوية

العضو الأكثر فعالية على مستوى الـبلدة
ناصر قطب محمد سليمان
مسجــل منــــذ: 2010-10-19
مجموع النقط: 52
إعلانات


فتوى الشيخ القرضاوي حول تسيير المظاهرات السلمية

ومما يدلُّ على هذا الأصل المذكور ما جاء في الصحيح عن جابر بن عبد الله قال: "كنا نعزل والقرآن ينزل، فلو كان شيء ينهى عنه لنهى عنه القرآن"، فدلَّ على أن ما سكت عنه الوحي غيرُ محظور ولا منهيٌّ عنه، وأنهم في حِلٍّ من فعله حتى يَرِدَ نصٌّ بالنهي والمنع، وهذا من كمال فقه الصحابة رضي الله عنهم، وبهذا تقرَّرت هذه القاعدة الجليلة، ألا تشرع عبادةٌ إلا بشرع الله، ولا تحرُم عادةٌ إلا بتحريم الله.
والقول بأن هذه المسيرات (بدعة) لم تحدث في عهد رسول الله ولا أصحابه، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.. قولٌ مرفوضٌ؛ لأن هذا إنما يتحقَّق في أمر العبادة وفي الشأن الديني الخالص؛ فالأصل في أمور الدين (الاتباع) وفي أمور الدنيا (الابتداع)؛ ولهذا ابتكر الصحابة والتابعون لهم بإحسان أمورًا كثيرةً لم تكن في عهد النبي- صلى الله عليه وسلم- ومن ذلك ما يُعرف بـ(أوليَّات عمر)، وهي الأشياء التي ابتدأها عمر رضي الله عنه غيرَ مسبوقٍ إليها؛ مثل: إنشاء تاريخ خاصّ للمسلمين، وتمصير الأمصار، وتدوين الدواوين، واتخاذ دار للسجن، وغيرها.
وبعد الصحابة أنشأ التابعون وتلاميذهم أمورًا كثيرةً؛ مثل: ضرب النقود الإسلامية بدل اعتمادهم على دراهم الفرس ودنانير الروم، وإنشاء نظام البريد، وتدوين العلوم، وإنشاء علوم جديدة؛ مثل: علم أصول الفقه، وعلوم النحو والصرف والبلاغة، وعلم اللغة، وغيرها، وأنشأ المسلمون (نظام الحسبة) ووضعوا له قواعدَ وأحكامًا وآدابًا، وألَّفوا فيه كتبًا شتَّى، ولهذا كان من الخطأ المنهجي أن يُطلَب دليلٌ خاصٌّ على شرعية كل شأن من شئون العادات، فحسبنا أنه لا يوجد نص مانع من الشرع.
ودعوى أن هذه المسيرات مقتبَسة أو مستورَدة من عند غير المسلمين لا يُثبت تحريمًا لهذا الأمر، ما دام هو في نفسه مباحًا ويراه المسلمون نافعًا لهم؛ فـ"الحكمة ضالَّة المؤمن أنَّى وجدها فهو أحق الناس بها"، وقد اقتبس المسلمون في عصر النبوة طريقةَ حفر الخندق حول المدينة، لتحصينها من غزو المشركين، وهي من طرق الفرس، واتخذ الرسول صلى الله عليه وسلم خاتمًا؛ حيث أشير عليه أن يفعل ذلك؛ فإن الملوك والأمراء في العالم لا يقبلون كتابًا إلا مختومًا، واقتبس الصحابة نظام الخراج من دولة الفرس العريقة في المدنية والتنظيم، واقتبسوا كذلك تدوين الدواوين، من دولة الروم؛ لما لها من عراقة في ذلك، وترجم المسلمون الكتب التي تتضمَّن (علوم الأوائل) أي الأمم المتقدمة، التي طوَّرها المسلمون وهذَّبوها وأضافوا إليها، وابتكروا فيها مثل: (علم الجبر) بشهادة المنصفين من مؤرِّخي العلم، ولم يعترضوا إلا على (الجانب الإلهي) في التراث اليوناني؛ لأن الله تعالى أغناهم بعقيدة الإسلام عن وثنية اليونان وما فيها من أساطير وأباطيل.
ومن نظر إلى حياتنا المعاصرة في شتى المجالات وجد فيها كثيرًا جدًّا مما اقتبسناه من بلاد الغرب: في التعليم والإعلام والاقتصاد والإدارة والسياسة وغيرها؛ ففكرة الدستور، والانتخابات (بالصورة المعاصرة)، وفصل السلطات، وإنشاء الصحافة والإذاعة والتلفزة، بوصفها أدواتٍ للتعبير والتوجيه والترفيه، وإنجاز الشبكة الجبَّارة للمعلومات (الإنترنت)، والتعليم بمؤسساته وتقسيماته وترتيباته ومراحله وآلياته المعاصرة.. مقتبَسٌ في معظمه من الغرب.
والشيخ رفاعة الطهطاوي، حين ذهب إلى باريس إمامًا للبعثة المصرية، ورأى من ألوان المدنية ما رأى، بهَرَتْه الحضارة الحديثة، وعاد لينبِّه قومَه إلى ضرورة الاقتباس مما سبق به الأوربيون، حتى لا يظلُّوا يتقدمون ونحن نتأخر، ومن يومها بدأ المصريون- وبدأ معهم كثيرٌ من العرب، وقبلهم بدأ العثمانيون- في اقتباس ما عند الغربيين.
