فضاءات الأوسط قمولا

الأوسط قمولا

فضاء الثقافة والمواضيع العامة

العضو الأكثر فعالية على مستوى الـبلدة
ناصر بكر
مسجــل منــــذ: 2012-06-14
مجموع النقط: 9.85
إعلانات


اعرف تاريخك فأنت ابن الإسلام العظيم(6)

الفتح الإسلامي لمصر
عمرو بن العاص (رضي الله عنه) ومصر
فلما كانت سنة ثماني عشرة وقدم عمر رضي الله عنه الجابية خلا به عمرو بن العاص فاستأذنه في المسير إلى مصر وكان عمرو قد دخل مصر في الجاهلية وعرف طرقها ورأى كثرة ما فيها ؛ وكان سبب دخول عمرو إياها أن عمرا قدم إلى بيت المقدس لتجارة في نفر من قريش فإذا هم بشماس من شمامسة الروم من أهل الإسكندرية قدم للصلاة في بيت المقدس فخرج في بعض جبالها يسبح وكان عمرو يرعى إبله وإبل أصحابه وكانت رعية الإبل نوباً بينهم فبينما عمرو يرعى إبله إذ مر به ذلك الشماس وقد أصابه عطش شديد في يوم الحر فوقف على عمرو فاستسقاه فسقاه عمرو من قربة له فشرب حتى روي ونام الشماس مكانه وكانت إلى جنب الشماس حيث نام حفرة فخرجت منها حية عظيمة فبصر بها عمرو فنزع لها بسهم فقتلها فلما استيقظ الشماس نظر إلى حية عظيمة قد أنجاه الله منها فقال لعمرو ما هذه فأخبره عمرو أنه رماها فقتلها فأقبل إلى عمرو فقبل رأسه وقال قد أحياني الله بك مرتين مرة من شدة العطش ومرة من هذه الحية فما أقدمك هذه البلاد قال قدمت مع أصحاب لي نطلب الفضل في تجارتنا فقال له الشماس وكم تراك ترجو أن تصيب في تجارتك قال رجائي أن أصيب ما اشتري به بعيراً فإني لا أملك إلا بعيرين فأملي أن أصيب بعيراً آخر فتكون لي ثلاثة أبعرة فقال له الشماس أرأيت دية أحدكم بينكم كم هي قال مائة من الإبل قال له الشماس لسنا أصحاب إبل إنما نحن أصحاب دنانير قال يكون ألف دينار فقال له الشماس إني رجل غريب في هذه البلاد وإنما قدمت أصلي في كنيسة بيت المقدس وأسبح في هذه الجبال شهرا جعلت ذلك نذرا على نفسي وقد قضيت ذلك وأنا أريد الرجوع إلى بلادي فهل لك أن تتبعني إلى بلادي ولك عهد الله وميثاقه أن أعطيك ديتين لأن الله عز وجل أحياني بك مرتين فقال له عمرو وأين بلادك قال مصر في مدينة يقال لها الإسكندرية فقال له عمرو لا أعرفها ولم أدخلها قط فقال له الشماس لو دخلتها لعلمت أنك لم تدخل قط مثلها فقال عمرو وتفي لي بما تقول وعليك بذلك العهد والميثاق فقال له الشماس نعم لك الله علي بالعهد والميثاق أن أفي لك وأن أردك إلى أصحابك فقال عمرو وكم يكون مكثي في ذلك قال شهرا تنطلق معي ذاهباً عشرة أيام وتقيم عندنا عشراً وترجع في عشر ولك علي أن أحفظك ذاهباً وأن أبعث معك من يحفظك راجعاً؛ فقال له عمرو أنظرني حتى أشاور أصحابي في ذلك فانطلق عمرو إلى أصحابه فأخبرهم بما عاهده عليه الشماس وقال لهم تقيموا علي حتى أرجع إليكم ولكم علي العهد أن أعطيكم شطر ذلك على أن يصحبني رجل منكم آنس به فقالوا نعم وبعثوا معه رجلا منهم فانطلق عمرو وصاحبه مع الشماس إلى مصر حتى انتهى إلى الإسكندرية فرأى عمرو من عمارتها وكثرة أهلها وما بها من الأموال والخير فأعجبه ذلك وقال ما رأيت مثل مصر قط وكثرة ما فيها من الأموال ونظر إلى الإسكندرية وعمارتها وجودة بنائها وكثرة أهلها وما بها من الأموال فازداد عجبا ووافق دخول عمرو الإسكندرية عيدا فيها عظيما يجتمع فيه ملوكهم وأشرافهم ولهم كرة من ذهب مكللة يترامى بها ملوكهم وهم يتلقونها بأكمامهم وفيما اختبروا من تلك الأكرة على ما وضعها من مضى منهم أنها من وقعت الأكرة في كمه واستقرت فيه لم يمت حتى يملكهم فلما قدم عمرو الإسكندرية أكرمه الشماس الإكرام كله وكساه ثوب ديباج ألبسه إياه وجلس عمرو والشماس مع الناس في ذلك المجلس حيث يترامون بالكرة وهم يتلقونها بأكامهم فرمى بها رجل منهم فأقبلت تهوي حتى وقعت في كم عمرو فعجبوا من ذلك وقالوا ما كذبتنا هذه الكرة قط إلا هذه المرة أترى هذا الأعرابي يملكنا هذا ما لا يكون أبدا وإن ذلك الشماس مشى في أهل الإسكندرية وأعلمهم أن عمراً أحياه مرتين وأنه قد ضمن له ألفي دينار وسألهم أن يجمعوا له ذلك فيما بينهم ففعلوا ذلك ودفعوها الى عمرو فانطلق عمرو وصاحبه وبعث معهما الشماس دليلاً ورسولاً وزودهما وأكرمهما حتى رجع وصاحبه إلى أصحابهما فبذلك عرف عمرو مدخل مصر ومخرجها ورأى منها ما علم أنها أفضل البلاد وأكثرها مالاً فلما رجع عمرو إلى أصحابه دفع إليهم فيما بينهم ألف دينار وأمسك لنفسه ألفا قال عمرو وكان أول مال اعتقدته وتأثلته
الفتح :
لما قدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه الجابية قام إليه عمرو فخلا به وقال يا أمير المؤمنين إيذن لي أن أسير إلى مصر وحرضه عليها وقال إنك إن فتحتها كانت قوة للمسلمين وعونا لهم وهي أكثر الأرض أموالا وأعجزها عن القتال والحرب فتخوف عمر بن الخطاب على المسلمين وكره ذلك فلم يزل عمرو يعظم أمرها عند عمر بن الخطاب ويخبره بحالها ويهون عليه فتحها حتى ركن عمر لذلك فعقد له على أربعة آلاف رجل كلهم من عك ويقال بل ثلاثة آلاف وخمس مائة ، فقال له عمر t سر وأنا مستخير الله في مسيرك وسيأتيك كتابي سريعاً إن شاء الله تعالى فإن أدركك كتابي آمرك فيه بالانصراف عن مصر قبل أن تدخلها أو شيئا من أرضها فانصرف وإن أنت دخلتها قبل أن يأتيك كتابي فامض لوجهك واستعن بالله واستنصره فسار عمرو بن العاص من جوف الليل ولم يشعر به أحد من الناس واستخار عمر الله فكأنه تخوف على المسلمين في وجههم ذلك فكتب إلى عمرو بن العاص يأمره أن ينصرف بمن معه من المسلمين فأدرك الكتاب عمرا وهو برفح فتخوف عمرو بن العاص إن هو أخذ الكتاب وفتحه أن يجد فيه الانصراف كما عهد إليه عمر فلم يأخذ الكتاب من الرسول ودافعه وسار كما هو حتى نزل قرية فيما بين رفح والعريش فسأل عنها فقيل إنها من أرض مصر فدعا بالكتاب فقرأه على المسلمين فقال عمرو لمن معه ألستم تعلمون أن هذه القرية من مصر قالوا بلى قال فإن أمير المؤمنين عهد إلي وأمرني إن لحقني كتابه ولم أدخل أرض مصر أن أرجع ولم يلحقني كتابه حتى دخلنا أرض مصر فسيروا وامضوا على بركة الله وعونه ويقال بل كان عمرو بفلسطين فتقدم بأصحابه إلى مصر بغير إذن فكتب فيه إلى عمر فكتب إليه عمر وهو دون العريش فحبس الكتاب فلم يقرأه حتى بلغ العريش فقرأه فإذا فيه من عمر بن الخطاب إلى العاص بن العاص أما بعد فإنك سرت إلى مصر ومن معك وبها جموع الروم وإنما معك نفر يسير ولعمري لو كان ثكل أمك ما سرت بهم فإن لم تكن بلغت مصر فارجع فقال عمرو الحمد لله أية أرض هذه قالوا من مصر فتقدم كما هو ويقال بل كان عمرو في جنده على قيسارية مع من كان بها من أجناد المسلمين وعمر بن الخطاب رضي الله عنه إذ ذاك بالجابية فكتب سرا فاستأذن إلى مصر وأمر أصحابه فتنحوا كالقوم الذين يريدون أن يتنحوا من منزل الى منزل قريب ثم سار بهم ليلا فلما فقده أمراء الأجناد استنكروا الذي فعل ورأوا أن قد غرر فرفعوا ذلك الى عمر بن الخطاب فكتب إليه عمر إلى العاص بن العاص أما بعد فإنك قد غررت بمن معك فإن أدركك كتابي ولم تدخل مصر فارجع وإن أدركك وقد دخلت مصر فامض واعلم أني ممدك ؛ ويقال أن عمر بن الخطاب كتب إلى عمرو بن العاص بعد ما فتح الشام أن اندب الناس إلى المسير معك إلى مصر فمن خف معك فسر به وبعث به مع شريك بن عبدة فندبهم عمرو فأسرعوا إلى الخروج مع عمرو ثم إن عثمان بن عفان رضي الله عنه دخل على عمر بن الخطاب فقال عمر كتبت إلى عمرو بن العاص يسير إلى مصر من الشام فقال عثمان يا أمير المؤمنين إن عمرا لمجروء وفيه إقدام وحب للإمارة فأخشى أن يخرج من غير ثقة ولا جماعة فيعرض المسلمين للهلكة رجاء فرصة لا يدرى تكون أم لا فندم عمر بن الخطاب على كتابه إلى عمرو إشفاقا مما قال عثمان فكتب إليه إن أدركك كتابي قبل أن تدخل مصر فارجع إلى موضعك وإن كنت دخلت فامض لوجهك
