فضاءات الأوسط قمولا

الأوسط قمولا

فضاء الثقافة والمواضيع العامة

العضو الأكثر فعالية على مستوى الـبلدة
ناصر بكر
مسجــل منــــذ: 2012-06-14
مجموع النقط: 9.85
إعلانات


الجوار عند العرب

"الجوار عند العرب"
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين ، نبينا محمد عليه وعلى آله وصحبه أجمعين أفضل الصلاة و أزكي التسليم ... أما بعد :
فإذا كانت الشيم والخصال المحببة كثيرة مشتركة بين الشعوب والأمم والأجناس البشرية ؛ فإن للعرب تميزاً في خصال عرفت عنهم . وكان الشعر هو علمهم الذي لم يكن لهم علم أصح منه كما قرر ابن سلام ذلك عنهم ؛ فالشعر سجل لمكارم الأخلاق وفضائل الأعمال التي جاء النبي r بتمامها كما أثر عنه صلى الله عليه وسلم :
" إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق " . ومن مكارم أخلاقهم حماية الجار والرفق بالغريب وإذا كانت العرب قد أخذت بهذه المكارم قبل الإسلام فإنها قد استمرت ترعاها بعده حتى يومنا هذا ؛ فبرز في قصائدهم البيان عن حق الجار كما صور الشعراء الإحساس بقداسته عبر مسارات الزمن وتتابع الأجيال وهذا الموضوع عن :الجوار عند العرب .
تعريف الجوار في اللغة العربية
جاء في معاجم اللغة عن مادة " جور " الجار الذي يجاورك ، وجاور بني فلان تحرم بجوارهم ، والجار الحليف ، والجار الناصر ، والجار الجنب ألا يكون له مناسب فيجيء إليه ويسأله أن يجيره أي يمنعه فينزل معه فهذا الجار الجنب له حرمة نزوله في جواره ومنعته وركونه إلى أمنه وعهده . واستجاره سأله أن يجيره وفي قوله تعالى :
" وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ " (التوبة) . ­­ويقال للذي يستجير بك جار وللذي يجير جار و الجار : الذي أجرته من أن يظلمه ظالم و الجار و المجير و المعيذ واحد وهو سبحانه يجير ولا يجار عليه أي يعيذ ؛ وقال تعالى لنبيه (صلى الله عليه وسلم ) :" قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا " .(الجن:22) أي لن يمنعني من الله أحد وجاء في صحاح الجوهري تحت المادة نفسها قوله : والجار هو الذي أجرته من أن يظلمه ظالم قال أبو جندب الهذلي:
وَكُنْتُ إذا جاري دعا لمضوفة
أشمر حتى ينصف الساق مئزري
(1)
ومن هذا العرض اللغوي يظهر أن معنى الجوار هو الحماية و النصر من القوي القادر للضعيف وإعطاء الأمن ورد العدوان وقيام الرجل أو الجماعة أو القبيلة بحسن الجوار وبذل الحماية لمن لا تجب له بسبب غير الجوار يعد عرفاً محموداً عندهم وهو في المقابل دليل على قوة المجير وسيادته في قبيلته عندما يجير عليها فتذعن لجواره وتحفظ عهده كما تعد حاجة المستجير إلى الحماية وانضواؤه تحت كنف القوة ليأمن البطش و الخوف الذي يخشاه على حياته أو ماله أو عرضه دليلاً على ضعفه وتنازله عن حقه في الدفاع عن نفسه إلى من استجار به (2).
