فضاءات منزل بوزيان

منزل بوزيان

فضاء أعلام ورجالات وعوائل

العضو الأكثر فعالية على مستوى الـمعتمدية
فتحية
مسجــل منــــذ: 2010-10-27
مجموع النقط: 181.6
إعلانات


أبو القاسم الشابي


حياته :
و لد أبو القاسم الشابي نهار الأربعاء في الرابع و العشرين من شباط عام 1909 م في بلدة " توزر " التونسية . والده ، الشيخ محمد الشابي ، كان رجلاً صالحاً ، تولى القضاء في أنحاء البلاد التونسية خارج العاصمة لفترة امتدت بين عامي 1910 ، تاريخ توليه القضاء ، و حتى وفاته في العام 1929 . و كان من نتيجة ذلك أن الشاعر لم ينشأ في مسقط رأسه ، بل خرج منه في السنة الأولى من عمره مع الأسرة ، حين بدأ والده بالطواف في البلدان التي كان يعين فيها للقضاء و كان لهذا الطواف الذي دام تسع عشرة سنة أثره على الشاعر من جميع النواحي . فقد تعرض الطفل الناشئ ، النحيف الجسم ، المديد القامة ، السريع الإنفعال لجميع أنواع المناخ في البلاد التونسية ، من حرّ المدن الساحلية إلى برد الجبال المرتفعة ، كما تعرض إلى الاحتكاك بمختلف العادات و اللهجات بين أهل الشمال و أهل الجنوب ، و بين تلك البيئات و المدن التي تنقل بها الشاعر ، ما يقدر بمئات الأميال أحياناً .
و إذا كان هذا الترحال قد حرمه من الإستقرار في المدرسة الواحدة ، فقد أكسبه خيالاً متوثباً و غذى ذاكرته بصور البيئة التونسية المتنافرة و عمق تجربته الشعرية ، فأطلقه من حدود البيئة الضيقة ، و أكسبه تجربة إنسانية شاملة .
و قد أخذ الوالد على نفسه مسؤولية تعليم ابنه في البيت حتى بلغ الخامسة من عمره ، ثم أرسله إلى الكتاب في بلدة " قابس " ، حين انتقل إليها في مطلع العام 1914 . و لما بلغ الولد الثانية عشرة من عمره أرسله والده إلى العاصمة حيث التحق بجامع الزيتونة . و الزيتونة آنذاك في تونس ، كالأزهر في مصر ، أو النجف في العراق . و قد استطاع الوالد أن يؤمن لولده مسكناً متواضعاً في أحد بيوت الطلبة ، حيث يبيت طالب العلم بأجر زهيد ، و لكن الشاعر لم يكن راضياً على الإقامة في بيوت تلك المدارس التي لم تكن تسد سوى جزء يسير من حاجاته الضرورية ، ذلك لأنها كانت مقراً للفقر و المرض . أما في الجامعة نفسها ، فإن الشاعر لم يكن ميالاً إلى الدروس التي كانت تلقى في " الزيتونة " من علوم الأدب و اللغة و الفقه و الشريعة ، فالمنهاج لم يكن يتضمن دراسة الآداب و العلوم العصرية . كما أنّ شيوخ الزيتونة لم يكونوا راضين عن تطرف الشاعر و شذوذه ، و لا عن شعره .
و إذا كان جو الزيتونة لم يرق للشابي فلم يمنعه ذلك من تكوين ثقافة واسعة عربية بجتة جمعت بين التراث العربي القديم في أزهى حلله ، و بين روائع الأدب الحديث في البلاد العربية و في المهجر ، إضافة إلى ترجمات الآداب الأوربية التي كان المنفلوطي و العقاد و الصاوي ينقلونها إلى اللغة العربية و تنشر في الصحف التونسية . و قد تركزت رغبة الشاعر ، بصورة خاصة ، على الأدب العربي الذي نشأ في أميركا على أيدي المهاجرين العرب ، و تأثر به تأثراً بالغاً .