النساء يعلنَّ تضامنهن مع أخواتهن في غزة
كلُّ هذه مقتبسات من الغرب الذي تفوَّق علينا وسبقَنا بها، ولم نجد بُدًّا من أن نأخذها عنه، ولم تجد نكيرًا من أحد من علماء الشرع ولا من غيرهم، فأقرَّها العرف العام، وقد أخذ الغرب عنا من قبل واقتبس منا وانتفع بعلومنا أوائل نهضته ?وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ? (آل عمران: من الآية 140).
المهم أن نأخذ ما يلائم عقائدَنا وقيمَنا وشرائعَنا، دون ما يناقضها أو ينقضها؛ فالناقل هو الذي يأخذ من غيره ما ينفعه لا ما يضره، وأهم ما يأخذه المسلم من غيره ما كان متعلقًا بشئون الحياة المتطورة، وجلّه يتصل بالوسائل والآليات التي طابعها المرونة والتغيُّر، لا بالأهداف والمبادئ التي طابعها الثبات والبقاء.
على أن ما ذكره السائل أو السائلون، من نسبة هذه المظاهرات أو المسيرات إلى الشيوعيين الملحدين غير صحيح؛ فالأنظمة الشيوعية لا تسمح بهذه المسيرات إطلاقًا؛ لأن هذه الأنظمة الشمولية القاهرة تقوم على كبت الحريات، وتكميم الأفواه، والخضوع المطلق لسلطان الحكم وجبروته.
قاعدتان مهمتان
وأود أن أقرِّر هنا قاعدتين في غاية الأهمية:
1- قاعدة المصلحة المرسلة:
الأولى هي قاعدة المصلحة المرسلة؛ فهذه الممارسات التي لم ترد في العهد النبوي، ولم تعرف في العهد الراشدي، ولم يعرفها المسلمون في عصورهم الأولى، وإنما هي من مستحدثات هذا العصر، إنما تدخل في دائرة (المصلحة المرسلة)، وهي التي لم يرد من الشرع دليلٌ باعتبارها ولا بإلغائها.
وشرطها: أن لا تكون من أمور العبادات حتى لا تدخل في البدعة، وأن تكون من جنس المصالح التي أقرَّها الشرع، والتي إذا عُرضت على العقول تلقَّتها بالقبول، وألا تعارض نصًّا شرعيًّا ولا قاعدةً شرعيةً.
وجمهور فقهاء المسلمين يعتبرون المصلحة دليلاً شرعيًّا يُبنَى عليها التشريع أو الفتوى أو القضاء، ومن قرأ كتب الفقه وجد مئات الأمثلة من الأحكام التي لا تعلّل إلا بمطلق مصلحة تُجلَب، أو ضرر يُدفع.
وكان الصحابة- وهم أفقه الناس لهذه الشريعة- أكثر الناس استعمالاً للمصلحة واستنادًا إليها، وقد شاع أنَّ الاستدلال بالمصلحة المرسلة خاصٌّ بمذهب المالكية، ولكنَّ الإمام شهاب الدين القرافي المالكي (684هـ) يقول- ردًّا على من نقلوا اختصاصها بالمالكي-: "وإذا افتقدت المذاهب وجدتهم إذا قاسوا أو جمعوا أو فرقوا بين المسألتين، لا يطلبون شاهدًا بالاعتبار لذلك المعنى الذي جمعوا أو فرَّقوا، بل يكتفون بمطلق المناسبة، وهذا هو المصلحة المرسلة، فهي حينئذ في جميع المذاهب".
2- للوسائل حكم المقاصد
والقاعدة الثانية: هي أن للوسائل في شئون العادات حكم المقاصد؛ فإذا كان المقصد مشروعًا في هذه الأمور، فإن الوسائل إليه تأخذ حكمه، ولم تكن الوسيلة محرمةً في ذاتها؛ ولهذا حين ظهرت الوسائل الإعلامية الجديدة، مثل (التلفزيون) كثُر سؤال الناس عنها: أهي حلال أم حرام؟!
وكان جواب أهل العلم: أن هذه الأشياء لا حُكمَ لها في نفسها، وإنما حكمُها بحسب ما تُستعمل له من غايات ومقاصد؛ فإذا سألت عن حكم (البندقية) قلنا: إنها في يد المجاهد عون على الجهاد ونصرة الحق ومقاومة الباطل، وهي في يد قاطع الطريق عون على الجريمة والإفساد في الأرض وترويع الخلق، وكذلك التلفزيون، من يستخدمه في معرفة الأخبار، ومتابعة البرامج النافعة ثقافيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا، بل والبرامج الترفيهية بشروط وضوابط معينة، فهذا لا شكَّ في إباحته ومشروعيته، بل قد يتحوَّل إلى قربة وعبادة بالنية الصالحة، بخلاف من يستخدمه للبحث عن الخلاعة والمجون وغيرها من الضلالات في الفكر والسلوك.