عمرو بن العاصt:
وكانت صفة عمرو بن العاص كما حدثنا سعيد بن عفير عن الليث بن سعد قصيرا عظيم الهامة ناتئ الجبهة واسع الفم عظيم اللحية عريض ما بين المنكبين عظيم الكفين والقدمين فلما بلغ المقوقس قدوم عمرو بن العاص إلى مصر توجه إلى الفسطاط فكان يجهز على عمرو الجيوش وكان على القصر رجل من الروم يقال له الأعيرج واليا عليه وكان تحت يدي المقوقس وأقبل عمرو حتى إذا كان بجبل الحلال نفرت معه راشدة وقبائل من لخم فتوجه عمرو حتى إذا كان بالعريش أدركه النحر ؛ فضحى عمرو عن أصحابه يومئذ بكبش وكان رجل ممن كان خرج مع عمرو بن العاص حين خرج من الشأم إلى مصر كما حدثنا هانى ء بن التوكل عن أبي شريح عن عبد الكريم بن الحارث أصيب بجمل له فأتى إلى عمرو يستحمله فقال عمرو تحمل مع أصحابك حتى تبلغ أوائل العامر فلما بلغوا العريش جاءه فأمر له بجملين ثم قال له لن تزالوا بخير ما رحمتكم ائمتكم فإذا لم يرحموكم هلكتم وهلكوا قال ثم رجع إلى حديث عثمان بن صالح قال فقدم عمرو بن العاص فكان أول موضع قوتل فيه الفرما قاتلته الروم قتالا شديدا نحوا من شهر ثم فتح الله على يديه وكان عبد الله بن سعد كما حدثنا سعيد بن عفير على ميمنة عمرو بن العاص منذ توجه من قيسارية إلى أن فرغ من حربه وقال غير ابن عفير من مشايخ أهل مصر وكان بالإسكندرية أسقف للقبط يقال له أبو ميامين فلما بلغه قدوم عمرو بن العاص إلى مصر كتب إلى القبط يعلمهم أنه لا تكون للروم دولة وأن ملكهم قد انقطع ويأمرهم بتلقي عمرو فيقال أن القبط الذين كانوا بالفرما كانوا يومئذ لعمرو أعوانا ثم توجه عمرو لا يدافع إلا بالأمر الخفيف حتى نزل القواصر فتقدم عمرو لا يدافع إلا بالأمر الخفيف حتى أتى بلبيس فقاتلوه بها نحوا من شهر حتى فتح الله عليه ثم مضى لا يدافع إلا بالأمر الخفيف حتى أتى أم دنين فقاتلوه بها قتالا شديدا وأبطأ عليه الفتح فكتب إلى عمر يستمده فأمده بأربعة آلاف تمام ثمانية آلاف فقاتلهم فجاء رجل الى عمرو بن العاص فقال اندب معي خيلا حتى آتي من ورائهم عند القتال فأخرج معه خمس مائة فارس فساروا من وراء الجبل حتى دخلوا مغار بني وائل قبل الصبح وكانت الروم قد خندقوا خندقا وجعلوا له أبوابا وبثوا في أفنيتها حسك الحديد فالتقى القوم حين أصبحوا وخرج اللخمي بمن معه من ورائهم فانهزموا حتى دخلوا الحصن وقيل بعث خمس مائة عليهم خارجة بن حذافة قال فلما كان في وجه الصبح نهض القوم فصلوا الصبح ثم ركبوا خيلهم وغدا عمرو بن العاص على القتال فقاتلهم من وجههم وحملت الخيل التي كان وجه من ورائهم واقتحمت عليهم فانهزموا وكانوا قد خندقوا حول الحصن وجعلوا للخندق أبوابا فسار عمرو بمن معه حتى نزل على الحصن فحاصرهم حتى سألوه أن يسير منهم بضعة عشر أهل بيت ويفتحوا له الحصن ففعل ذلك ففرض عليهم عمرو لكل رجل من أصحابه دينارا وجبة وبرنسا وعمامة وخفين وسألوه أن يأذن لهم أن يهيؤا له ولأصحابه صنيعا ففعل فحدثني أبي عبد الله بن عبد الحكم أن عمرو بن العاص أمر أصحابه فتهيؤا ولبسوا البرود ثم اقبلوا قال ابن وهب في حديثه فلما فرغوا من طعامهم سألهم عمرو كم أنفقتم قالوا عشرين ألف دينار قال عمرو لا حاجة لنا بصنيعكم بعد اليوم أدوا إلينا عشرين ألف دينار فجاءه النفر من القبط فاستأذنوه إلى قراهم وأهلهم فقال لهم عمرو كيف رأيتم أمرنا قالوا لم نر إلا حسنا فقال الرجل الذي قال في المرة الأولى ما قال لهم إنكم لن تزالوا تظهروا على من لقيتم حتى تقتلوا خيركم رجلا فغضب عمرو وأمر به فطلب إليه أصحابه وأخبروه أنه لا يدري ما يقول حتى خلصوه فلما بلغ عمرا قتل عمر بن الخطاب أرسل في طلب ذلك القبطي فوجده قد هلك فعجب عمرو من قوله قال غير ابن وهب قال عمرو بن العاص فلما طعن عمر بن لخطاب قلت هو ما قال القبطي فلما حدثت أنه إنما قتله أبو لؤلؤة رجل نصراني قلت لم يعن هذا إنما عني من قتله المسلمون فلما قتل عثمان عرفت أن ما قال الرجل حق ؛ قال أبي في حديثه فلما فرغوا من صنيعهم أمر عمرو بن العاص بطعام فصنع لهم وأمرهم أن يحضروا لذلك فصنع لهم الثريد والمرق وأمر أصحابه بلباس الأكسية واشتمال الصماء والقعود على الركب فلما حضرت الروم وضعوا كراسي الديباج فجلسوا عليها وجلست العرب إلى جوانبهم فجعل الرجل من العرب يلتقم اللقمة العظيمة من الثريد وينهش من ذلك اللحم فيتطاير على من إلى جنبه من الروم فبشعت الروم بذلك وقالوا أين أولئك الذين كانوا أتونا قبل فقيل لهم أولئك أصحاب المشورة وهؤلاء أصحاب الحرب وقيل أن عمرو بن العاص حصرهم بالقصر الذي يقال له باب اليون حينا وقاتلهم قتالا شديدا يصبحهم ويمسيهم فلما أبطأ عليه الفتح كتب إلى عمر بن الخطاب يستمده ويعلمه بذلك فأمده بأربعة آلاف رجل على كل ألف رجل منهم رجل وكتب إليه عمر بن الخطاب إني قد أمددتك بأربعة آلاف رجل على كل ألف رجل منهم رجل مقام الألف الزبير بن العوام والمقداد بن عمرو وعبادة بن الصامت ومسلمة بن مخلد وقال آخرون بل خارجة بن حذافة الرابع لا يعدون مسلمة وقال عمر بن الخطاب اعلم أن معك اثنا عشر ألفا ولا تغلب اثني عشر ألفا من قلة ومما يروى عن كسرى أنه كان له رجال إذا بعث أحدهم في جيش وضع من عدة الجيش الذي كان معه ألفا مكانه لإجزاء ذلك الرجل في الحرب وإذا احتاج إلى أحدهم وكان في جيش فحبسه لحاجته إليه زادهم ألف رجل قال الليث فأنزلت الذي صنع عمر بن الخطاب في بعثته بالزبير بن العوام والمقداد ومن بعث معهما نحو ما كان يصنع كسرى وكان عمر بن الخطاب قد أشفق على عمرو فأرسل الزبير في أثره في اثني عشر ألفا فشهد معه الفتح فكانوا قد خندقوا حول حصنهم وجعلوا للخندق أبوابا وجعلوا سكك الحديد موتدة بأفنية الأبواب وكان عمرو قد قدم من الشام في عدة قليلة فكان يفرق أصحابه ليرى العدو أنهم أكثر مما هم فلما انتهى إلى الخندق نادوه أن قد رأينا ما صنعت وإنما معك من أصحابك كذا وكذا فلم يخطئوا برجل واحد فأقام عمرو على ذلك أياما يغدوا في السحر فيصف أصحابه على أفواه الخندق عليهم السلاح فبينما هو على ذلك إذ جاءه خبر الزبير بن العوام قدم في اثني عشر ألفا فتلقاه عمرو ثم اقبلا يسيران ثم لم يلبث الزبير أن ركب ثم طاف بالخندق ثم فرق الرجال حول الخندق ثم رجع إلى حديث عثمان بن صالح عن ابن لهيعة قال فلما قدم المدد على عمرو بن العاص ألح على القصر ووضع عليه المنجنيق .