و في العام 1927 تخرج الشابي من الزيتونة و نال إجازة " التطويع " و هي شهادة نهاية الدروس في الجامعة ، لكنه أدرك أن الشهادة لا تؤمن له كسب المعاش الذي يرضي طموحه و يوافق ميوله ، و ذلك لأن آراءه لم تكن تتفق مع آراء شيوخ الزيتونة . فقرر ، بعد مراجعة والده ، أن ينتسب إلى كلية الحقوق التونسية في العام المدرسي التالي . و خلال تلك الفترة تزوج الشابي عام 1928 قبل أن يتخرج من كلية الحقوق . و عن هذا الزواج يحدثنا زين الدين العابدين السنوسي أحد الذين تربطهم بالشاعر علاقة وثيقة جداً ، و كان يعرف عن الشابي أكثر مما كان أهل الشاعر أنفسهم يعرفون عنه . يقول زين العابدين : " إنّ الشابي لم يكن حازماً أمره على الزواج ، و لكن والده كان يحب أن يتخذ ولده لنفسه عرقَ خلود و بقاء ، و الشيخ أحرص ما يكون على بقاء جذوره . مع أن الشاعر كان منكمش الفؤاد يتهيب الزواج بعقله المدرك " . و جاء الشابي إلى صديقه و معتمده في كثير من شؤونه يمشي على استحياء و قال له : " جئتك لاستشيرك … هل أتزوج ؟ " قال السنوسي : " و شعرت أنا بثقل مسؤولية الاستشارة
و قد تضاربت الآراء في شأن نجاح هذا الزواج ، ففي حين يؤكد السنوسي أن الشابي كان في زواجه سعيداً موفقاً ، و أن زوجه كانت تعطيه كلّ ماوهبها الله ، و تشفق عليه و تترضاه ، يرى آخرون أن هذا الزواج كان فاشلاً .
و لكن الشاعر ، على الرغم من أنه قد أقنع نفسه بضرورة الزواج إرضاء لأبيه ، و على الرغم من أنه رزق من زواجه هذا ولدين ، و على الرغم مما يرويه السنوسي عن نجاح زواجه ، فإن سلوكه العاطفي ، كما نرى من ديوانه ، لا يدل على أنه كان سعيداً في حياته الزوجية . ذلك أن المرأة الفاضلة التي تحدث عنها السنوسي ، و التي قبلت أن تكون زوجاً لرجل عليل ، مصاب بمرض في قلبه ، و توليه تلك الرعاية ، و تحيطه بتلك العناية الفائقة ، لا بد و أن تكون زوجة فاضلة . غير أن الشاعر لم يبادلها قط بما كان يلقى منها ، و لم يذكر شيئاً من عطفها و حنانها في ديوانه ، و لا خصها ببيت واحد يدل على محبته لها أو امتنانه لما كان يلقاه من حبها و حسن معاملتها . إن الزواج الشابي لم يهبه الإطمئنان الذي كان يحلم به ، فانقاد ، بعد عام واحد من زواجه ، إلى الحب الذي لم يعثر عليه مع زوجته ، فطلبه في حب فتاة خارج بيته ، كان قد عشقها منذ عهد الطفولة . و لكن الأقدار شاءت أن تموت الفتاة باكراً ، فترك موتها في نفسه أسىً عميقاً تردد في أشعار الفترة الأولى من حياته الشعرية . و ظل الشاعر يذكر هذا الحبّ لفترة طويلة سرعان ما حمل نفسه أخيراً على نسيانه ، فأعاطه قلبه العليل ، فانتقل إلى حبّ جديد ثم إلى آخر فآخر . على أنّ موضوع حب الشابي يحتاج إلى دراسة مستقلة لن نتوقف عنده الآن ، لأنه يحتاج إلى عرض و مناقشة ليس مكانهما في هذه المقدمة .
