فضاءات الأوسط قمولا

الأوسط قمولا

فضاء الثقافة والمواضيع العامة

العضو الأكثر فعالية على مستوى الـبلدة
ناصر بكر
مسجــل منــــذ: 2012-06-14
مجموع النقط: 9.85
إعلانات


عصر الخلفاء الراشدين


الحمد لله الولي المنعم والصلاة والسلام على نبيه وآله وصحبه وسلم... أما بعد :
فإن عصر الخلافة الراشدة امتداد لعصر السيرة النبوية حيث تؤثر القيم الإسلامية على الناس في نشاطهم السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وتنعكس على الحكم في علاقته بالأمة من ناحية وبالقوى الخارجية من ناحية أخرى، وتؤثر في اختيار الحاكم وقيم التعامل معه من حيث الطاعة المشروطة بإنفاذ أحكام الشريعة،والحفاظ على وحدة الأمة، والشورى، والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.والاجتهاد الفردي والجماعي لاستنباط الأحكام من الكتاب والسنة فيما يتعلق بالوقائع الجديدة المتنوعة . وينظر المسلمون إلى عصر الخلافة الراشدة باعتباره أميز العصور في تاريخهم بعد عصر النبوة حيث تولى الحكم كبار الصحابة المقربين من النبي صلى الله عليه وسلم ممن شهد لهم بالسابقة والفضل والبشارة بدخول الجنة .، تعاونهم أعداد من الصحابة الذين نزل القرآن بعدالتهم شاهداً، وهم الذين يمثلوا النخبة في القيادة وفي الفكر والسياسة والإدارة والاقتصاد والفتوح، كما أنهم نقلوا القرآن والسنة إلى الأجيال التالية لهم . إن أهم المظاهر التي برزت في عصر الخلافة الراشدة تتمثل في تنظيم الإدارة والجيش والعطاء وتنظيم المناطق المفتوحة وخاصة في خلافة عمر رضي الله عنه. الحدث البارز والأهم هو حركة الفتوح الإسلامية التي شغلت العصر، وامتازت بالانسياح السريع في الهلال الخصيب والعراق وفارس ومصر والشام، حيث تغلب الفاتحون على الإمبراطوريتين البيزنطية والساسانية وهما أعظم القوى في الأرض في ذلك الزمان، وكانت الغلبة الحضارية المتمثلة في سيادة الإسلام واللغة العربية تزيد على أهمية الانتصار العسكري السريع، لأنها مكنت للإسلام ولغته العربية في الأرض المفتوحة حتى الوقت الحاضر.واللهُ من وراء القصد، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
نظـام الخــلافة وخليفة الرسول الأول
نظـام الخــلافة:
كانت فكرة الأمة الواحدة، والدولة الواحدة التي تسودها أحكام الشريعة في داخلها والرغبة القوية في تبليغ رسالة الإسلام خارج حدودها قد تمكنت من النخبة المسلمة عندما واجهت الحادثة الأليمة التي تمثلت بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وقد عبر أنس بن مالك عن أثر الحادث في النفوس بقوله : " لما كان اليوم الذي قدم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء وما نفضنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الأيدي حتى أنكرنا قلوبنا "ولفرط الذهول كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وليبعثنه الله فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم .. ولكن ربه أرسل إليه كما أرسل إلى موسى، فلبث عن قومه أربعين ليلة .. وأخذ بقائم سيفه وقال: لا أسمع أحداً يقول مات رسول الله إلا ضربته بسيفي هذا "، وطلب الناس سالم بن عبيد الأشجعي أن يدعو أبا بكر رضي الله عنه فرآه في المسجد فأخبره خبر الوفاة ، فدخل أبو بكر على عائشة وكشف عن وجه النبي صلى الله عليه وسلم وهو مسجى ببرد حبرة ، ثم قبله وبكى، وقال: " بأبي أنت وأمي، طبت حياً وميتا " ثم خطب الناس معلنا الوفاة: " ألا من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت " (1) واستشهد بالقرآن فنشج الناس يبكون ؛ وقد ظهر في الموقف رجحان علم الصديق، ورباطة جأشه، وشجاعته وجرأته، وقوة رأيه، ورغم الذهول الذي أصاب النخبة وعامة المسلمين فإن أهمية