دواعي الجـــــــــوار وأسبابه
على الرغم مما جُبِل عليه الإنسان من حب للحياة المطمئنة الهادئة إلا أن النظام الاجتماعي في الجزيرة العربية قبل الإسلام قام على الانفصال والتباعد بين القبائل فاعتمد الناس على القوة والشجاعة ومقارعة الخطوب وغاب الأمن عن واقعهم فاشتدت حاجتهم إليه وقوي شعورهم بأهميته في حياتهم فالتمسوا السبل إلى ما يحقق لهم الاستقرار واحتاجوا إلى قانون يأمن فيه الخائف ويتبلغ به المسافر ويلجأ إليه الضعيف ليأمن الظلم وقسوة الطبيعة . وفي سبيل بحث العرب عن الأمن والاستقرار لجأوا إلى المقدسات المكانية وجعلوا الكعبة وما حولها مكاناً آمناً يقي أهله من العدوان ويهيئ الاطمئنان النفسي للمقيمين فيه ثم جعلوا الشعائر الدينية كالحج والعمرة مأمناً للحجاج و العمار ويكفي أن يقول المسافر إنني جئت حاجاً أو معتمراً فيصير آمناً ؛ واختار العرب الزمن أيضاً لتجد فيه أمناً فقسمت الأشهر إلى حرم وغير حرم وكانت الأشهر الحرم فترة أمن للخائفين لا يجوز فيها حرب ولا يحل فيها قتال وبلغت بها أربعة أشهر - ثلث العام - وعظمت حرمتها وسمت ما وقع فيها من حروب الفجار تقبيحاً لها وتنفيراً (3). وحاولت العرب أن تلتزم بأمن الحرم في حدوده المعروفة عندهم ومع بحثهم في الزمان والمكان ليكون لهم أمن فإن البحث عن ملاذ آخر يمد ظل الأمن في حياتهم إلى مساحات أرحب كان ضرورة اجتماعية فنظروا في عادتهم وما جبلوا عليه من حب للمروءة وكرم الأخلاق و النجدة ومساعدة الضعيف فوجدوا فيها ما ينهض بما يريدون من أمن فعدوا الجوار مصدراً أمنياً يمد ظله في أرجاء الجزيرة في الأوقات كلها لا ترتبط بمكان ولا زمان ويوفر الاستقرار في النفوس المبهوتة ويبعث الأمل فيها ويقدم العون للضعفاء و العاجزين عن حماية أنفسهم أو مالهم أو أعراضهم من بطش القوة الغاشمة (4).
وحياة الجاهلية حياة لا يحميها سلطان ولا يقوم على تنظيمها قانون ولا تشريع تسنده قوة منظمة فأصبحت البيئة الاجتماعية في الجزيرة تضطر من يعيش فيها إلى استعمال القوة والاعتماد عليها واللجوء إلى البطش إذا لم يكن هناك رادع يردع أو توازن يمنع ؛ فصار الجوار عندهم هو الرادع الذي يحد من غطرسة القوة ويقلل من عدوان البطش الظالم على من لا يستطيع الدفاع عن نفسه(5).وقد قويت أسباب الجوار فأقرته العرب عندهم وجعلت احترامه و العمل به إحدى قواعد التعامل المتفق عليه فصار قانوناً مقدساً وأصبح تقليداً اجتماعياً راسخاً وبلغ من الاهتمام به ما جعل صلة القربى ورابطة النسب أقل منه شأنا عند بعضهم(6). وقد جاء العمل بقانون الجوار على صور كثيرة وأنماط شتى حفلت بها كتب الأدب والتاريخ و القصص والأمثال وجاءت على هيئات وكيفيات متعددة ولم تكن لها صورة واحدة تحدد كيف يطلب الجوار وكيف يتم ذلك . إلا أن الميزان الثابت الذي لا يتغير في الحالات كلها هو ميزان القوة في كفة والضعف في كفة أخرى فإذا قوي شخص أو قبيلة أو فئة بأي سبب من أسباب القوة وضعف شخص أو قبيلة أو فئة لسبب من أسباب الضعف أتى الجوار بين الضعف والقوة على كيفية تحددها اللحظة التي يتم بموجبها الجوار .
فقد يحدث فجأة أن يلجأ المطارد إلى بيت ليس فيه من يدافع عنه غير النساء فتنهض المرأة بالجوار و الحماية .
وقد يكون سبب الجوار قرابة ، أو مكافأة على إحسان سابق (7) .
الجوار في القرآن الكريم
إذا وصلنا إلى الإسلام وجدناه يؤصل حق الجار ويؤيد ما تقوم العرب به من إكرام له ويقوي الاهتمام به ويرسخ الإيمان بمضمونه الاجتماعي ويجعل حفظ الجوار أحد أسس قيام المجتمع المثالي وقد نص عليه الرسول صلى الله عليه وسلم في أول عهد كتبه بين المهاجرين وأهل المدينة كما جاء في السيرة : [ وإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم وإنها لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها ](8) ؛ وقد أخذت وثيقة المدينة المنورة المعنى الشامل للجوار وأدخلت في ذلك الحقوق المعروفة في الجاهلية وزادت فأضفت عليها جمال الصبغة الإسلامية وأخذ التشريع الإسلامي يوسع حقوق الجار وينظمها وجعل للجوار منطلقات أمانية ووضع أسساً تقوم على استغلال قناعة العرب في الجاهلية وتضيف إليها الترغيب في الأجر والثواب على أساس المعاملة الحسنة والبر والرحمة بالإنسان وكان نزول القرآن معلناً تأييد المروءة العربية والخلق الصميم الذي نشأ في الجزيرة وقوي مع الأيام في حياة العرب ؛ فشدد على حق الجوار وقد ذكر ذلك في ثمانية مواضع منه تعددت بتعدد المناسبات والحالات التي عرضها التنزيل ومنها قوله تعالى:
" قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ"
(المؤمنون) .(9) .