لما حصر المسلمون الحصن كان عبادة بن الصامت في ناحية يصلي وفرسه عنده فرآه قوم من الروم فخرجوا إليه وعليهم حلية وبزة فلما دنوا منه سلم من صلاته ووثب على فرسه ثم حمل عليهم فلما رأوه غير مكذب عنهم ولوا راجعين واتبعهم فجعلوا يلقون مناطقهم ومتاعهم ليشغلوه بذلك عن طلبهم ولا يلتفت إليه حتى دخلوا الحصن ورمي عبادة من فوق الحصن بالحجارة فرجع ولم يتعرض لشيء مما كانوا طرحوا من متاعهم حتى رجع إلى موضعه الذي كان به فاستقبل الصلاة وخرج الروم إلى متاعهم يجمعونه ، فلما أبطأ الفتح على عمرو بن العاص قال الزبير بن العوام t إني أهب نفسي لله أرجو أن يفتح الله بذلك على المسلمين فوضع سلماً إلى جانب الحصن من ناحية سوق الحمام ثم صعد وأمرهم إذا سمعوا تكبيره أن يجيبوه جميعا ، فما شعروا إلا والزبير على رأس الحصن يكبر ومعه السيف وتحامل الناس على السلم حتى نهاهم عمرو خوفا من أن ينكسر ؛ فلما اقتحم الزبير وتبعه من تبعه وكبر وكبر من معه وأجابهم المسلمون من خارج فلم يشك أهل الحصن أن العرب قد اقتحموا جميعاً فهربوا فعمد الزبير وأصحابه إلى باب الحصن ففتحوه واقتحم المسلمون الحصن فلما خاف المقوقس على نفسه ومن معه فحينئذ سأل عمرو بن العاص الصلح ودعاه إليه على أن يفرض للعرب على القبط على كل رجل منهم دينارين فأجابه عمرو إلى ذلك .
وصعد مع الزبير الحصن محمد بن مسلمة ، ومالك بن أبي سلسلة السلامي ورجال من بني حرام وأن شراحيل بن حجية المرادي نصب سلماً آخر من ناحية زقاق الزمامرة اليوم فصعد عليه ،وكان مكثهم على باب القصر حتى فتحوه سبعة أشهر ؛ وأن المسلمين لما حاصروا باب اليون وكان به جماعة من الروم وأكابر القبط ورؤسائهم وعليهم المقوقس فقاتلوهم بها شهراً فلما رأى القوم الجد منهم على فتحه والحرص ورأوا من صبرهم على القتال ورغبتهم فيه خافوا أن يظهروا عليهم فتنحى المقوقس وجماعة من أكابر القبط وخرجوا من باب القصر القبلي ودونهم جماعة يقاتلون العرب فلحقوا بالجزيرة موضع الصناعة اليوم وأمروا بقطع الجسر وذلك في جري النيل (وقت الفيضان) ، وزعم بعض مشايخ أهل مصر أن الأعيرج ( القائد الرومي مانديقور) كان تخلف في الحصن بعد المقوقس فلما خاف فتح الحصن ركب هو وأهل القوة والشرف وكانت سفنهم ملصقة بالحصن ثم لحقوا بالمقوقس بالجزيرة ؛ فأرسل المقوقس إلى عمرو بن العاص إنكم قوم قد ولجتم في بلادنا وألححتم على قتالنا وطال مقامكم في أرضنا وإنما أنتم عصبة يسيرة وقد أظلتكم الروم وجهزوا إليكم ومعهم من العدة والسلاح وقد أحاط بكم هذا النيل وإنما أنتم أسارى في أيدينا فابعثوا إلينا رجالا منكم نسمع من كلامهم فلعله أن يأتي الأمر فيما بيننا وبينكم على ما تحبون ونحب وينقطع عنا وعنكم هذا القتال قبل أن يغشاكم جموع الروم فلا ينفعنا الكلام ولا نقدر عليه ولعلكم أن تندموا إن كان الأمر مخالفاً لطلبتكم ورجائكم فابعثوا إلينا رجالاً من أصحابكم نعاملهم على ما نرضى نحن وهم به من شيء فلما أتت عمرو بن العاص رسل المقوقس حبسهم عنده يومين وليلتين حتى خاف عليهم المقوقس فقال لأصحابه أترون أنهم يقتلون الرسل ويحبسونهم ويستحلون ذلك في دينهم؟ وإنما أراد عمرو بذلك أن يروا حال المسلمين فرد عليهم عمرو مع رسله : إنه ليس بيني وبينكم إلا إحدى ثلاث خصال إما أن دخلتم في الإسلام فكنتم إخواننا وكان لكم ما لنا ، وإن أبيتم فأعطيتم الجزية عن يد وأنتم صاغرون ، وإما أن جاهدناكم بالصبر والقتال حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين . فلما جاءت رسل المقوقس إليه قال : كيف رأيتموهم قالوا : رأينا قوماً الموت أحب إلى أحدهم من الحياة ، والتواضع أحب إليهم من الرفعة ، ليس لأحدهم في الدنيا رغبة ولا نهمة ؛ وإنما جلوسهم على التراب ، وأكلهم على ركبهم ، وأميرهم كواحد منهم ، ما يعرف رفيعهم من وضيعهم ، ولا السيد فيهم من العبد ، وإذا حضرت الصلاة لم يتخلف عنها أحد منهم ، يغسلون أطرافهم بالماء ، ويتخشعون في صلاتهم .