إقامة السلطة في الإسلام جعلتهم يتحركون في اتجاه اختيار الحاكم قبل أن ينتهوا من تشييع الجسد الشريف إلى مثواه ، وقد يقف خلف هذا التحرك السريع إدراك النخبة بخطورة الأوضاع المحيطة بالكيان الإسلامي الذي مضى عليه عقد واحد من السنين، تأسست فيه الدولة واتسعت رقعتها وكسبت أنصاراً لها داخل المدن الحجازية الثلاث خاصة في حين بقيت القبائل الكبيرة في أعدادها والمنتشرة في البوادي والصحراء تحيط بالمراكز الإسلامية من كل مكان .. وكانت الضوابط الشرعية لاختيار المسئول الأول للدولة تنحصر في قرشيته ومكانته التي يحددها قدمه في الإسلام وخدمته للدعوة وللدولة ومنزلته لدى النبي صلى الله عليه وسلم وإمكان إجماع الأمة أو أكثرها على شرعية توليه لرئاسة الدولة وخلافة النبوة، وكانت النخبة تتمثل في المهاجرين الذين تطلعوا إلى أبي بكر رضي الله عنه وبعضهم كان منشغلاً مع علي (رضي الله عنه) بتشييع النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الأنصار الذين التفوا حول زعيم الخزرج سعد بن عبادة وعقدوا اجتماعاً في سقيفة بني ساعدة لمناقشة الموقف الجديد .. فالأنصار هم السكان الأصليون للمدينة، وقد آووا المهاجرين ونصروا الإسلام بأرواحهم وأموالهم ، وهيئوا له فرص الاستقرار والانتشار، وعرفوا بإيثارهم وصبرهم وجهادهم وتضحياتهم أفلا يكون لهم الحق في رئاسة الدولة ورعاية الإسلام؟ وقد بلغ خبر اجتماع الأنصار في سقيفة بني ساعدة إلى المهاجرين وهم مجتمعون مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه لترشيح من يتولى الخلافة فقال المهاجرون لبعضهم: " انطلقوا بنا إلى إخواننا من الأنصار، فإن لهم في هذا الحي نصيباً ". قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " فانطلقنا نريدهم، فلما دنونا منهم لقينا منهم رجلان صالحان، فذكر ما تمالأ عليه القوم. فقالا: أين تريدون يا معشر المهاجرين؟ قلنا: نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار. فقالا: لا عليكم أن لا تقربوهم، اقضوا أمركم. فقلت: والله لنأتينهم فانطلقنا حتى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة، فإذا رجل مزمل بين ظهرانيهم، فقلت: من هذا؟ فقالوا: سعد بن عبادة فقلت ماله؟ قالوا: يوعك ". وقد كشفت روايات صحيحة عن اسمي الرجلين من الأنصار، وهما عويم بن ساعدة، ومعن بن عبدي ، وموقفهما يدل على عدم وجود موقف موحد للأنصار؛ ويبدو أن عدد المهاجرين الذين دخلوا السقيفة كان محدوداً، وربما دخل أبو بكر وعمر وأبو عبيدة أولاً ثم تلاحق المهاجرون. وقد حدث نقاش طويل بين المهاجرين والأنصار حول أحقية كل طرف بتولي الخلافة. وقد بين أحد الأنصار أحقيتهم بقوله: " أما بعد فنحن أنصار الله، وكتيبة الإسلام، وأنتم معشر المهاجرين رهط، وقد دفت دافة من قومكم، فإذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا، وأن يحضنونا من الأمر ". أما المهاجرون فتكلم عنهم أبو بكر الصديق بحلم ووقار وبديهية- كما وصفه ابن عمر- فقال: " ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل، ولن يُعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسباً وداراً. (2) يا معشر الأنصار: إنا والله ما ننكر فضلكم، ولا بلاءكم في الإسلام، ولا حقكم الواجب علينا، ولكنكم عرفتم أن هذا الحي من قريش بمنزلة من العرب ليس بها غيرهم، وأن العرب لن تجتمع إلا على رجل منهم، فنحن الأمراء وأنتم الوزراء، فاتقوا الله ولا تصدعوا الإسلام، ولا تكونوا أول من أحدث في الإسلام ". وقد وردت روايات ضعيفة تفيد أن المهاجرين احتجوا على الأنصار بحديث " قريش ولاة هذا الأمر" ، ولكن يبدو أن الحديث لم يخطر على بالهم، أو أن الصديق اكتفى بتضمينه في كلامه، والأول أقوى لأن