الجوار في السنة النبوية
وكان الشعر هو علم العرب الذي لم يكن لهم علم أصح منه كما قرر ابن سلام ذلك عنهم (10) ؛ فالشعر سجل لمكارم الأخلاق وصفوا به أمجاد آبائهم وأجدادهم وكان اهتمامهم به كبيرا ولاسيما ما يرصد مكارم الأخلاق وفضائل الأعمال التي جاء النبي يتممها كما أثر عنه: " إنما بعثت لتمم مكارم الأخلاق " ومن مكارم أخلاقهم الكرم بمعناه الواسع و الشجاعة و المروءة وحماية الجار .
أما السنة فقد أكدت حقوق الجار وجعلتها من تمام الإسلام وأمرت باحترامها وعظمت الوفاء بها كما حددت الجوار وميزته من غيره وجعلته جوار المنزل و القرابة في السكن وهو أمر متفق عليه مع فلسفة الإسلام وضرورة قيام الدولة بوظيفتها الطبيعية وهي توفير الحماية للفرد والجماعة والقبيلة فلم يعد هناك حاجة لحماية الجار التي كانت سائدة قبل قيام الدولة في المجتمع العربي وقد أصبحت الحماية للإنسان فيه مسلماً كان أو كافراً أو معاهداً حقاً من حقوق الدولة التي يجب ألا تسمح بأن يمارس احد سلطته الخاصة مع سلطتها التي وفرت الأمن للناس كافة دون تمييز لا تنظر إلى قرابة ولا نسب أو سبب فأصبح معنى الجوار في المجتمع المنظم ترعاه قوة السلطان وبقيت العلاقات الإنسانية والشخصية مجردة من الرغبة و الرهبة ؛ وكادت بعض الآثار أن تجعل للجوار من الحقوق ما لصلة القربى والرحم ، ومنها الأثر المعروف :" ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه"(11) .
وقال النبي (صلى الله عليه وسلم):" لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه" (12) .
الجوار في الشعر العربي
التصور العام للجوار في العقل العربي تصور واسع غير محدود يعطي مساحة لتمدد الخيال في حق الجار وفي متطلبات ذلك الحق ويصل التصور في بعض الأبيات إلى الربط بين القدرة المطلقة وحق الجوار الأبدي في مفهوم العلاقة القائمة بين المتجاورين حتى لو كانت العلاقة وهمية أو مجردة من سبب ؛ كما يرى الأعشى الهمداني في البيت التالي :
ألا بهلة الله الذي عز جاره
على الناكثين الغادرين بمصعب
(13)
فالعرب يجعلون الله جاراً لمن لا يستطيع أن يدافع عن نفسه إما لعدم القدرة على الدفاع وإما لخفاء المعتدي الذي لا يتحدد مكانه ولا يعين شخصه فلا يستطيع أحد أن ينتقم منه ولاسيما الوشاية التي تأتي بظهر الغيب فيكون الله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور هو الجار المنتقم المدافع عن الإنسان في هذا الحال الذي لا يستطيع معه دفاعا وقد يكون تصور الجوار مثالياً في الشعر مجرداً من دلالة المعنى المراد فهو صورة العلاقة الأبدية التي لا يود الشاعر أن تأتي لها نهاية وإذا أتت نهايتها ففيها وقع مؤلم حيث لا أمل باللقاء مرة أخرى ولا أمل بالعودة إلى طبيعة الحياة التي مرت كجوار منقطع بعيد .