بالإضافة إلى الصدمة التي تلقاها الشاعر في زواجه و في حبه الأول ، فقد تعرض إلى كارثة كبرى تمثلت بوفاة والده ، و لم يكن الشاعر قد نال بعد إجازة الحقوق . و شغل الشاعر الشاب بعلاج والده و الإهتمام به من الناحية المادية و النفسية . و حين أحس الشاعر بقرب وفاة والده ، انتقل به إلى مسقط رأسه " توزر " حيث توفي الشيخ الوالد في شهر أيلول من العام 1929 . و كانت وفاته خسارة كبرى هزت أركان الشاعر و بدلت نظام حياته ، بل كانت أكبر كارثة بتعرض لها في حياته و تؤثر على صحته و تصيب قلبه إصابة مباشرة . و بموت والده ، ألقيت على أبي القاسم أعباء مالية لم تمنعه من إتمام دراسته في كلية الحقوق في تونس و التخرج عام 1930 بإجازة الحقوق .
و في ديوانه إشارات واضحة و صريحة إلى تلك الكارثة التي ألمت به ، يظهر ذلك جلياً في قصيدته " يا موت " التي رثى بها والده حيث تقول :
يا موتُ ، قد مزقتَ صدري و قصمت بالأرزاء ظهري
و فجعتني في منْ أحبُّ و منْ إليه أبثُّ سري
و رزأتني في عمدتي و مشورتي في كل أمرِ
ثم يعود في قصيدته " قيود الأحلام " فكيف لنا عن الأعباء التي ينوء تحتها و تتمثل بالقيام بأعباء العائلة التي تركها والده حين يقول :
لكنني لا أستطيع فإنّ لي أماً يصدُّ حنانها أوهامي
و صغارَ أخوانٍ يرون سلامهم في الكائنات معلقاً بسلامي
فقدوا الأبَ الحاني فكنتُ لضعفهمْ كهفاً يصدُّ غوائلَ الأيامِ
لكن الشاعر استطاع أن يتجاوز تلك المرحلة حيث تحسنت حال المادية و عاد إليه بعض التحسن الصحي ، يدل على ذلك ما جاء في إحدى قصائده التي يقول فيها :
ما كنتُ أحسبُ بعد موتك يا أبي و مشاعري عمياءُ بالأحزانِ
أني سأظمأ للحياة و أحتسي من نهرها المتوهج النشوانِ
و أعود للدنيا بقلب خافقٍ لحبّ و الأفراح و الألحانِ
فإذا أنا ما زلتُ طفلاً مولعاً بتعقب الأضواء و الألوانِ
كان الشابي على إثر تخرجه من الزيتونة ، أو قبل بقليل ، يعلم أنه مريض في قلبه ؛ لكنّ أعراض الداء لم تظهر عليه واضحة إلاّ سنة 1929 ، و كان والده قد رغب إليه في أن يتزوج . فلم يجد أبو القاسم بداً من أن يستشير طبيباً ، ليوفق بين رغبة والده و بين مقتضيات حالته الصحية . و قد توجه الشابي برفقة صديقه الصحفي السنوسي لاستشارة الدكتور محمد الماطري ، النطاسي البارع في تونس ، و لكن لم يكن قد مضى عليه يومذاك في ممارسة الطبّ سوى عامين . و بسط الدكتور الماطري للشابي حالة مرضه ، و حقيقة أمر ذلك المرض كما ذكر له أن هناك حالاتٍ كثيرةً آراء كبار الأطباء في مرض القلب . غير أنه حذره على كل حالٍ عواقب الإجهاد الفكري و الجسدي . و بناء على رأي الدكتور الماطري و امتثالاً لرغبة والده عزم الشابي على الزواج . و لكن يبدو أن حياته الزوجية لم تبدأ فعلاً قبل عام 1930 .
لكن الشابي ، يبدو أنه كان يحمل بذور مرضه منذ طفولته ، فقد ازدادت حالته الصحية تدهوراً بعد الزواج لأسباب متعددة : منها تطور المرض مع الزمن ، ثم ضعف بنية الشاعر ، و الأحوال السيئة التي كانت تحيط به في حياته الطالبية ، و وفاة والده ، و حبيبته الصغيرة ، و إهماله لنصائح الأطباء في الاعتدال في حياته الفكرية و الجسدية .