الحديث كان سيقطع الأمر لصالح المهاجرين دون استمرار الحوار. لقد نظر الأنصار إلى الخلافة من زاوية محدودة بظروف المجتمع المدني والعلاقة التاريخية بين المهاجرين والأنصار، أما المهاجرون فنظروا نظرة واسعة على مستوى الدولة كلها وما يترتب على خروج السلطة من قريش من عواقب كبيرة لأن العرب يمكن أن ترض بقيادتها لمكانتها فيهم، أما لو تولاها الأنصار فقد تقع انشقاقات خطيرة تؤدي إلى تفكك الدولة الإسلامية. وقد طرح عدد من الأنصار فكرة تعيين أميرين أحدهما من المهاجرين والآخر من الأنصار ، ولكن أبا بكر رضي الله عنه قال: " لا، ولكنا الأمراء وأنتم الوزراء ". وقال عمر: " سيفان في غمد واحد !! ؛ إذا لا يصلحان ". وهنا تدخل كاتب الوحي زيد بن ثابت وهو من الخزرج فقال: " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من المهاجرين، ونحن أنصارهم كما كنا أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم ".فقال أبو بكر " جزاكم الله خيراً من حي يا معشر الأنصار، وثبت قائلكم، والله لو فعلتم غير ذلك لما صالحناكم " (3). وهكذا فان الخزرج هم الذين قاموا بالتنازل إتباعا للحق ومراعاة للمصلحة الإسلامية، ولم يكن التنازل بسبب عدم رغبة الأوس في تولي الخزرج الخلافة- كما يزعم أبو مخنف . (4)
خلافة أبي بكر الصديق (رضي الله عنه)
لقد جرى الترشيح بعد أن استقر الرأي على استخلاف أحد المهاجرين،فرشح أبو بكر أحد اثنين، عمر وأبي عبيدة. فقال عمر: " بل نبايعك أنت، فأنت سيدنا وخيرنا، وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ". وذكر بفضل أبا بكر قائلا: " ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر أبا بكر أن يصلي بالناس، فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر؟ قالوا: نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر ". وذكرهم بموقفه في حادثة الهجرة، ثم بايعه عمر وبايعه المهاجرون ثم بايعته الأنصار . ومن استعراض الروايات الصحيحة لاجتماع السقيفة ومبايعة أبي بكر خليفة يتبين أن الاجتماع لم يدم طويلاً ، ولم تجر فيه مناقشات طويلة بين المهاجرين والأنصار، أو تنافس وصراع على تولي الخلافة ، أو حدة في الكلام أو تهديدات أو عراك بالأيدي بين المجتمعين. وهذا كله مما صورته بعض الروايات الضعيفة التي وردت عن اجتماع السقيفة ، والتي تناقلها المؤلفون المعاصرون فشوهوا الصورة الوضاءة لذلك الاجتماع التاريخي الرفيع والذي قرر مصير الخلافة والدولة الإسلامية بحزم وترفُّع وإحساس كبير بالمسؤولية يستعلي على التفاهات والأهواء. ولم يكن أبو بكر رضي الله عنه حريصاً على الإمارة بل كان كارهاً لتوليها ؛ لما يعلمه من عظم المسؤولية أمام الله تعالى وخوفه من التقصير فيها ، رغم أن الصحابة كانوا يعلمون أنه أحقهم بها، وأقواهم عليها، وقد صارح أبو بكر المسلمين بمشاعره مراراً: " والله ما كنتُ حريصاً على الإمارة يوماً ولا ليلة قط ، ولا كنت راغباً فيهاً، ولا سألتها الله عز وجل في سر ولا علانية، ولكني أشفقت من الفتنة، وما لي في الإمارة من راحة، ولكن قلدت أمراً عظيماً ما لي به من طاقة، ولا يد إلا بتقوية الله عز وجل ، ولوددت أن أقوى الناس عليها مكاني اليوم " (5). فما أعظمها من مشاعر، وما أرفع صاحبها وأوعاه بحق الله تعالى وحقوق الرعية، وما أعمق تدينه وأحسن توكله، وأجمل تواضعه وأصدق أمانيه. إنه لم يجد أمامه إلا أن يقبل تولي الخلافة ليقود الأمة في طريق الوحدة والإيمان ورفع راية الرسالة الإسلامية رغم أن نفسه لا تطاوعه في تحمل المسؤولية الجسيمة خوفا من التقصير والتفريط.. وهكذا كان توليه الخلافة تضحية منه لصالح الإسلام وأمة الإسلام وليس مغنما يسعى إليه، وقد أعانه الله لصدق نيته وحسن وجهته.