علاقة الجوار
تعد حاجة المستجير إلى الحماية وانضواؤه تحت كنف القوة ليأمن البطش ويبعد عن مكامن الخطر في حياته أو ليأمن ما يخشاه على ماله وعرضه دليلاً على ضعفه وتنازله عن حقه في الدفاع عن نفسه إلى من استجار به وبهذا يكون جانبا المعادلة في علاقة الجوار:
أولا : المجير الذي يلجأ إليه وتطلب منه الحماية فيتحمل أعباءها ويتقبل تبعاتها.
ثانيا: المستجير أو المجاور الذي يطلب الحماية ويرغب في الجوار .
والعامل لدى طرفي المعادلة هو معنوي بالدرجة الأولى وذاتي بالثانية فالمجير إذا أعطى جواره لأحد يكون قد أعلن قدرته على الدفاع عنه متحدياً أحداً من عشيرته أو من غير عشيرته أن يخفر ذمته فاعتداده بقدراته يعطيه مكانة يحترمها الآخرون تزيد من رصيده المعنوي عند القبيلة التي ينتمي إليها حيث يكون لحماية الجار خصوصية معنوية كبرى إذ أنها امتحان داخلي لقوة المجير ومحك يعرف به مدى ما يتمتع به من احترام عند الآخرين أيضاً وهو عندما يعلن الجوار والحماية على غريب ينزل مع القبيلة إنما يعلن التحدي بأن أحداً لن يستطيع المساس بجاره أو يقدم على خدش كرامته وإذلاله ولو حدث شيء من ذلك ؛ برزت نماذج من التحدي والتي حدثت في تاريخ العرب من أجل الجوار وما تحمله المجير من حروب طاحنة وقتال طويل غيرة على كرامة المجير وحرمته ومن الشعور بالتحدي الداخلي جاءت المبالغة في حماية الجار كما جاءت قسوة الانتقام ممن يقدم على إهانته وقد حفلت كتب الأدب وأيام العرب بذكر قصص الحروب التي كان الجار سبب اشتعالها وقيام الحرب الضروس من أجله ولا يعوزنا الدليل من تاريخنا الأدبي على عدد من الأيام المشهورة التي كان خفر الجوار فتيلها والدفاع لإضرامها (14). أما عندما لا يستطيع المجير حماية الجار ولا تأمين السلامة له فإنه يعلن ذلك لجاره ويدله على من يؤمن له حمايته حتى لا يفتك بالجار وهو في ذمته ويطلب لجاره المأمن عند من هو قادر على ذلك ؛ وينشأ عن الجوار علاقة قوية بين الجارين بقى من مدلولاتها ما سجله الشعراء ولهجت بعه ألسنتهم وبقي موروثاً حياً في خيال العرب حتى عصرنا الحاضر . ولكن تحديد ما يترتب على هذه العلاقة من واجبات وحقوق بقي غير محدود وأصبح فيه شيء من التعميم الواسع و الغموض في بعض الأحيان ؛ فالعلاقة المترتبة على الجوار كانت في وصف الشعراء الذين جعلوا الجوار ظرفاً مكانياً تترتب عليه واجبات والتزامات معنوية كما مر في المعني اللغوي للجوار فأغلب المعاني التي تأتي تحت هذه المادة تذهب إلى معاني الحماية والنصر والعون والالتزام الثابت بحقوق الجوار(15).
و الحماية لا تتحقق لبعيد الدار النازح عن الحي ؛ إنما تكون لمن هو في كنف المجير غير بعيد عنه حتى يلتزم بالحماية كما أن قرب المكان أحد أسس العلاقة التي تقوم بينهما أما ما عدا ذلك فتكون الحماية المطلقة للجار ما دام في الجوار ولا يوجد نص واضح في تحديد علاقات أخرى غير الحماية من المجير للمستجير وما عدا هذا فيكون الإكرام وحفظ المعرفة الماضية ؛ كما جاء في قول عمير بن الأيهم :
ونكرم جارنا ما دام فينا
ونتبعه الكرامة حيث مالا
(16)
حقوق الجار
مر الحديث عن مفهوم الجوار عند العرب في الجاهلية وعلاقة الجار بالمجير وظهر أن ابرز ما كان من علاقة بينهما هو الحماية التي يحتاجها المستجير من جاره ولم يكن من الواضح وجود حقوق أخرى غير الحماية وتأمينه في الحي مادام مقيماً في كنفه والإكرام وحفظ الجار من أن تناله يد ظالمة وقد جعل عقيل بن علفة حق الجار كحق النفس وأحد الأركان التي يعتمد عليها المرء ويتصف بها الكريم فعندما سأله عبد الملك بن مروان عن مبلغ حفاظ بني مرة قال يدفع كل رجل منا عن جاره دفاعه عن نفسه . وجعل حميد بن ثور الهلالي الحماية أول الحقوق وفخر بها فقال في وصف قومه:
ترى جارهم آمنا وسطهم
يروح بعقد وثيق الســــبب
إذا ما عقــــــدنا له ذمـــة
شـــددنا العناج وعقد الكرب
(17)
وحق الجار يظهر في الشعر قوياً واضحاً إلا أن الغلو والمبالغة ظاهرة فيه أيضاً ويتمدد الخيال في مساحة واسعة منه وذلك عندما يتحدث الشاعر عن فخره بحماية الجار فيضفي صفات من المروءة إليه وإلى قومه وتصبح الصورة في ذهنه ذات شقين: شق يتناول بالذكر حق الجار وآخر يعالج مدى حفاظ قومه على هذا الحق(18).