فقال عند ذلك المقوقس :والذي يُحْلًف به لو أن هؤلاء استقبلوا الجبال لأزالوها ، ولا يقوى على قتال هؤلاء أحد ، ولئن لم نغتنم صلحهم اليوم وهم محصورون بهذا النيل لم يجيبونا بعد اليوم إذا أمكنتهم الأرض وقووا على الخروج من موضعهم . فرد إليهم المقوقس رسله وقال: ابعثوا إلينا رسلاً منكم نعاملهم ونتداعى نحن وهم إلى ما عسى أن يكون فيه صلاح لنا ولكم. فبعث عمرو بن العاص t عشرة نفر أحدهم عبادة بن الصامت وفيما يروى :أنه أدرك الإسلام من العرب عشرة نفر طول كل رجل منهم عشرة أشبار عبادة بن الصامت tأحدهم ، وأمره عمرو أن يكون متكلم القوم وأن لا يجيبهم إلى شيء دعوه إليه إلا إحدى هذه الثلاث خصال فإن أمير المؤمنين (عمر بن الخطابt ) قد تقدم إليَّ في ذلك وأمرني أن لا أقبل شيئاً سوى خصلة من هذه الثلاث خصال . وكان عبادة بن الصامت أسود فلما ركبوا السفن إلى المقوقس ودخلوا عليه تقدم عبادة بن الصامت فهابه المقوقس لسواده فقال نحوا عني هذا الأسود وقدموا غيره يكلمني فقالوا جميعا إن هذا الأسود أفضلنا رأياً وعلماً وهو سيدنا وخيرنا والمقدم علينا وإنما نرجع جميعاً إلى قوله ورأيه ، وقد أمره الأمير دوننا بما أمره به وأمرنا أن لا نخالف رأيه وقوله ، قال المقوقس : وكيف رضيتم أن يكون هذا الأسود أفضلكم وإنما ينبغي أن يكون هو دونكم. قالوا: كلا إنه وإن كان أسود كما ترى فإنه من أفضلنا موضعاً وأفضلنا سابقة وعقلاً ورأياً ، وليس يُنْكر السوادُ فينا ؛ فقال المقوقس لعبادة t:
تقدم يا أسود وكلمني برفق فإني أهاب سوادك وإن اشتد كلامك علي ازددت لذلك هيبة . فتقدم إليه عبادة فقال : قد سمعت مقالتك وإن فيمن قد خلفت من أصحابي ألف رجل أسود كلهم أشد سواداً مني وأفظع منظراً ولو رأيتهم لكنت أهيب لهم منك لي ، وأنا قد وليت وأدبر شبابي وإني مع ذلك بحمد الله ما أهاب مائة رجل من عدوي لو استقبلوني جميعاً وكذلك أصحابي وذلك إنما رغبتنا وهمتنا الجهاد في الله واتباع رضوانه وليس غزونا عدونا ممن حارب الله لرغبة في الدنيا ولا طلب للإستكثار منها ؛ إلا أن الله عز وجل قد أحل ذلك لنا وجعل ما غنمنا من ذلك حلالا ، وما يبالي أحدنا أكان له قنطاراً من ذهب أم كان لا يملك إلا درهماً لأن غاية أحدنا من الدنيا أكلة يأكلها يسد بها جوعته لليله ونهاره ، وشملة يلتحفها فإن كان أحدنا لا يملك إلا ذلك كفاه ، وإن كان له قنطار من ذهب أنفقه في طاعة الله واقتصر على هذا الذي بيده ويبلغه ما كان في الدنيا ؛ لأن نعيم الدنيا ليس بنعيم ؛ ورخاءها ليس برخاء ؛ إنما النعيم والرخاء في الآخرة وبذلك أمرنا ربنا وأمرنا به نبينا {r} ، وعهد إلينا أن لا تكون همة أحدنا من الدنيا إلا فيما يمسك جوعته ويستر عورته ، وتكون همته وشغله في رضاء ربه وجهاد عدوه . فلما سمع المقوقس ذلك منه قال لمن حوله : هل سمعتم مثل كلام هذاالرجل قط لقد هبت منظره وإن قوله لأهيب عندي من منظره ، إن هذا وأصحابه أخرجهم الله لخراب الأرض وما أظن ملكهم إلا سيغلب على الأرض كلها ثم أقبل المقوقس على عبادة بن الصامت فقال له: أيها الرجل الصالح قد سمعت مقالتك وما ذكرت عنك وعن أصحابك ولعمري ما بلغتم ما بلغتم إلا بما ذكرت وما ظهرتم على من ظهرتم عليه إلا لحبهم الدنيا ورغبتهم فيها ، وقد توجه إلينا لقتالكم من جمع الروم ما لا يحصى عدده ، قوم معروفون بالنجدة والشدة ممن لا يبالي أحدهم من لقي ولا من قاتل وإنا لنعلم أنكم لن تقووا عليهم ولن تطيقوهم لضعفكم وقلتكم وقد أقمتم بين أظهرنا شهرا وأنتم في ضيق وشدة من معاشكم وحالكم ، ونحن نرق عليكم لضعفكم وقتلكم وقلة ما بأيديكم ، ونحن تطيب أنفسنا أن نصالحكم على أن نفرض لكل رجل منكم دينارين دينارين ولأميركم مائة دينار ولخليفتكم ألف دينار فتقبضونها وتنصرفون إلى بلادكم قبل أن يغشاكم ما لا قوة لكم به . فقال عبادة بن الصامتt:يا هذا لاتغُرَّنَ نفسك ولا أصحابك أما ما تخوفنا به من جمع الروم وعددهم وكثرتهم وأنا لا نقوى عليهم فلعمري ما هذا بالذي تخوفنا به ولا بالذي يكسرنا عما نحن فيه إن كان ما قلتم حقاً فذلك والله أرغب ما نكون في قتالهم وأشد لحرصنا عليهم لأن ذلك أعذر لنا عند ربنا إذا قدمنا عليه أن قُتلنا عن آخرنا كان أمكن لنا في رضوانه وجنته وما من شيء أقر لأعيننا ولا أحب إلينا من ذلك وإنا منكم حينئذ لعلى إحدى الحسنيين :أما أن تعظم لنا بذلك غنيمة الدنيا إن ظفرنا بكم ، أوغنيمة الآخرة إن ظفرتم بنا ، وإنها لأحب الخصلتين إلينا بعد الاجتهاد منا وإن الله عز وجل قال لنا في كتابه : "كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين". وما منا رجل إلا وهو يدعو ربه صباحاً ومساءً أن يرزقه الشهادة ، وأن لا يرده إلى بلده ، ولا إلى أرضه ، ولا إلى أهله وولده ، وليس لأحد منا هم فيما خلفه ؛ وقد استودع كل واحد منا ربه أهله وولده ، وإنما همنا ما أمامنا ، وأما قولك: أنا في ضيق وشدة من معاشنا وحالنا فنحن في أوسع السعة لو كانت الدنيا كلها لنا ما أردنا منها لأنفسنا أكثر مما نحن عليه ؛ فانظر الذي تريد فبينه لنا فليس بيننا وبينكم خصلة نقبلها منك ولا نجيبك إليها إلا خصلة من ثلاث خصال فاختر أيتها شئت ولا تطمع نفسك في الباطل . بذلك أمرني الأمير وبها أمره أمير المؤمنين وهو عهد رسول الله{r} من قبل إلينا : أما أجبتم إلى الإسلام الذي هو الدين الذي لا يقبل الله غيره وهو دين أنبيائه ورسله وملائكته ، أمرنا الله تعالى أن نقاتل من خالفه ورغب عنه حتى يدخل فيه ؛ فإن فعل كان له ما لنا وعليه ما علينا وكان أخانا في دين الله فإن قبلت ذلك أنت وأصحابك فقد سعدتم في الدنيا والآخرة ، ورجعنا عن قتالكم ، ولا نستحل أذاكم ، ولا التعرض لكم ، وإن أبيتم إلا الجزية فأدوا إلينا الجزية عن يد وأنتم صاغرون ، نعاملكم علي شيء نرضى به نحن وأنتم في كل عام أبداً ما بقينا وبقيتم ونقاتل عنكم من ناوأكم وعرض لكم في شيء من أرضكم ودمائكم وأموالكم ونقوم بذلك عنكم إذا كنتم في ذمتنا وكان لكم به عهد علينا ، وإن أبيتم فليس بيننا وبينكم إلا المحاكمة بالسيف حتى نموت عن آخرنا أو نصيب ما نريد منكم . هذا ديننا الذي ندين الله تعالى به ، ولايجوز لنا فيما بيننا وبينه غيره ، فانظروا لأنفسكم .
فقال له المقوقس : هذا ما لا يكون أبداً ، ما تريدون إلا أن تتخذونا نكون لكم عبيداً ما كانت الدنيا ؛ فقال له عبادة بن الصامت :tهو ذاك فاختر ما شئت . فقال له المقوقس : أفلا تجيبونا إلى خصلة غير هذه الثلاث خصال ؛ فرفع عبادة يديه وقال : لا ورب هذه السماء ورب هذه الأرض ورب كل شيء ، ما لكم عندنا خصلة غيرها ؛ فاختاروا لأنفسكم . فالتفت المقوقس عند ذلك إلى أصحابه فقال : قد فرغ القول . فما ترون؟ . فقالوا : أو يرضى أحد بهذا الذل أما ما أرادوا من دخولنا في دينهم فهذا ما لا يكون أبداً ولا نترك دين المسيح بن مريم وندخل في دين غيره لا نعرفه ، وأما ما أرادوا من أن يسبونا ويجعلونا عبيداً أبداً فالموت أيسر من ذلك ، لو رضوا منا أن نضعف لهم ما أعطيناهم مراراً كان أهون علينا. فقال المقوقس لعبادة :
قد أبى القوم - كما ترى - فراجع صاحبك على أن نعطيكم في مرتكم هذه ما تمنيتم وتنصرفون فقام عبادة وأصحابه ؛ فقال المقوقس عند ذلك لمن حوله : أطيعوني وأجيبوا القوم إلى خصلة من هذه الثلاث ، فوالله ما لكم بهم طاقة ؛ ولئن لم تجيبوا إليها طائعين لتجيبنهم إلى ما هو أعظم منها كارهين . فقالوا : وأي خصلة نجيبهم إليها ؟ قال :إذاً أخبركم ؛ أما دخولكم في غير دينكم فلا آمركم به ،وأما قتالهم فأنا أعلم أنكم لن تقووا عليهم ولن تصبروا صبرهم ،ولا بد من الثالثه . قالوا : فنكون لهم عبيداً أبداً؟ قال : نعم تكونون عبيداً مسلطين في بلادكم ، آمنين على أنفسكم وأموالكم وذراريكم خير لكم من أن تموتوا عن آخركم ، وتكونوا عبيداً تباعوا وتمزقوا في البلاد مستعبدين أبداً أنتم وأهلكم وذراريكم . قالوا : فالموت أهون علينا ، وأمروا بقطع الجسر من الفسطاط والجزيرة ، وبالقصر من جمع القبط والروم جمع كثير فألح المسلمون عند ذلك بالقتال على من في القصر حتى ظفروا بهم وأمكن الله منهم فقتل منهم خلق كثير وأسر من أسر وانحازت السفن كلها إلى الجزيرة وصار المسلمون قد أحدق بهم الماء من كل جهة لا يقدرون على أن يتقدموا نحو الصعيد ولا إلى غير ذلك من المدائن والقرى . والمقوقس يقول لأصحابه: ألم أعلمكم هذا وأخافه عليكم ؟ ما تنتظرون ؟ فوالله لتجيبنهم إلى ما أرادوا طوعاً أو لتجيبنهم إلى ما هو أعظم منه كرهاً ؛ فأطيعوني من قبل أن تندموا . فلما رأوا منهم ما رأوا وقال لهم المقوقس ما قال ؛ أذعنوا بالجزية ، رضوا بذلك على صلح يكون بينهم يعرفونه . وأرسل المقوقس إلى عمرو بن العاص : إني لم أزل حريصاً على إجابتك إلى خصلة من تلك الخصال التي أرسلت إليَّ بها ، فأبى ذلك عليَّ من حضرني من الروم والقبط ؛ فلم يكن لي أن أفتات عليهم في أموالهم ، وقد عرفوا نصحي لهم وحبي صلاحهم ورجعوا إلى قولي فأعطني أماناً نجتمع أنا في نفر من أصحابي وأنت في نفر من أصحابك فإن استقام الأمر بيننا تم لنا ذلك جميعاً ، وإن لم يتم رجعنا إلى ما كنا عليه .