وكذلك هذه المسيرات والتظاهرات، إن كان خروجها لتحقيق مقصد مشروع، كأن تنادي بتحكيم الشريعة، أو بإطلاق سراح المعتقلين بغير تهمة حقيقية، أو بإيقاف المحاكمات العسكرية للمدنيين، أو بإلغاء حالة الطوارئ التي تعطي للحكَّام سلطات مطلقة، أو بتحقيق مطالب عامة للناس؛ مثل: توفير الخبز أو الزيت أو السكر أو الدواء أو البنزين، أو غير ذلك من الأهداف التي لا شك في شرعيتها؛ فمثل هذا لا يرتاب فقيه في جوازه.
وأذكر أني كنت في سنة 1989م في الجزائر، وقد شكا إليَّ بعض الأخوات من طالبات الجامعة من الملتزمات والمتدينات، من مجموعة من النساء العلمانيات أقمن مسيرةً من نحو خمسمائة امرأة، سارت في شوارع العاصمة، تطالب بمجموعة من المطالب تتعلق بالأسرة أو ما يسمَّى ( قانون الأحوال الشخصية) مثل: منع الطلاق، أو تعدد الزوجات، أو طلب التسوية بين الذكر والأنثى في الميراث، أو إباحة تزوُّج المسلمة من غير المسلم، ونحو ذلك.
فقلت للطالبات اللائي سألنني عن ذلك: الرد على هذه المسيرة العلمانية أن تقود المسلمات الملتزمات مسيرةً مضادَّةً، من خمسمائة ألف امرأة! أي ضعف المسيرة الأولى ألف مرة! تنادي باحترام قواطع الشريعة الإسلامية، وفعلاً بعد أشهر قليلة أقيمت مسيرة مليونية، عامَّتها من النساء تؤيد الشريعة، وإن شارك فيها عدد محدود من الرجال؛ فهذه المسيرة- بحسب مقصدها- لا شك في شرعيتها، بخلاف المسيرة الأخرى المعارضة لأحكام الشريعة القطعية، لا يستطيع فقيه أن يفتي بجوازها.
سد الذرائع
أما ما قيل من منع المسيرات والتظاهرات السلمية؛ خشيةَ أن يتخذها بعض المخرِّبين أداةً لتدمير الممتلكات والمنشآت، وتعكير الأمن، وإثارة القلاقل؛ فمن المعروف أن قاعدة سد الذرائع لا يجوز التوسع فيها؛ حتى تكون وسيلةً للحرمان من كثير من المصالح المعتبرة.
ويكفي أن نقول بجواز تسيير المسيرات إذا توافرت شروط معينة يترجَّح معها ضمان ألا تحدث التخريبات التي تحدث في بعض الأحيان، كأن تكون في حراسة الشرطة، أو أن يتعهد منظِّموها بأن يتولوا ضبطها؛ بحيث لا يقع اضطراب أو إخلال بالأمن فيها، وأن يتحملوا المسئولية عن ذلك، وهذا المعمول به في البلاد المتقدمة ماديًّا.
في السنة دليل على شرعية المسيرات
أعتقد أن فيما سقناه من الأدلة والاعتبارات الشرعية، ما يكفي لإجازة المسيرات السلمية إذا كانت تعبر عن مطالب فئوية أو جماهيرية مشروعة، وليس من الضروري أن يُطلَب دليلٌ شرعيٌّ خاصٌّ على ذلك، مثل نص قرآني أو نبوي، أو واقعة حدثت في عهد النبوة أو الخلافة الراشدة.
ومع هذا، نتبرَّع بذكر واقعة دالة، حدثت في عهد النبوة، وذلك عندما أسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ فبعد أن يسرد عمر- رضي الله عنه- قصة إسلامه، ولنستمع إلى عمر نفسه، وهو يقص علينا نبأ هذه المسيرة، حتى إذا دخل دار الأرقم بن أبي الأرقم معلنًا الشهادتين يقول: "فقلت: يا رسول الله، ألسنا على الحق إن متنا وإن حيينا؟ قال: "بلى، والذي نفسي بيده، إنكم على الحق إن متم وإن حييتم" قال: فقلت: ففيم الاختفاء؟ والذي بعثك بالحق لتخرجن، فأخرجناه في صفين: حمزة في أحدهما، وأنا في الآخر، له كديد ككديد الطحين، حتى دخلنا المسجد، قال: فنظرت إليَّ قريش وإلى حمزة، فأصابتهم كآبةٌ لم يصبهم مثلها، فسماني رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ الفاروق".
ومن تتبَّع السيرة النبوية والسنة المحمدية لا يُعدَم أن يجد فيها أمثلة أخرى.
والحمد لله رب العالمين.
----------------

تقييم:

0

0
مشاركة:


التعليق على الموضوع


لم يسجل بعد أي تعليق على هذه المشاركة !...

...........................................

=== إضافة تعليق جديد ===
الإسم:

نص التعليق:

انقل محتوى صويرة التحقق في الخانة أسفله:
الصورة غير ظاهرة