حماية الجار
العلاقة بين الجار والمستجير ليست علاقة تكافؤ ولا مضادة وليست مماثلة بل هي علاقة اليد الطولى الحامية و اليد القصيرة المحتاجة إلى الأمن الطالبة للجوار وليست هذه الحاجة مما يضعف مكانة الجار أو يقلل من أهميته واحترامه ؛ فقد يطلب الحماية أعظم رجل في المجتمع القبلي أو استجابة لواقع اجتماعي يصبح فيه للجوار أهمية خاصة وقد يتحول القوي من بلده وينفرد عن قومه وينتقل من حيه فلا يجد بداً من أن يستجير بمن يستطيع أن يقدم له العون وقد استجار امرؤ القيس بعامة الناس وطلب النعمان بن المنذر من بعض العرب أن يجير له حتى عرض عليه الجوار لص من لصوصهم وخليع من خلعائهم. ولكن هذه في حالات خاصة وظروف استثنائية أما العام الشائع في الجوار فهو أن يكون حماية يضيفها سيد من سادات العرب على من حل في جواره أو سار معه أو لجأ إليه وتكون الحماية من قبيلة المجير خاصة وحيث أن الأمن في البيئة العربية غير متهيئة أسبابه ولا قوية أطنابه ؛ لذلك فقد يجد الرجل القوي نفسه في بعض الظروف عاجزاً عن توفير الحماية لأهله وماله فضلاً عن حق الجار لهذه الأسباب أصبح حق الجار مقدساً في التقاليد العربية فاستحق كماً هائلاً من الشعر الذي يصف قائلوه وفاءهم للجار إذا نجحوا في حمايته واستطاعوا قهر العقبات العارضة في بيئتهم القاسية فيمدحون غيرهم من الأقوياء ويفخرون بأنفسهم وما ذلك إلا لأهمية الجوار في حياتهم وقيمته لنظام المجتمع العربي ومشقة توفير الحماية بغير العمل بقانون الجوار فإذا تغلبوا على هذه المشقة عدوا ذلك فوزاً يستحق الثناء ويستحق التخليد ويزخر الشعر العربي القديم بالحديث عن حماية الجار وعزته؛ يقول المتوكل الليثي يتمدح بحماية الجار:
يرى للضيف والجيران حقــاً
ويرعى في صحـابته الذماما
كأن الجـــار حين يحل فيهم
على الشم البواذخ من شماما
(19)
الفخـــــر بحمـــــــــاية الجــــــــــار
يزخر الشعر العربي بكم هائل من الأبيات التي تتحدث عن الذات والفخر بما يحققه الفرد أو القبيلة من فضائل وقد يبالغ المادحون حتى يصل الأمر ببعضهم إلى الشطط المرفوض اجتماعياً ولأن حق الجار في رأي الشعراء العرب يجب أن يحمى بالقوة وأن يكون مدعاة للفخر والاعتماد على ترديده في كل مناسبة وبلا مناسبة في بعض الظروف والأحوال فإن الحديث عن حمايته وعن إكرامه وعما يتطلب الفخر به ؛ ومنه العديد من الأشعار التى فاضت بها كتب الشعر والأدب وسارت بها الركبان وهو مشهور لا يمكن تجاوزه دون الوقوف عنده ومحاولة تتبع معناه الاجتماعي لدى المتعاملين به فخراً و المؤمنين بمكانته و الحريصين على الدفاع عنه ولا يقبل العربي المجير أن يمس جاره بأدنى أذى فإذا فعل ذلك وحمى جاره فإنه سرعان ما يتحدث عن هذا الخلق وعن هذه الشجاعة في نفسه وقومه الذين جعلوا جارهم عزيزاً قوياً لا يهان والقبيلة كلها في صف واحد مع المجير لا تخذله ولا تتخلى عنه إذا دعاها لحماية الجار كما يقول حميد بن ثور الهلالي:
متى أدع قومي يجـب دعوتي
فوارس هيجا كرام النســب
ترى جارهم آمنا وسطـــــهم