فاستشار عمرو أصحابه (رضي الله عنهم) في ذلك فقالوا : لا نجيبهم إلى شيء من الصلح ولا الجزية حتى يفتح الله علينا ، وتصير الأرض كلها لنا فيئاً وغنيمة كما صار لنا القصر وما فيه. فقال عمرو t : قد علمتم ما عهد إليَّ أمير المؤمنين في عهده ؛ فإن أجابوا إلى خصلة من الخصال الثلاث التي عهد إلي فيها أجبتهم إليها وقبلت منهم مع ما قد حال هذا الماء بيننا وبين ما نريد من قتالهم .
معاهدة الصلح :
فاجتمعوا على عهد بينهم واصطلحوا على: أن يفرض على جميع من بمصر أعلاها وأسفلها من القبط دينارين دينارين عن كل نفس شريفهم ووضيعهم ومن بلغ الحلم منهم ليس على الشيخ الفاني ولا على الصغير الذي لم يبلغ الحلم ولا على النساء شيء ، وعلى أن للمسلمين عليهم النُزُل لجماعتهم حيث نزلوا ومن نزل عليه ضيف واحد من المسلمين أو أكثر من ذلك كانت لهم ضيافة ثلاثة أيام مفترض عليهم ، وأن لهم أرضهم وأموالهم لا يتعرض لهم في شيء منها ،وأحصوا عدد القبط يومئذ خاصة من بلغ منهم الجزية وفرض عليهم الدينارين رفع ذلك عرفاؤهم بالأيمان المؤكدة فكان جميع من أُحصي يومئذ بمصر أعلاها وأسفلها من جميع القبط فيما أحصوا وكتبوا ورفعوا أكثر من ستة آلاف ألف نفس [ 6مليون نسمة ] وكانت فريضتهم يومئذ اثني عشر ألف ألف دينار في كل سنة[ 12مليون دينار ] . فشرط هذا كله على القبط (المصريين) خاصة . وفي رواية أخرى : فتح عمرو بن العاص t مصر وصالح عن جميع من فيها من الرجال من القبط ممن راهق الحلم إلى ما فوق ذلك ليس فيهم امرأة ولا شيخ ولا صبي فأحصوا بذلك على دينارين دينارين فبلغت عدتهم ثمانية آلاف ألف[ 8 مليون نسمة ]
وشرط المقوقس للروم : أن يخيروا فمن أحب منهم أن يقيم على مثل هذا أقام على ذلك لازماً له مفترضاً عليه ممن أقام بالإسكندرية وما حولها من أرض مصر كلها ، ومن أراد الخروج منها إلى أرض الروم خرج ، وعلى أن للمقوقس الخيار في الروم خاصة حتى يكتب إلى ملك الروم يعلمه ما فعل ؛ فإن قبل ذلك ورضيه جاز عليهم ، وإلا كانوا جميعاً على ما كانوا عليه. وكتبوا به كتاباً .
وكتب المقوقس إلى ملك الروم كتاباً يعلمه على وجه الأمر كله . فكتب إليه ملك الروم يقبح رأيه ويعجزه ويرد عليه ما فعل ويقول في كتابه: إنما أتاك من العرب اثنا عشر ألفاً وبمصر من بها من كثرة عدد القبط ما لا يحصى؛ فإن كان القبط كرهوا القتال وأحبوا أداء الجزية إلى العرب واختاروهم علينا فإن عندك من بمصر من الروم وبالإسكندرية ومن معك أكثر من مائة ألف معهم السلاح والعدة والقوة ، والعرب وحالهم وضعفهم على ما قد رأيت فعجزت عن قتالهم ورضيت أن تكون أنت ومن معك من الروم في حال القبط أذلاء ، إلا تقاتلهم أنت ومن معك من الروم حتى تموت أو تظهر عليهم ، فإنهم فيكم على قدر كثرتكم وقوتكم وعلى قدر قلتهم وضعفهم كأكلة ، فناهضهم القتال ، ولا يكون لك رأي غير ذلك .
وكتب ملك الروم بمثل ذلك كتابا إلى جماعة الروم ؛ فقال المقوقس لما أتاه كتاب ملك الروم : والله إنهم على قلتهم وضعفهم أقوى وأشد منا على كثرتنا وقوتنا وإن الرجل الواحد منهم ليعدل مائة رجل منا وذلك أنهم قوم الموت أحب إلى أحدهم من الحياة ، يقاتل الرجل منهم وهو مستقتل يتمنى أن لا يرجع إلى أهله ولا بلده ولا ولده ، ويرون أن لهم أجراً عظيماً فيمن قتلوه منا ويقولون إنهم إن قُتِلوا دخلوا الجنة وليس لهم رغبة في الدنيا ، ولا لذة إلا على قدر بلغة العيش من الطعام واللباس ، ونحن قوم نكره الموت ونحب الحياة ولذتها ؛ فكيف نستقيم نحن وهؤلاء ؟ وكيف صبرنا معهم ؟ . واعلموا معشر الروم : والله إني لا أخرج مما دخلت فيه ولا مما صالحت العرب عليه وإني لأعلم أنكم سترجعون غداً إلى رأيي وقولي وتتمنون أن لو كنتم أطعتموني وذلك أني قد عاينت ورأيت وعرفت ما لم يعاين الملك ولم يره ولم يعرفه ويحكم ، أما يرضى أحدكم أن يكون آمنا في دهره على نفسه وماله وولده بدينارين في السنة ؟ . ثم أقبل المقوقس إلى عمرو بن العاصt فقال له: إن الملك قد كره ما فعلت وعجزني وكتب إلي وإلى جماعة الروم أن لا نرضى بمصالحتكم وأمرهم بقتالكم حتى يظفروا بك أو تظفر بهم ، ولم أكن لأخرج مما دخلت فيه وعاقدتك عليه وإنما سلطاني على نفسي ومن أطاعني ، وقد تم صلح القبط فيما بينك وبينهم ولم يأت من قبلهم نقض ، وأنا متم لك على نفسي ، والقبط متمون لك على الصلح الذي صالحتهم عليه وعاقدتهم ، وأما الروم فإني منهم بريء ، وأنا أطلب إليك أن تعطيني ثلاث خصال ؛ فقال له عمروt : ما هن ؟ . قال : لا تنقض بالقبط وادخلني معهم والزمني ماألزمتهم ، وقد اجتمعت كلمتي وكلمتهم على ما عاهدتك عليه ، فهم متمون لك على ما تحب. وأما الثانية: فإن سألك الروم بعد اليوم أن تصالحهم فلا تصالحهم حتى تجعلهم فيئاً وعبيداً؛ فإنهم أهل ذلك ، فإني نصحتهم فاستغشوني ،ونظرت لهم فاتهموني. وأما الثالثة: أطلب إليك إن أنا مت أن تأمرهم أن يدفنوني في كنيسة أبي يحنس بالإسكندرية (بالحبالين). فأنعم له عمرو بن العاص t بذلك ، وأجابه إلى ما طلب على أن يضمنوا له الجسرين جميعاً ويقيموا له الإنزال والضيافة والأسواق والجسور ما بين الفسطاط إلى الإسكندرية ففعلوا. وصارت لهم القبط أعوانا كما جاء في الحديث .
ويقال أن المقوقس إنما صالح عمرو بن العاص على الروم وهو يحاصر الإسكندرية، وأن عمرو بن العاص لما بلغ الاسكندرية حاصر أهلها ثلاثة أشهر وألح عليهم وخافوه وسأله المقوقس الصلح عنهم كما صالحه على القبط على أن يستنظر رأي الملك .
وعن يزيد بن أبي حبيب أن المقوقس الرومي الذي كان ملك أهل مصر صالح عمرو بن العاص على أن يسير من أراد من الروم المسير ويقر من أراد الإقامة من الروم على أمر قد سماه فبلغ ذلك هرقل ملك الروم فتسخط أشد التسخط وانكره أشد الإنكار وبعث الجيوش فأغلقوا أبواب الإسكندرية وآذنوا عمرو بن العاص بالحرب ؛ فخرج إليه المقوقس فقال أسألك ثلاثاً... [وذكرقول المقوقس السابق ذكره ] .