وقد عرفت بيعة أبي بكر في السقيفة بالبيعة الخاصة وكانت يوم الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول سنة(11هـ ) ، وفي اليوم التالي الثلاثاء خرج إلى المسجد فبايعه الناس فيما عرف بالبيعة العامة بعد خطبة ألقاها عمر بن الخطاب
اعتذر فيها عن موقفه من حادثة الوفاة النبوية وإنكارها، وبين مكانة أبي بكر في الصحبة والهجرة، وأبو بكر صامت لا يتكلم، حتى انتهى عمر من خطبته وطلب من أبي بكر الصعود إلى المنبر لتلقي البيعة من الناس. ويحكي شاهد عيان طريقة البيعة لأبي بكر، يجتمع عليه العصابة فيقول لهم: " بايعوني على السمع والطاعة لله . ولكتابه ثم للأمير " ، وبعد البيعة العامة هذه، خطب أبو بكر في الناس قائلا:
" إني وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنتُ فأعينوني، وإن أسأتُ فقوموني ، الصدق أمانة،والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه - إن شاء الله -،والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه - إن شاء الله - لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل ، ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمهم اللهُ بالبلاء ، أطيعوني ما أطعتُ الله ورسوله، فإذا عصيتُ الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم. قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله ".
وقد تضمنت الخطبة الوجيزة هذه علاقة الحاكم بالمحكومين، فبين أن مجيئه للخلافة بإرادة الأمة وبتعاقد واضح، الطاعة من الناس مقابل التزام الحاكم بالشريعة، ورقابة الأمة على سياسته، وإعانته في الخير، وتصحيح سياسته إذا انحرف، كما فيها بيان الالتزام بإقامة العدل والجهاد وتنظيف المجتمع من الانحراف الخلقي، بالإضافة إلى ما تكشف عنه مقدمة الخطبة من تواضع الصديق الجم.والحق أن انتخاب أبي بكر للخلافة يوضح استعلاء قيم الإيمان وخضوع مقاييس الشخصية لها، لأن أبا بكر من تيم، وتيم من أضعف عشائر قريش. وتدل الروايات الصحيحة على غضب علي بن أبي طالب لعدم استشارته في أمر الخلافة ؛ بل تشير رواية الصحيحين على أن بيعته تأخرت ستة أشهر، وتربط بين عدم استجابة الصديق لطلب فاطمة بنت الرسول صلى الله عليه وسلم أن ترث " ما أفاء الله على رسوله بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر "، واحتج أبو بكر بحديث "لا نورث ما تركنا صدقة ". وقد غضبت فاطمة وقاطعته حتى توفيت، فبايع علي أبا بكر بعد وفاتها في المسجد بعد صلاة الظهر . فهذا أقوى ما ورد في بيعة علي لأبي بكر رضي الله عنهما، ولكن صحت روايات أخرى تفيد بأنه بايع في اليوم الذي جرت فيه البيعة العامة، وأنه وضح سبب غضبه بقوله: " ما غضبنا إلا لأنا أُخِّرنا عن المشاورة، وإنا نرى أبا بكر أحق الناس بها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنه لصاحب الغار، وثاني اثنين، وإنا لنعلم بشرفه، وكبره، ولقد أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة بالناس وهو حي " . وجمع ابن كثير وابن حجر بين الأحاديث الصحيحة بأن علياً بايع أول الأمر مع الناس ثم بايعه بعد وفاة فاطمة تأكيدا للأولى وإزالة لما حدث من جفوة بسبب الاختلاف حول الميراث (6).