يروح بعقد وثيق الســــبب
إذا ما عقـــــــدنا له ذمــــــــة
شــددنا العناج وعقد الكرب
(20)
إكرام الجــــــار
بعد أن يوفر المجير حماية الجار وعزته والوقاية من العدوان عليه والتي تبعد عنه الخوف وتجعله آمنا بكنف القوم الذين استجار بهم من بطش القوة ، والحماية هي الأساس في طلب الجوار و اللجوء إلى القوي ليمنع عن الجار ما يصيبه من تجاوزات سوء الأمن حول حياته ؛ فإن الحديث عن مناخ ملائم للحياة الآمنة المطمئنة يكون مناسباً من المجير نفسه ومن المستجير أيضاً فإذا تم ذلك ؛ يصبح للكرم وحسن الضيافة نصيباً وافراً من اهتمام المجير بجاره وإكرام الجار تبوأ مكاناً بارزاً في لغة الشعر لأنه سيضفي خصلة أخرى من خصال الحمد وهي الكرم بعد أن تأكد من تحقق الخصلة الأولى وهي القدرة و الشجاعة وحتى يكون الفخر مكتملاً من كل جوانبه ؛ عندما يحتاج الشاعر إلى أن يفخر بشيء آخر ويصيب محمدة لنفسه غير الشجاعة فإن الكرم هو المطلوب حيث يأتي الجار في هذه الحال مسعفاً للشاعر فيعرض في شعره نموذجاً جديداً يحقق المغزى الذي يريد عرضه فيزعم أنه كريم جواد معطاء لا يبخل بشيء ويظهر ضرباً من التضحية في المال وهو صنو النفس ويزعم أنه يهين المال ويبذله في سبيل إكرام جاره كما هانت عليه حياته في سبيل حمايته بذلك ولم يبق مجال لحديث أطول عن قيمة إكرام الجار وفلسفة العرب للجوار وغرضهم من المحافظة عليه والاعتناء به واحترام معناه واتفاقهم على خصوصية علاقة الجوار مع اختلاف في الوسائل إلى هذه الخصوصية وتعددها إلا أنها في كل مذهب تصب في مصب واحد وتقود إلى غاية واحدة هي الثناء على المجير واحترام مكانته وشعوره بالرضا عن نفسه عندما يعز جاره ويقوى سنده بجيرته وهو في معناه الشامل اعتراف بقوة المجير وحمايته وهيبة جانبه في مجتمع يقدر الهيبة ويحترم القوة ويتطلع إلى المعالي كلها ويتنافس على مكارم الأخلاق(21).
مدح الجــــــار
شاع في البيئة العربية الفخر بحماية الجار والتمدح بعزته و الظهور بأن الجار منيع الجانب ولا يطوله ضيم ولا تصل إليه مذلة ؛ وساعد على نشره في المجتمع الشعراء وقد بالغوا في هذا الأمر حتى وصلوا درجة حادة من صور المبالغة مما يجعل من لا يعرف عادات العرب يشك في صدق شعرائهم فيما يمتدحون به خصال المروءة وقد يثور جدل حول حقيقة الحماية للجار هل هي واقع أو تصور للعزة يجعلون الجار فيها مدار المدح أمام التحدي ؟ .لكن يحسن الميل إلى محاولة تقديم البرهان على ما يؤيد الرأي القائل بعزة الجـار والشعور بحقه وعدم التهاون فيه .ولاسيما أن أثر الإكرام في نفس الرجل العربي يبقى طويلا ويستمر دائم الذكرى لما يواجهه من صروف الحياة وأشكال المعاملة التي يطبع بها شعوره قبل شعره .أما الحماية المعروفة التي هي الأصل في البحث عن الجوار فقد تحدث عنها الشعراء المستجيرون ومدحوا الجيران الذين وفوا في الجوار وحققوا الحماية و الأمن واستحقوا الثناء العطر من المستجير وهي شهادة الشعر التي نتحدث عنها منذ بداية هذا البحث القصير (22).