ثم خرج عمرو بن العاص بالمسلمين - حين أمكنهم الخروج - وخرج معه جماعة من رؤساء القبط وقد أصلحوا لهم الطرق وأقاموا لهم الجسور والأسواق وصارت لهم القبط أعواناً على ما أرادوا من قتال الروم ،وسمعت بذلك الروم؛ فاستعدت واستجاشت وقدمت عليهم مراكب كثيرة من أرض الروم فيها جمع عظيم من الروم بالعدة والسلاح ،فخرج إليهم عمرو بن العاص من الفسطاط متوجهاً إلى الإسكندرية ، فلم يلق منهم أحداً حتى بلغ ترنوط فلقي بها طائفة من الروم فقاتلوه قتالاً خفيفاً فهزمهم الله تعالى ومضى عمرو بمن معه حتى لقي جمع الروم بكوم شريك فاقتتلوا به ثلاثة أيام ثم فتح الله على المسلمين وولى الروم أكتافهم؛ ويقال: بل أرسل عمرو بن العاص شريك بن سمي في آثارهم فأدركهم عند الكوم الذي يقال له كوم شريك فقاتلهم شريك فهزمهم . وكان على مقدمة عمرو بن العاص وعمرو بترنوط فألجأوه إلى الكوم فاعتصم به وأحاطت الروم به فلما رأى ذلك شريك بن سمي أمر أبا ناعمة مالك بن ناعمة الصدفي وهو صاحب الفرس الأشقر الذي يقال له أشقر صدف وكان لا يجارى سرعة فانحط عليهم من الكوم وطلبته الروم فلم تدركه حتى أتى عمراً فأخبره فأقبل عمرو متوجهاً نحوه وسمعت به الروم فانصرفت وبالفرس الأشقر سميت خوخة الأشقر التي بمصر وذلك أن الفرس نفق فدفنه صاحبه هنالك فسمي المكان به .ثم التقوا بسلطيس فاقتتلوا بها قتالاً شديداً ثم هزمهم الله ثم التقوا بالكريون فاقتتلوا بها بضعة عشر يوماً وكان عبد الله بن عمرو على المقدمة وحامل اللواء يومئذ وردان مولى عمرو ،وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه لقي العدو بالكريون فكان على المقدمة وحامل اللواء وردان مولى عمرو فأصابت عبد الله بن عمرو جراحات كثيرة فقال : يا وردان لو تقهقرت قليلاً نصيب الروح (أي يستريح قليلاً من القتال خلف الصفوف وهو جريح) ؛ فقال وردان: الروح تريد ؟ الروح أمامك وليس خلفك ؛ فتقدم للقتال عبد الله بن عمرو (t) . فجاءه رسول أبيه يسأله عن جراحه فقال عبد الله : "أقول إذا جاشت النفس وحالت إصبري عن قليل تحمدي أو تلامي " ؛ فرجع الرسول إلى عمرو فأخبره بما قال . فقال عمرو t :هو ابني حقاً .وأن عمرو بن العاص صلى يومئذ صلاة الخوف في القتال قرب الإسكندرية، ثم فتح الله بالنصر للمسلمين ،وقتل منهم المسلمون مقتلة عظيمة وأتبعوهم حتى بلغوا الإسكندرية فتحصن بها الروم وكانت عليهم حصون متينة لا ترام حصن دون حصن؛ فنزل المسلمون ما بين حلوة الى قصر فارس إلى ما وراء ذلك ومعهم رؤساء القبط يمدونهم بما احتاجوا اليه من الأطعمة والعلوفة.
نزل عمرو بن العاص بحلوة فأقام بها شهرين ثم تحول إلى المقس فخرجت عليه الخيل من ناحية البحيرة مستترة بالحصن فواقعوه فقتل من المسلمين يومئذ بكنيسة الذهب اثنا عشر ورسل ملك الروم تختلف إلى الإسكندرية في المراكب بإمدادات الروم وكان ملك الروم يقول لئن ظهرت العرب على الإسكندرية إن ذلك انقطاع ملك الروم وهلاكهم لأنه ليس للروم كنائس أعظم من كنائس الإسكندرية وكان الروم في يوم عيد لهم حين غلبت العرب على الشام فقال الملك لئن غلبوا على الإسكندرية فقد هلكت الروم وانقطع ملكها فأمر بجهازه ومصلحته لخروجه إلى الإسكندرية حتى يباشر قتالها بنفسه إعظاماً لها وأمر أن لا يتخلف عنه أحد من الروم وقال ما بقي للروم بعد الإسكندرية حرمة ، فلما فرغ من جهازه صرعه الله فأماته وكفى الله المسلمين مؤنته وكان موته في سنة تسع عشرة فكسر الله بموته شوكة الروم فرجع جمع كثير ممن كان قد توجه إلى الإسكندرية . وعن الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب قال مات هرقل في سنة عشرين وفيها فتحت قيسارية الشام ، واستأسدت العرب عند ذلك وألحت بالقتال على أهل الإسكندرية فقاتلوهم قتالاً شديداً ، فخرج طرف من الروم من باب حصن الاسكندرية فحملوا على الناس فقتلوا رجلاً من مهرة فاحتزوا رأسه وانطلقوا به فجعل المهريون يتغضبون ويقولون لا ندفنه أبداً إلا برأسه فقال عمرو بن العاص تتغضبون كأنكم تتغضبون على من يبالي بغضبكم احملوا على القوم إذا خرجوا فاقتلوا منهم رجلاً ثم ارموا برأسه يرمونكم برأس صاحبكم فخرجت الروم إليهم ، فاقتتلوا فقتل من الروم رجل من بطارقتهم فاحتزوا رأسه ورموا به إلى الروم ؛ فرمت الروم برأس المهري صاحبهم إليهم فقال دونكم الآن فادفنوا صاحبكم .و لما حاصر المسلمون الاسكندرية قال لهم صاحب المقدمة لاتعجلوا حتى آمركم برأي فلما فتح الباب دخل رجلان فقتلا فبكى صاحب المقدمة فقيل له لا تبك وهما شهيدان قال ليت أنهما شهيدان ؛ ولكن سمعت رسول {صلى الله عليه وسلم} يقول لا يدخل الجنة عاص وقد أمرت أن لا يدخلوا حتى يأتيهم رأيي فدخلوا بغير إذني .وأن عمرو بن العاص قاتل الروم بالإسكندرية يوماً من الأيام قتالا شديدا فلما استحر القتال بينهم بارز رجل من الروم مسلمة بن مخلد فصرعه وألقاه عن فرسه وأهوى إليه ليقتله حتى حماه رجل من أصحابه وكان مسلمة لا يقاوم لسبيله ولكنها مقادير ففرحت بذلك الروم وشق ذلك على المسلمين وغضب عمرو بن العاص لذلك وكان مسلمة كثير اللحم ثقيل البدن فقال عمرو بن العاص عند ذلك ما بال الرجل المسته الذي يشبه النساء يتعرض مداخل الرجال ويتشبه بهم فغضب مسلمة من ذلك ولم يراجعه ثم اشتد القتال حتى اقتحموا حصن الإسكندرية فقاتلتهم العرب في الحصن ثم جاشت عليهم الروم حتى اخرجوهم جميعا من الحصن إلا أربعة نفر بقوا في الحصن وأغلقوا عليهم باب الحصن أحدهم عمرو بن العاص والآخر مسلمة بن مخلد ولم يسم الآخرين وحالوا بينهم وبين أصحابهم ولا يدري الروم من هم فلما رأى ذلك عمرو بن العاص وأصحابه التجأوا الى ديماس من حماماتهم فدخلوا فيه فاحترزوا به فأمروا رومياً أن يكلمهم بالعربية فقال لهم إنكم قد صرتم بأيدينا أسارى فاستأسروا ولا تقتلوا أنفسكم فامتنعوا عليهم ثم قال لهم إن في أيدي أصحابكم منا رجالاً أسروهم ونحن نعطيكم العهود نفادي بكم أصحابنا ولا نقتلكم فأبوا عليهم فلما رأى الرومي ذلك منهم قال لهم هل لكم إلى خصلة وهي نصف فيما بيننا وبينكم أن تعطونا العهد ونعطيكم مثله على أن يبرز منكم رجل ومنا رجل فإن غلب صاحبنا صاحبكم استأسرتم لنا وأمكنتمونا من أنفسكم وإن غلب صاحبكم صاحبنا خلينا سبيلكم الى أصحابكم فرضوا بذلك وتعاهدوا عليه وعمرو ومسلمة وصاحباهما في الحصن في الديماس فتداعوا الى المبارزة فبرز رجل من الروم قد وثقت الروم بنجدته وشدته وقالوا يبرز رجل منكم لصاحبنا فأراد عمرو أن يبرز فمنعه مسلمة وقال ما هذا تخطئ مرتين تشذ من أصحابك وأنت أمير وإنما قوامهم بك وقلوبهم معلقة نحوك لا يدرون ما أمرك ثم لا ترضى حتى تبارز وتتعرض للقتل فإن قتلت كان ذلك بلاء على أصحابك مكانك وأنا أكفيك إن شاء الله تعالى فقال عمرو دونك فربما فرجها الله بك فبرز مسلمة والرومي فتجاولا ساعة ثم أعانه الله عليه فقتله فكبر مسلمة وأصحابه ووفى لهم الروم بما عاهدوهم عليه ففتحوا لهم باب الحصن فخرجوا ولا يدري الروم أن أمير القوم فيهم حتى بلغهم بعد ذلك فأسفوا على ذلك وأكلوا أيديهم تغيظا على ما فاتهم فلما خرجوا استحيا عمرو مما كان قال لمسلمة حين غضب فقال عمرو عند ذلك استغفر لي ما كنت قلت لك فاستغفر له وقال عمرو والله ما أفحشت قط إلا ثلاث مرار مرتين في الجاهلية وهذه الثالثة وما منهن مرة إلا وقد ندمت وما استحييت من واحدة منهن أشد مما استحييت مما قلت لك والله إني لأرجو أن لا أعود إلى الرابعة ما بقيت.