خلافة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)
مرض أبو بكر رضي الله عنه، وأحس بدنو أجله، فاستشار الصحابة في أمر الخلافة بعده: " إني قد نزل بي ما ترون ولا أظنني إلا لمأتي.. فأمروا عليكم من أحببتم، فإنكم إن أمرتم عليكم في حياة مني كان أجدر ألا تختلفوا بعدي " فتشاوروا بينهم ثم جاءوه طالبين منه أن يرشح لهم واحدا، فسألهم: فلعلكم تختلفون؟ قالوا: لا. قال: فعليكم عهد الله على الرضا؟ قالوا: نعم. قال: فأمهلوني أنظر لله ولدينه ولعباده. ثم أرسل إلى عثمان بن عفان فاستشاره، فأشار عليه بعمر بن الخطاب، فأمره أن يكتب له عهداً. وقد أجمعت الأمة على بيعته والرضا به. وقد سمت روايات ضعيفة الصحابة الذين استشارهم وهم: عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وسعيد بن زيد، وأسيد بن حضير، وغيرهم من المهاجرين والأنصار، وقد أدت مشاوراته إلى نصيحة الأمة باستخلاف عمر بن الخطابt ، فأمر عثمان بن عفان t بكتابة عهد بذلك. والشيء المشتهر تاريخياً أن أبا بكر tعهد بالخلافة لعمر t ، وهو مجرد ترشيح يهدف إلى نصيحة الأمة وترشيد أهل الحل والعقد ، ولا تنعقد به الخلافة ، وإنما تنعقد إذا وافقت الأمة على الترشيح ، وبايعت للمرشح، وهذا ما تم لعمر بن الخطاب حيث بايعه المسلمون في المدينة، وأُخذت له البيعة من أهل البلدان. (7)
خلافة عثمان بن عفان (رضي الله عنه)
تمت بيعة عثمان رضي الله عنه بعد اجتماع مجلس الشورى الذي عينه عمر(رضي الله عنه ) حين طُعن، وأعضاءه" الستة هم: عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، ويحضر عبد الله بن عمر اجتماعات المجلس لإبداء المشورة دون أن يكون له حق الترشيح للخلافة أو التصويت لصالح أحد المرشحين، وفي أول اجتماع للمجلس جرى الحوار التالي:قال عبد الرحمن: اجعلوا أمركم إلى ثلاثة منكم . فقال الزبير: قد جعلت أمري إلى علي. فقال طلحة: قد جعلت أمري إلى عثمان. وقال سعد: قد جعلت أمري إلى عبد الرحمن بن عوف. فقال عبد الرحمن: أيكما تبرأ من هذا الأمر فنجعله إليه. واللهُ عليه والإسلام لتنظرن أفضلهم في نفسه؟ . فسكت الشيخان- عثمان وعلي رضي الله عنهما - فقال عبد الرحمن: أ فتجعلونه إلي، والله علّ أن لا آلوا عن أفضلكم؟ . قالا: نعم. وقام عبد الرحمن بن عوف بمشاورة الصحابة من أعضاء مجلس الشورى وغيرهم ليلا ونهاراً، ثلاثة أيام ثم في صبيحة اليوم الرابع دعا من كان حاضراً بالمدينة من المهاجرين والأنصار، وأرسل إلى أمراء الأجناد- " وكانوا وافوا تلك الحجة مع عمر "- فلما اجتمعوا فقال عبد الرحمن بن عوف: " يا علي، إني قد نظرتُ في أمر الناس فلم أرهم يعدلون بعثمان، فلا تجعلن على نفسك سبيلا " . ثم بايع لعثمان قائلا: " أبايعك على سنة الله وسنة رسوله والخليفتين من بعده" ، فبايعه عبد الرحمن بن عوف، وبايعه المهاجرون والأنصار، وأمراء الأجناد، و المسلمون ، وتؤكد روايات صحيحة توجه الرأي العام في خلافة عمر إلى بيعة عثمان من بعده، ولما سأل عمر في الحج بعرفات حذيفة بن اليمان: من ترى قومك مؤمرين بعدي؟ قال حذيفة: رأيت الناس قد أسندوا أمرهم إلى عثمان بن عفان. وقال خارجة بن مضرب: حججتُ مع عمر فلم يكونوا يشكُون أن الخلافة من بعده لعثمان. وسمعت الحادي يحدو: إن الأمير بعده ابن عفان، وسمعت الحادي في إمارة عثمان يحدو: إن الأمير بعده علي. وقد قصد عمر من جعلها شورى بين الستة أن لا يتقلد العهدة في ذلك، وأن يمارس المسلمون الشورى في أعلى المستويات وهو اختيار المسئول الأول في الدولة قال الطبري: " ولم يكن في أهل الإسلام أحد له من المنزلة في الدين والهجرة والسابقة والعقل والعلم والمعرفة بالسياسة ما للستة الذين جعل عمر الأمر شورى بينهم .. "(8).