المبحث الثالث : هجـــاء الجــــــار
مضى الحديث عن مدح الجار ؛ ومن الطبيعي أن يقابل هذا الحال حال آخر فيوجد الشعر الذي يتهم بعض الناس بالتقصير بحقه أو يصفهم بالعجز عن حمايته ومادام هناك مدح للجار الوفي فإن طبيعة الأمور تقضي أن يكون هناك هجاء للجار المتساهل في حقوق جاره ولولا وجود المقصر ما صح التمييز ولا قام القياس بين الحالتين حال الأوفياء وحال المتساهلين في أداء الواجب أو بمعنى آخر العاجزين عن حماية الجار المقصرين في حقوقه وواجباته والمدح الذي يتوج به جبين الفريق الأول سيحل محله عار يحمله المقصر في الجوار وإذا وجد المدح في حق الجيران المحافظين على خصال المروءة فسوف يوجد الذم و الهجاء اللاذع للذين لا يحترمون علاقات الجوار ولا يحافظون عليها وفي هذا الجانب سيكون الشعر شاهدا على ما يعترى العلاقة بين الحيين من قوة أو ضعف فيصف ذلك على الرغم من أن الباعث على الهجاء .
الجــــــارة :
أما الجارة فإن العرب في جاهليتهم نظروا إلى حرمتها نظرة لا تنفصل عن النظر العام لحقوق الجوار والمرأة الجارة تكون في كنف القوم أضعف مستجير وأقل ناصر لذلك اهتموا بحمايتها وصون كرامتها ومدحوا من يحافظ عليها ويرعى حق جوارها وقد شهد شعرهم في هذا المجال بما يعدونه من كمال المروءة كان العرب في الجاهلية يعظمون حق الجار، ويحترمون الجوار، ويعتزون بثناء الجار عليهم، ويفخرون بذلك ، وشيمتهم أن يحفظ الرجل عورات جاره ولا ينتهكها، وقد قال عنترة بن شداد في ذلك شعراً:
وأغض طرفي إن بدت لي جارتي *** حتى يواري جارتي مثواها
وعندما جاء الإسلام أيد العمل بمكارم الأخلاق وحث على فضائل الأعمال وعظم حق الجوار عامة وحق الجارة خاصة فصار صون عفة الجارة خُلُقاً دينياً وسلوكاً اجتماعياً محموداً وجاءت الآثار والأحاديث تحث عليه وتجعل الاهتمام بالجارة و المحافظة عليها منطلقاً اجتماعياً ودينياً مقدساً فاتفقت تقاليدهم في الجاهلية مع روح الإسلام . يقول الشاعر في ذلك مادحاً من هذه صفاته :
لا يهتك الستر عن أنثى يطالعها
ولا يشد إلى جارته النظر
(23)
وختاماً ... فهذه نهاية رحلة حاولت أن تسير مع موروث عربي أصيل وخُلُق إسلامي نبيل جاء في تقاليد العرب وحفظته أعرافهم الاجتماعية التي خلدها الشعراء في التاريخ وقد فرضت طبيعة حياتهم الخضوع لنمط من التعامل في بيئة الصحراء التي حاجة الإنسان فيها إلى الأمن والاستقرار ضرورة فكان الجوار عند العرب من شيمهم التي أيدها الإسلام وجعلها من موجبات الإيمان بالله ؛ وقد اتخذت الرحلة الشعر زاداً تقطع به هجير الصحراء وجعلته دليلاً يقود إلى موارد المروءة في أخلاق أهل الفضل المحافظين على الحرمات ؛ لنستخلص منه الموقف المتفق عليه عند الجميع فتعرفنا على الجوار عند العرب ودواعيه وأسبابه ، وتعريف الجوار في اللغة العربية ،وفي القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة ، وماهية الجوار في الشعر، وعلاقة الجوار،وحقوق الجار ، وحماية الجار ، والفخر بحماية الجار ، وإكرامه ومدحه وهجاؤه ممن لم يرع حقوقه ، وقد كان الهدف محاولة التعرف على مكنون الضمير العربي الذي وافقت فيه الفطرة آداب الإسلام فعزز مبدأ علاقة الجوار وأيدها دون شطط ، وعن أبي هريرة t أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن " ؛ قيل : من يا رسول الله ؟ ؛ قال : " الذي لا يأمن جاره بوائقه " متفق عليه .وفي رواية مسلم :
" لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه " . والبوائق: الشرور .