أقام عمرو بن العاص محاصر الإسكندرية أشهرا فلما بلغ ذلك عمر بن الخطاب t قال:
ما أبطؤا بفتحها إلا لما أحدثوا .وكتب إلى عمرو بن العاص:
أما بعد فقد عجبت لإبطائكم عن فتح مصر إنكم تقاتلونهم منذ سنتين وما ذلك إلا لما أحدثتم وأحببتم من الدنيا ما أحب عدوكم وإن الله تبارك وتعالى لا ينصر قوماً إلا بصدق نياتهم وقد كنت وجهت إليك أربعة نفر وأعلمتك أن الرجل منهم مقاوم ألف رجل على ما كنت أعرف إلا أن يكونوا غيرهم ما غير غيرهم فإذا أتاك كتابي هذا فاخطب الناس وحضهم على قتال عدوهم ورغبهم في الصبر والنية وقدم أولئك الأربعة في صدور الناس ومر الناس جميعاً أن يكون لهم صدمة كصدمة رجل واحد وليكن ذلك عند الزوال يوم الجمعة فإنها ساعة تنزل فيها الرحمة ووقت الإجابة وليعج الناس إلى الله ويسألوه النصر على عدوهم فلما أتى عمرو الكتاب جمع الناس وقرأعليهم كتاب عمرt ثم دعا أولئك النفر فقدمهم أمام الناس وأمر الناس أن يتطهروا ويصلوا ركعتين ثم يرغبوا إلى الله عز وجل ويسألوه النصر على عدوهم ففعلوا ففتح الله عليهم .ويقال ان عمرو بن العاص استشار مسلمة بن مخلد كما حدثنا عثمان بن صالح عن من حدثه فقال أشر علي في قتال هؤلاء فقال له مسلمة أرى أن تنظر إلى رجل له معرفة وتجارب من أصحاب رسول الله {r} فتعقد له على الناس فيكون هو الذي يباشر القتال ويكفيكه قال عمرو ومن ذلك قال :عبادة بن الصامت . فدعا عمروعبادة فأتاه وهو راكب على فرسه فلما دنا منه أراد النزول فقال له عمرو عزمت عليك ألا نزلت ناولني سنان رمحك فناوله إياه فنزع عمرو عمامته عن رأسه وعقد له وولاه قتال الروم فتقدم عبادة مكانه فصادف الروم وقاتلهم ففتح الله على يديه الإسكندرية من يومهم ذلك.
قال عبد الله بن عبد الحكم :لما أبطأ على عمرو بن العاص فتح الإسكندرية استلقى على ظهره ثم جلس ثم قال إني فكرت في هذا الأمر فإذا هو لا يصلح آخره إلا من أصلح أوله يريد الأنصار فدعا عبادة بن الصامت فعقد له ففتح الله على يديه الإسكندرية من يومه ذلك
فقد حاصروا الإسكندرية تسعة أشهر بعد موت هرقل وخمسة قبل ذلك وفتحت يوم الجمعة لمستهل المحرم سنة عشرين هجرية ؛ فلما هزم الله تبارك وتعالى الروم وفتح الإسكندرية كما هرب الروم في البر والبحر وخلف عمرو بن العاص بالإسكندرية ألف رجل من أصحابه ومضى عمرو ومن معه في طلب من هرب من الروم في البر فرجع من كان هرب من الروم في البحر الى الإسكندرية فقتلوا من كان فيها من المسلمين إلا من هرب منهم وبلغ ذلك عمرو بن العاص فكر راجعاً ففتحها وأقام بها وكتب إلى عمربن الخطاب t أن الله قد فتح علينا الإسكندرية عنوة بغير عقد ولا عهد فكتب إليه عمربن الخطابt يقبح رأيه ويأمره أن لا يجاوزها ويقال هذا هوفتح الإسكندرية الثاني ، وبعث عمرو بن العاص كما حدثنا عثمان بن صالح عن ابن لهيعة معاوية بن حديج وافداً إلى عمر بن الخطاب tبشيراً له بالفتح فقال له معاوية ألا تكتب معي كتابا فقال له عمرو وما أصنع بالكتاب ألست رجلا عربيا تبلغ الرسالة وما رأيت وما حضرت فلما قدم على عمر أخبره بفتح الأسكندرية فخر عمر ساجدا وقال الحمد لله .. فقال للمؤذن أذن في الناس الصلاة جامعة ؛ فاجتمع الناس ثم قال لي قم فأخبر أصحابك فقمت فأخبرتهم ثم صلى ودخل منزله واستقبل القبلة فدعا بدعوات ثم جلس فقال يا جارية هل من طعام فأتت بخبز وزيت فقال كل فأكلت على حياء ثم قال كل فإن المسافر يحب الطعام فلو كنت آكلاً لأكلت معك فأصبت على حياء ثم قال يا جارية هل من تمر فأتت بتمر في طبق فقال كل فأكلت على حياء ثم قال ماذا قلت يا معاوية حين أتيت المسجد ؟ فقلت إن أمير المؤمنين قائل ( نائم وقت القيلولة) قال t: بئس ما قلت أو بئس ما ظننت ، لئن نمت النهار لأضيعن الرعية ولئن نمت الليل لأضيعن نفسي فكيف بالنوم مع هذين يا معاوية؟
ثم كتب عمرو بن العاص t بعد ذلك كما حدثنا ابراهيم بن سعيد البلوي إلى عمر بن الخطاب t أما بعد فإني فتحت مدينة لا أصف ما فيها غير أني أصبت فيها أربعة آلاف بنية بأربعة آلاف حمام وأربعين ألف يهودي عليهم الجزية وأربع مائة ملهى للملوك حدثنا عبد الملك بن مسلمة قال حدثنا ضمام بن إسماعيل عن أبي قبيل أن عمراً بن العاص لما فتح الإسكندرية وجد فيها اثني عشر ألف بقال يبيعون البقل الأخضر . حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير قال حدثنا ابن مقلاص قال حدثنا يحيى بن عبد الله بن داود قال أراه عن حيوة بن شريح أن عمرو بن العاص لما فتح الإسكندرية وجد فيها اثني عشر ألف بقال
حدثنا هانئ بن المتوكل قال حدثنا محمد بن سعيد الهاشمي قال ترحل من الإسكندرية في الليلة التي دخلها عمرو بن العاص أو في الليلة التي خافوا فيها دخول عمرو سبعون ألف يهودي.
وكان بالإسكندرية فيما أحصي من الحمامات اثنا عشر ألف ديماس أصغر ديماس منها يسع ألف مجلس كل مجلس منها يسع جماعة نفر وكان عدة من بالإسكندرية من الروم مائتي ألف من الرجال فلحق بأرض الروم أهل القوة وركبوا السفن وكان بها مائة مركب من المراكب الكبار فحمل فيها ثلاثون ألفاً مع ما قدروا عليه من المال والمتاع والأهل وبقي من بقى الأسارى ممن بلغ الخراج فأحصي يومئذ ست مائة ألف سوى النساء والصبيان فاختلف الناس على عمرو في قسمها وكان أكثر الناس يريدون قمسها فقال عمرو لا أقدر على قسمها حتى أكتب إلى أمير المؤمنين t فكتب إليه كتاباً يعلمه بفتحها وشأنها ويعلمه أن المسلمين طلبوا قسمها فكتب إليه عمر لا تقسمها وذرهم يكون خراجهم فيئاً للمسلمين وقوة لهم على جهاد عدوهم فأقرها عمرو وأحصى أهلها وفرض عليهم الخراج فكانت مصر صلحاً كلها بفريضة دينارين دينارين على كل رجل لا يزاد على أحد منهم في جزية رأسه أكثر من دينارين إلا أنه يلزم بقدر ما يتوسع فيه من الأرض والزرع إلا أهل الإسكندرية فإنهم كانوا يؤدون الخراج والجزية على قدر ما يرى من وليهم لأن الإسكندرية فتحت عنوة بغير عهد ولا عقد ولم يكن صلح ولا ذمة وقد كانت قرى من قرى مصركما حدثنا عبد الله بن صالح عن الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب قاتلت فسبوا منها قرية يقال بها بلهيب ، وقرية يقال لها خيس ، وقرية يقال لها سلطيس ، فوقع سباياهم بالمدينة وغيرها فردهم عمر بن الخطاب t إلى قراهم وصيرهم وجماعة القبط أهل ذمة .