و قد عالج الشابي مجموعة من أطباء القلب و منهم الطبيب الفرنسي الدكتور كالو ، و كانوا ينصحونه بالإقامة في الأماكن المعتدلة المناخ . ثم بدأت النوبات القلبية الحادة تنتاب الشاعر قبل أن يرزق ولده البكر في أواخر عان 1931 . أما أخا الشاعر محمد الأمين الشابي فإنه يروي للسنوسي خبر نوبة انتابت الشاعر عام 1930 حيث يقول : " كان يعتلج من ضائقة صدرية من ذات القلب فزعت لها أمه و زوجته ( و أخوه ) عندما كان أبو القاسم يخرز لهم بعينين لا ترجوان معونة من أحد ، إلاّ من قلبه لو استعاد اتزانه … نوبة دامت ساعتين يقلب في أثنائهما وجهه و لا ينبس إلا بقطرات من العرق تتلألأ على وجهه بالجهد الذي تبذله الحياة لتحقيق وجودها . و نحن نشرئب لنغيثه بشيء يطلبه ( و لا ندري ما هو ) … ساعتين من هذا الفزع الجهيد تقريباً …. ثم هجعت النوبة ، إذ لان وجهه و رأينا عينيه تطمئناننا عن فوزه بالراحة . و بالفعل هيؤ و بدأ يسوي ثيابه و رقبة قميصه . ثم تكلم منشرحاً صوته انشراح من حط وزره و نزع الحمل الجهيد ، و بادرنا للاستجابة لأمره مغتبطين :
أعطني ورقاً ، و القلم من جيب فرملتي . ( و أعطيناه ما طلب ) . فأخذ يكتب حالاً . أذكرها الآن ، فهي هذه القصيدة :
يا إله الوجود ، هذي جراح في فؤادي تشكو إليك الدواهي و لم يحسن الشابي مداراة مرضه ، بل استمر يرهق نفسه بما كان الأطباء قد نهوه عنه " .
و قضى الشابي صيف 1932 مستشفياً و راح يتنقل بين المصايف و المنتجعات ، و لكنّ ذلك لم يجده نفعاً . بل ساءت حاله في آخر عام 1933 و اشتدت عليه الآلام فاضطر إلى ملازمة الفراش حتى إذا مرّ الشتاء و أقبل الربيع حلام عليه أطباؤه الكتابة و المطالعة و طلبوا إليه أن ينتقل إلى " حامة تورز " طلباً للراحة و هي موضع فيه عين ماء حار تستشفي بها بعض العلل . و أخيراً أعيا الداء على التمريض المنزلي ، فغادر الشابي إلى العاصمة حيث دخل مستشفى الطليان في الثالث من تشرين الأول سنة 1934 قبل وفاته في التاسع منه عند الساعة الرابعة صباحا من نهار الاثنين . و نقل جثمانه في أصيل ذلك اليوم إلى " توزر " و دفن فيها . و قد نال الشابي بعد وفاته عناية كبرى ، و تألفت عام 1946 لجنة لإقامة ضريح له نقل رفاته إليه باحتفال مهيب في الثالث عشر من شهر أيار سنة 1946 حضره جمع غفير من رجال العلم و الأدب و السياسة

تقييم:

0

0
مشاركة:


التعليق على الموضوع

| يونس الزهيمي | دماء والطائيين | 07/12/11 |
شكرا على المعلومة

| بن حسين التمتام | ضرماء | 12/08/11 |
اشكرك سيدتي على هذا التعريف باديب وشاعر فقدة الكثيرون ممن احب ادبه وشعرة . سلمت اناملك

| black tiger | بني عياط | 08/04/11 |
شكرا على المعلومات

| عمر ادم حسن | عد الفرسان | 07/03/11 |
الا رحم الله الشاعر ابو القاسم الشابي، لا يستطيع العقل ان يتصور ان كل هذا الابداع قد مات صاحبه وهو ما زال في ريعان شبابه (25 ربيعاً)!

(نبني فتهدمها الرياح فلا نضج ولا نثور)


...........................................

=== إضافة تعليق جديد ===
الإسم:

نص التعليق:

انقل محتوى صويرة التحقق في الخانة أسفله:
الصورة غير ظاهرة