والله الموفق وهو سبحانه المستعان . وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
(أبو جمال)
الهوامش:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الجوهري ، الصحاح - ديوان الهذليين، جـ 3 ، ص 92
(2) مرزوق بن صنيتان ، الجوار عند العرب (في الشعر حتى العصر الأموي) ، ص 17-19
(3) أبو الفرج الأصفهاني ،الأغاني ، جـ 22، ص 60- ص 75
(4) مرزوق بن صنيتان ، الجوار عند العرب ، ص 15- 16
(5) أبو الفرج الأصفهاني ،الأغاني ، جـ17 ، ص 210 .
(6) أبو الفرج الأصفهاني ،الأغاني ، جـ 3، ص 7
(7) مرزوق بن صنيتان ، الجوار عند العرب ، ص 16
(8) الطبري،تاريخ الرسل والملوك ، جـ2 (السيرة النبوية) ، ص 108
(9) مرزوق بن صنيتان ، الجوار عند العرب ، ص 20
(10) طبقات فحول الشعراء ، جـ 1 ، ص 24
(11) الذهبي ، حق الجار ، ص 12-22
(12) مرزوق بن صنيتان ، الجوار عند العرب ، ص 23-25
(13) المرجع السابق ، ص 25-26
(14) المرجع السابق ، ص 29 -30
(15) المرجع السابق ، ص 30 -33
(16) طبقات فحول الشعراء ، جـ 2 ، ص 727
(17) مرزوق بن صنيتان ، الجوار عند العرب ، ص 35-36
(18) المرجع السابق ، ص37-38
(19) المرجع السابق ، ص43-44
(20) فهد المارك ، من شيم العرب ، جـ 2 ، ص 54 / مرزوق بن صنيتان ، الجوار عند العرب ، ص 51
(21) مرزوق بن صنيتان ، الجوار عند العرب ، ص 59-65
(22) المرجع السابق ، ص 71
(23) أبو علي القالي ، الأمالي ، ص 16
المراجــع
*********
1- مرزوق بن صنيتان بن تنباك ، الجوار عند العرب (في الشعر حتى العصر الأموي) ، ط 2، دار المعارف ، القاهرة ،1414 هـ / 1993 م .
2- الذهبي الإمام الحافظ أبو عبد الله محمد شمس الدين الذهبي الدمشقي ، حق الجار، تحقيق/ هشام بن إسماعيل السقا،دار عالم الكتب للنشر والتوزيع، بيروت،1405هـ /1985م.
3- أبو علي القالي ، الأمالي ، دار الكتاب العربي .
4- فهد المارك ، من شيم العرب ، ط4 ، شركة الطباعة العربية ،السعودية- الرياض ، 1402 هـ / 1981م .
5- محمد بن سلام الجمحي ، طبقات فحول الشعراء ، تحقيق محمود محمد شاكر ،1394هـ / 1974م .
6- أبو الفرج الأصفهاني ،الأغاني ، ط4 ، الثقافة ،بيروت ،1398 هـ / 1978م .
7- الجوهري إسماعيل بن حماد ، الصحاح (تاج اللغة وصحاح العربية) ، تحقيق أحمد عبد الغفور عطار ، ط2 ، 1402هـ / 1982م .
8- ديوان الهذليين، تحقيق أحمد الزين محمد أبو الوفاء ، الدار القومية للطباعة والنشر ، القاهرة ، 1385هـ / 1975م .
9- الطبري محمد بن جرير، تاريخ الرسل والملوك ، جـ2 (السيرة النبوية)، تحقيق محمد أبو الفضل ، دار المعارف ، القاهرة ، 1961م .

تقييم:

0

0
مشاركة:


التعليق على الموضوع


لم يسجل بعد أي تعليق على هذه المشاركة !...

...........................................

=== إضافة تعليق جديد ===
الإسم:

نص التعليق:

انقل محتوى صويرة التحقق في الخانة أسفله:
الصورة غير ظاهرة