المبحث الخامس : خلافة على بن أبي طالب (رضي الله عنه)
تولى علي الخلافة إثر مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنهما في ظروف خطيرة حيث سيطر الناقمون على عثمان على المدينة، وأفلت الأمر من يد كبار الصحابة، ولم تعد ثمة سلطة عليا تحكم الدولة الإسلامية، وقد سعى الناقمون إلى تولية عبد الله بن عمر، وهددوه بالقتل إن لم يرض، ولكن لم يجدوا منه إلا صدودا. " فأدركوا أن أمر الخلافة بيد أهل المدينة من المهاجرين والأنصار من أهل بدر، وأن الناس تبع لهم في ذلك ". وقد بادر الناس إلى علي ليبايعوه، فاظهر رغبته عن الخلافة في تلك الظروف " والله إني لأستحي أن أبايع قوما قتلوا رجلا قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا أستحي ممن تستحي منه الملائكة ، وإني لأستحي من الله أن أبايع وعثمان قتيل على الأرض لم يُدفن بعد " فانصرفوا. فلما دُفن عثمان رضي الله عنه أتوه مرة أخرى وسألوه البيعة وقالوا: لابد للناس من خليفة، ولا نعلم أحداً أحق بها منك. فقال لهم علي: لا تريدوني. فإني لكم وزير خير مني لكم أمير. فقالوا: لا والله ما نعلم أحداً أحق بها منك. وهنا تفتق ذهن علي رضي الله عنه عن وسيلة تجعله يتلقى البيعة علنا من المسلمين عامة دون أن يبايعه الناقمون بيعة خاصة، فقال لنفسه- كما صرّح فيما بعد : اللهم إني مشفق مما أقدم عليه. وقال لهم: " فإذا أبيتم على، فإن بيعتي لا تكون سراً، ولكن أخرج إلى المسجد فمن شاء أن يبايعني بايعني " فخرج إلى المسجد وبايعه الناس عن رضاً واختيار، سوى طلحة والزبير فإنهما بايعاه مكرهين ولم يكونا راضيين عن الطريقة التي تمت بها البيعة حيث لم يتم التداول بين أهل الحل والعقد بشأنها، ولم يعقد مجلس للشورى " ولأن الثوار أتوا بهما بأسلوب جاف عنيف، ولاشك أن هذه الطريقة فرضتها طبيعة الأحداث لسيطرة هؤلاء الأعراب الجلف على المدينة ". واعتزل بعض الصحابة فلم يبايعوا عليا ومنهم محمد بن مسلمة وأهبان بن صيفي وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر، فقد كانوا يرون الناس في فرقة واختلاف وفتنة، فكانوا ينتظرون أن يستقر الأمر فيبايعوا. كما أن معاوية بن أبي سفيان وأهل الشام وكثير من أهل البصرة ومصر واليمن لم يبايعوه بسبب، ويرى ابن حزم أن عدد من امتنع عن بيعته مثل عدد من بايعه وقدر عددهم بمائة ألف مسلم. ولكن معظم أهل الحل والعقد من أهل بدر والمهاجرين والأنصار بالمدينة بايعوا لعلي رضي الله عنه وبذلك انعقدت له البيعة وصار خليفة للمسلمين. وهو آخر خلفاء النبوة لحديث"خلافة النبوة ثلاثون سنة،ثم يؤتي الله ملكه من يشاء" (9).