وأن عمراً سبى أهل بلهيب وسلطيس وقرطسا وسخا فتفرقوا وبلغ أولهم المدينة حين نقضوا ثم كتب عمر بن الخطاب t إلى عمرو بردهم فرد من وجد منهم . وأن أهل سلطيس ومصيل وبلهيب ظاهروا الروم على المسلمين في جمع كان لهم فلما ظهر عليهم المسلمون استحلوهم وقالوا هؤلاء لنا فيء مع الإسكندرية فكتب عمرو بن العاص بذلك الى عمر بن الخطاب t فكتب إليه عمر أن يجعل الإسكندرية وهؤلاء الثلاث قريات ذمة للمسلمين ويضربوا عليهم الخراج ويكون خراجهم وما صالح عليه القبط قوة للمسلمين على عدوهم ولا يجعلون فيئاً ولاعبيداً ففعلوا ذلك. وعن عوف بن حطان أنه كان لقريات من مصر منهم أم دنين وبلهيب عهد وأن عمر لما سمع بذلك كتب إلى عمرو بن العاص يأمره أن يخيرهم فإن دخلوا في الإسلام فذاك وإن كرهوا فارددهم إلى قراهم قال وكان من أبناء السلطيسيات عمران بن عبد الرحمن بن جعفر بن ربيعة وأم عياض بن عقبة وأبو عبيدة بن عقبة وأم عون بن خارجة القرشي ثم العدوي وأم عبد الرحمن بن معاوية بن حديج وموالي أشراف بعد ذلك وقعوا عند مروان بن الحكم منهم أبان وعمه أبو عياض وعبد الرحمن البلهيبي .
فتح مصر بالصلح :
فتحت مصر كلها صلحاً بفريضة دينارين على كل رجل لا يزاد على أحد منهم في جزية رأسه أكثر من دينارين إلا أنه يلزم بقدر ما يتوسع فيه من الأرض والزرع إلا أهل الإسكندرية فإنهم كانوا يؤدون الخراج والجزية على قدر ما يرى من وليهم لأن الإسكندرية فتحت عنوة بغير عهد ولا عقد ولم يكن لهم صلحاً ولا ذمة. وكتبت لأهل مصر بهذا الصلح كتب ثلاثة:
كتاب عند طلما صاحب إجنا وكتاب عند قزمان صاحب رشيد وكتاب عند يحنس صاحب البرلس ، ولهم ستة شروط : لا يُخْرَجُون من ديارهم ،ولا تُنْتَزَع نساؤهم ولا من أولادهم ،ولا كنوزهم ،ولا أراضيهم ،ولا يزاد عليهم ،ويدفع عنهم موضع الخوف من عدوهم .
حدثنا عثمان بن صالح قال حدثنا ابن وهب قال سمعت حيوة بن شريح قال سمعت الحسن بن ثوبان الهمداني يقول حدثني هشام بن أبي رقية اللخمي قال إن عمراً بن العاص لما فتح مصر قال لقبط مصر من كتمني كنزاً عنده فقدرت عليه قتلته ( وهو قد يكون فعل ذلك لتطهير مصر من عيون الروم والمتعاونين مع جباة الأموال الذين هربوا أو من لديه أموال الروم وديعة عنده على أمل العودة لمصر وطرد المسلمين منها كسابق عهدهم بالفرس ) وقيل أن قبطياً من أهل الصعيد يقال له بطرس ذكروا لعمرو أن عنده كنزاً (ذهب من العملات الرومية) فأرسل إليه فسأله فأنكر وجحد فحبسه في السجن وعمرو يريد أن يسأل عنه أحد وهل يسمعونه يسأل عن أحد ؟ فقالوا حراسه في السجن : لم يسأل عنه أحد وإنما سمعناه هو يسأل عن راهب في الطور فأرسل عمرو إلى بطرس فنزع خاتمه من يده ثم كتب إلى ذلك الراهب أن ابعث إلى بما عندك وختمه بخاتم بطرس فجاءه رسول الراهب بقُلَّة شامية مختومة بالرصاص ففتحها عمرو فوجد فيها صحيفة مكتوباً فيها "مالكم تحت الفسقية الكبيرة فأرسل عمرو إلى الفسقية فحبس عنها الماء ثم قلع منها البلاط الذي تحتها فوجد فيها اثنين وخمسين إردباً ذهب مضروبة (عملات رومية) ؛ إذا ثبت جرمه وخيانته بحيازته هذا الكم الهائل من الذهب ؛ فضرب عمرو رأسه عند باب المسجد فذكرابن أبي رقية أن القبط ( الذين لديهم أموال الروم) أخرجوا كنوزهم شفقة أن يكتشف أمرهم أحد فيقتلوا كما قتل بطرس . ويؤيد ذلك رواية أخرى واضحة لقتل بطرس : حدثنا عثمان بن صالح قال حدثنا بن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب أن عمراً بن العاص استحل مال قبطي من قبط مصر لأنه استقر عنده أنه يُظْهِر الروم على عورات المسلمين ويكتب إليهم بذلك فاستخرج منه بضعة وخمسين إردباً دنانير .
وفي حديث يحيى بن أيوب وخالد بن حميد قالا ففتح الله أرض مصر كلها بصلح غير الإسكندرية وثلاث قريات ظاهرت الروم على المسلمين سلطيس ومصيل وبلهيب فإنه كان للروم جمع فظاهروا الروم فلما ظهر عليها المسلمون استحلوها وقالوا هؤلاء لنا فيء مع الإسكندرية فكتب عمرو بن العاص t بذلك إلى عمر بن الخطاب t فكتب إليه عمر t :
أن تجعل الإسكندرية وهؤلاء الثلاث قريات ذمة للمسلمين وتضربون عليهم الخراج ويكون خراجهم وما صالح عليه القبط كله قوة للمسلمين ولا يجعلون فيئا ولا عبيدا ففعلوا ذلك إلى اليوم .. وقال آخرون بل فتحت مصرعنوة بلا عهد ولا عقد استناداً لما ذكره سفيان بن وهب الخولاني وهو يقول : إنا لما فتحنا مصر بغير عهد ولا عقد قام الزبير بن العوام فقال اقسمها يا عمرو بن العاص فقال عمرو والله لا أقسمها فقال الزبير والله لتقسمنها كما قسم رسول الله {r} خيبر فقال عمرو والله لا أقسمها حتى أكتب إلى أمير المؤمنين فكتب إليه عمر أقرها حتى يغزو منها حبل الحبلة . وكذا قول من حدث عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم قال سمعت اشياخنا يقولون إن مصر فتحت عنوة بغير عهد ولا عقد ، منهم أبي(أي والد عبد الرحمن بن زياد ) يحدثنا عن أبيه وكان ممن شهد فتح مصر يقولون فتحت مصر عنوة بغير عهد ولا عقد. وحدث عبد الملك بن مسلمة قال حدثنا ابن وهب عن عياض بن عبد الله الفهري عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أن عمراً بن العاص فتح مصر بغير عهد ولا عقد وأن عمر بن الخطاب حبس درها وضرعها أن يخرج منها شيء نذراً للإسلام وأهله . وكتب عمرو بن العاصt إلى عمر بن الخطاب t أن رهباناً يترهبون بمصر فيموت أحدهم وليس له وارث ؛ فكتب إليه عمر t من كان له عقب فادفع ميراثه إلى عقبه ومن لم يكن له عقب فاجعل ماله في بيت مال المسلمين فإن ولاءه للمسلمين . ولا خلاف بعد ذلك عندما جعلها أمير المؤمنين عمربن الخطاب(t) كلها ذمة للمسلمين الخراج ؛لحديث يحيى بن خالد عن راشد بن سعد عن عقيل بن خالد عن ابن شهاب أنه قال كان فتح مصر بعضها بعهد وذمة وبعضها عنوة فجعلها عمر بن الخطاب جميعا ذمة وحملهم على ذلك فمضى ذلك فيهم إلى اليوم والله أعلم.
.. يتبع (أبوجمال)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* فتوح مصر وأخبارها ، أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم بن أعين القرشي المصري، تحقيق : محمد الحجيري ،ط1 ، دار الفكر - بيروت ، 1416هـ - 1996م.

تقييم:

0

0
مشاركة:


التعليق على الموضوع


لم يسجل بعد أي تعليق على هذه المشاركة !...

...........................................

=== إضافة تعليق جديد ===
الإسم:

نص التعليق:

انقل محتوى صويرة التحقق في الخانة أسفله:
الصورة غير ظاهرة