أزمة الخلافة وانتقال مركز الخلافة إلى العراق
كانت خلافة عثمان رضي الله عنه نتيجة لاجتماعات مجلس شورى عمر (رضي الله عنه) ، حيث أجمع عليه المسلمون دون خلاف، وقد اتسمت سياسته بالتسامح والتوسع على الناس في العطاء والاستمرار في حركة الفتوح، فظهرت آثار
الغنى والازدهار الاقتصادي بتدفق الأموال على الدولة، حيث توسع الناس في معايشهم ومأكلهم وملبسهم ، وحظي المهاجرون والأنصار وأصحاب السابقة والجهاد بما لم يحظ به الروادف الذين التحقوا بالجهاد في مرحلة متأخرة ، وكثير منهم من القبائل التي استقرت في الأمصار الجديدة الكوفة و البصرة والفسطاط وأسهمت في الفتوح لاحقا. وقد ظهرت نواة المعارضة في الكوفة والبصرة ومصر في الوسط القبلي . وقام بالتحريض عبد الله بن سبأ وهو يهودي من صنعاء أسلم في خلافة عثمان وتبنى نشر دعاية واسعة تنتقد شرعية الخليفة وسياسته وتؤكد على أحقية علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالخلافة وأن من سبقه إليها اغتصبها منه، وتنسب إليه صفات إلهية 0وقد دار جدل طويل حول شخصية ابن سبا التاريخية، ولكن تنوع مصادر الأخبار من سنية وشيعية يجعل من الصعب القبول بنفي الوجود التاريخي له. إن المعارضة تلمست حججها من أعمال الخليفة عثمان، ولم تقتصر على الاحتجاج على سياسته المالية في السماح بمبادلة ملكية الأراضي بين العراق والحجاز مما أتاح لأغنياء الحجاز تملك مساحات واسعة في السواد، ولا على الاحتجاج على إدارة الدولة بالاعتماد على أقرباء عثمان الأكفاء وعزله بعض الولاة من الصحابة، بل امتدت إلى النواحي الايجابية الواضحة مثل جمع القرآن الكريم الذي وحد مصحف الأمة وحفظه حيث احتجت المعارضة على إحراق المصاحف الأخرى. وقد قدم المعارضون من الأمصار إلى المدينة فمكثوا فيها أربعين يوما، واستعتبوا عثمان رضي الله عنه فأعتبهم وأرضاهم، ثم رحلوا إلى أمصارهم، لكنهم لم يصلوها إذ عادوا إلى المدينة وحاصروا دار عثمان أربعين يوما لإجباره على تلبية مطالبهم، ثم تطور الأمر إلى المطالبة بخلعه فلما رفض قتلوه- وكان قد منع أنصاره من القتال دفاعا عنه- مما أثار أزمة كبرى في الضمير المسلم وأدى إلى انشقاق المجتمع على أسس مبدئية تدل على الاستعداد للانتصار للحق والتضحية من أجل القيم. وهكذا لم يحظ علي رضي الله عنه بالإجماع على خلافته حيث خرج عليه أصحاب الجمل عائشة، الزبير، طلحة رضي الله عنهم مطالبين بالاقتصاص من قتلة عثمان ورفض معاوية مبايعته لنفس السبب. ورأى الخليفة الجديد علي tأن إنفاذ القصاص يولد فتنة كبيرة في أوساط القبائل التي تؤيده، ويجب على معارضيه مبايعته تحقيقاً لوحدة الأمة وطاعة للخليفة الشرعي . وحول هذين المبدأين ، إنفاذ الحكم الشرعي، وطاعة الحاكم الشرعي انقسم عشرات الألوف من المقاتلة في البصرة والكوفة والشام حيث ترابط القوات الإسلامية والتي تكون أعظم جيوش العالم آنذاك. (10) وكان خروج علي رضي الله عنه من المدينة مع سبعمائة رجل إلى البصرة لقتال المعارضين أصحاب الجمل- الذين غادروا مكة قبله وهم في حدود ألف مقاتل ثم انضم إليهم معظم مقاتلة البصرة. بالاعتماد على مقاتلة الكوفة الذين تلاحموا مع قضيته وحافظوا على ولائهم بعد ذلك عقوداً كثيرة كانوا خلالها نواة المعارضة الصلبة للحكم الأموي وكانت ملحمة الجمل تجلي عقائدية المجتمع بشقيه الحكومة والمعارضة ومدى فاعلية القيم الإسلامية في توجيهه ... وتجلت من خلالها أحكام شرعية تتصل بقتال البغاة والفتن الداخلية وانقسمت القبائل على نفسها بين الطرفين (11). وانتهت المعركة لصالح على رضي الله عنه، وأمر بعدم مطاردة الفارين وعدم الإجهاز على الجرحى، وعدم استحلال أموال المعارضة وأعراضها، معلنا العفو العام. ولم تنته المواجهة العسكرية مع المعارضة، فقد كان معاوية والي الشام منذ خلافة عمر رصْي الله عنه يقود معارضة أقوى يدعمها جيش قوي بعدده وتدريبه الذي اكتسبه من مجابهة الجيوش البيزنطية.. وهكذا انتقل علي رضي الله عنه إلى الكوفة ليعد قواته أمام المعارضة الشامية وكانت المواجهة في صفين رهيبة كادت أن تفني رجالات القبائل وشجعانها لولا جنوح القوتين إلى التحكيم بعد رفع الشاميين للمصاحف الخمسمائة. وقد جر قبول الخليفة عليt للتحكيم إلى خروج بضعة ألوف من جيشه معلنين رفضهم للتحكيم لما فيه من شك بالشرعية (12) وخرجوا عليه وسموا بالخوارج ،وتقاتلوا معه وقاموا باستعراض الناس وقتل من ليس على رأيهم ، فاستحل عليt قتالهم في النهروان وكاد أن يبيدهم ، ولكن الجراح التي أصابت قبائلهم لم تندمل حيث واصلوا إمداد الحركة الخارجية المعارضة عدة قرون... أما التحكيم الذي انتهى إلى عزل علي ومعاوية والعودة إلى الشورى فلم يكتب له التنفيذ (13) ، ومضى الطرفان في حشد القوات وعمليات الاختراق للأطراف ، لكنهما لم يتواجها بكل ثقلهما بعد صفين.. وانتهت الملاحم عندما انقض خارجي بسيف مسموم على علي رضي الله عنه عند صلاة الفجر ؛ فقتل شهيداً في رمضان [40 هـ ] وبايع الكوفيون للحسن بن علي (رضي الله عنهما) الذي رأى أن يتنازل عن الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان t حقناً للدماء وحفاظاً على وحدة الأمة ، وتنازل الحسن بن علي (رضي الله عنهما) عن الخلافة لمعاوية t فكان عام [41 هـ ] هو عام الجماعة . (14) وبذلك طويت الفتنة ؛ لتنهي مرحلة الصراع وعودة الأمة إلى الجماعة وواصلت تقدمها في عهد الدولة الأموية ، بعد أن مرت بتجارب جديدة قاسية تركت آثاراً عميقة في المخيلة الجماعية لأجيالها المتلاحقة حتى الوقت الحاضر...
(أبوجمال)
الهوامش :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أكرم بن ضياء العمري ، عصر الخلافة الراشدة ، ص 11- 45
(2) المرجع السابق ، ص 47 - 48
(3) ابن سعد ، الطبقات الكبرى ، جـ 3، ص 212
(4) أكرم بن ضياء العمري ، عصر الخلافة الراشدة ، ص 48-50
(5) ابن سعد،الطبقات الكبرى ،جـ 2، ص 224 وجـ 3، ص 178
(6) أكرم بن ضياء العمري ، عصر الخلافة الراشدة ، ص 51- 58
(7) الذهبي ، تاريخ الاسلام جـ 3، ص8
(8) أكرم بن ضياء العمري ، عصر الخلافة الراشدة ، ص 54-57
(9) البلاذري ، أنساب الأشراف ، جـ 2 ، ص 35- 36 / جـ5 ، ص 63
(10) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ، جـ 4: 335.
(11) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ، جـ 4، ص 529- 545 / البلاذري ،أنساب الأشراف ، جـ 1 ، ص 264
(12) البلاذري ،أنساب الأشراف جـ 2 ص 322 / الطبري، تاريخ الأمم والملوك جـ 5، ص 76 .
(13) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ، جـ 5: ص 81 - 82 / البلاذري، أنساب الأشراف، جـ 1 ص 368
(14) البلاذري، أنساب الأشراف ،جـ 1 ، ص 341 - جـ 2 ، ص 362
المراجع :
(1) أكرم بن ضياء العمري ، عصر الخلافة الراشدة ، ط1،الناشر : مكتبة العبيكان ،الرياض،1414هـ
(2) البلاذري: أحمد بن يحيى بن جابر ، أنساب الأشراف ، ط1 ، القاهرة - 1932 م.
(3) الذهبي: محمد بن أحمد بن عثمان ، تاريخ الإسلام- عهد الخلفاء الراشدين ، تحقيق عبدالسلام تدمري ، نشر دار الكتاب الحديث ، بيروت- 1407 هـ.
(4) ابن سعد: محمد بن سعد ، الطبقات الكبرى، دار صادر، بيروت- 1974- 1977 م.
(5) الطبري: أبو جعفر محمد بن جرير ، تاريخ الأمم والملوك ، تحقيق أبو الفضل إبراهيم، القاهرة 1960- 1969 م.

تقييم:

0

0
مشاركة:


التعليق على الموضوع


لم يسجل بعد أي تعليق على هذه المشاركة !...

...........................................

=== إضافة تعليق جديد ===
الإسم:

نص التعليق:

انقل محتوى صويرة التحقق في الخانة أسفله:
الصورة غير ظاهرة