فضاءات رجم دموش

رجم دموش

فضاء الثقافة والمواضيع العامة

العضو الأكثر فعالية على مستوى الـبلدية
camicas
مسجــل منــــذ: 2011-08-14
مجموع النقط: 75.4
إعلانات


حرمة الأشهر الحرم

الأشهر الحرم أربعة أشهر، ثلاثة متواليات: وهي ذو القعدة وذو الحجة ومحرم وواحد فرد وهو رجب مضر الذي بين جمادى وشعبان. وتحريم هذه الأشهر قديم قدم الرسالات والنبيين، وكانت قريش في جاهليتها تعظم الأشهر الحرم ومثلها سائر العرب، كانوا يعظمون الأشهر الحرم، ويرون انتهاك حرمتها والقتال فيها من أكبر الكبائر وأعظم العظائم، إلا أنهم ابتدعوا فيها بدعة “النسيء”، وليس حديثنا هنا عن النسيء، وتعظيم العرب لحرمة الأشهر الحرم هو من بقايا دين أبيهم إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام.
وجاء الإسلام ونزل القرآن فأكد حرمة الأشهر الحرم في بداية العهد المدني، حيث أنزل الله عز وجل قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} [البقرة:217]. أي: أن القتال في الشهر الحرام كبيرة من أعظم الكبائر، وذنب عظيم من أعظم الذنوب. وكان نزول تلك الآية بعد حادثة سرية نخلة في شهر رجب من السنة الثانية للهجرة النبوية، وملخص الحادثة أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل طائفة من أصحابه إلى وادي نخلة بين مكة والطائف بقيادة عبد الله بن جحش رضي الله عنه ليرصدوا له قريشا ويراقبوا تحركات قوافلها ويوافونه بالأخبار. فانطلقوا منفذين للخطة التي رسمها لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، “وَمَضَى عَبْدُ اللّهِ بْنُ جَحْشٍ وَبَقِيّةُ أَصْحَابِهِ حَتّى نَزَلَ بِنَخْلَةَ، فَمَرّتْ بِهِ عِيرٌ لِقُرَيْشِ تَحْمِلُ زَبِيبًا وَأَدَمًا، وَتِجَارَةً مِنْ تِجَارَةِ قُرَيْشٍ… وَتَشَاوَرَ الْقَوْمُ فِيهِمْ وَذَلِكَ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَجَبٍ فَقَالَ الْقَوْمُ: وَاَللّهِ لَئِنْ تَرَكْتُمْ الْقَوْمَ هَذِهِ اللّيْلَةَ لَيَدْخُلُنّ الْحَرَمَ، فَلَيَمْتَنِعُنّ مِنْكُمْ بِهِ وَلَئِنْ قَتَلْتُمُوهُمْ لَتَقْتُلُنّهُمْ فِي الشّهْرِ الْحَرَامِ، فَتَرَدّدَ الْقَوْمُ وَهَابُوا الْإِقْدَامَ عَلَيْهِمْ، ثُمّ شَجّعُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَيْهِمْ وَأَجْمَعُوا عَلَى قَتْلِ مَنْ قَدَرُوا عَلَيْهِ مِنْهُمْ وَأَخْذِ مَا مَعَهُمْ… فَلَمّا قَدمِوا عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ، قَالَ: «مَا أَمَرْتُكُمْ بِقِتَالٍ فِي الشّهْرِ الْحَرَامِ»”. ولما بلغ الخبر قريشاً أقامت الدنيا ولم تقعدها، واهتبلت الفرصة واتخذت من ذلك ذريعة للطعن في الإسلام وفي نبي الإسلام، “وَقَالَتْ قُرَيْشٌ: قَدْ اسْتَحَلّ مُحَمّدٌ وَأَصْحَابُهُ الشّهْرَ الْحَرَامَ وَسَفَكُوا فِيهِ الدّمَ وَأَخَذُوا فِيهِ الْأَمْوَالَ وَأَسَرُوا فِيهِ الرّجَالَ”. وأخذوا يلوكون ذلك بألسنتهم وينشرونه بين الناس، والناس كلهم يعظمون الأشهر الحرم مسلمهم وكافرهم، فأرادوا أن يتوصلوا بذلك إلى تشويه صورة الرسول صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عند الناس، وإلى تشويه تعاليم الإسلام، فتساءل الناس عن حكم ذلك، ففصل الله عز وجل بين أوليائه وأعدائه وأنزل هذه الآية: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:217].
فحكم الله عز وجل أن القتال في الشهر الحرام “كبير”، أي: كبيرة من كبائر الذنوب، ولكن ما بال قريش تتحدث عن انتهاك الحرمات وهي غارقة في وَحَلِه؟
فما هم فيه من الصد عن سبيل الله (الإسلام)، وما هم فيه من الكفر بالله وما يقترفونه من انتهاكات بإخراج أهل الحرم من الحرم وفتنة المسلمين عن دينهم أكبر عند الله وأعظم بكثير من انتهاك حرمة الشهر الحرام! فالذي يغرق في وَحَلِ انتهاك الحرمات إلى آذانه ليس له أن يتحدث عن الحرمات وإلا فهو التناقض العجيب والكيل بكيالين. وبهذه الآية ثبّت القرآن حرمة الأشهر الحرم كما كان الحال في الرسالات السماوية السابقة.
ولما كانت السنة التاسعة من الهجرة نزلت على النبي صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سورة براءة وأنزل الله عز وجل فيها آية تؤكد حرمة الأشهر الحرم، وتعظم شأن الأشهر الحرم أشد التعظيم، قال الله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:36].
وإن مما يظهر للمتأمل في هذه الآية أن الله عز وجل ربط فيها بين خلقه وشرعه، بين خلقه للكون، للسموات والأرض والزمان حيث قدر في كتابه المكنون ولوحه المحفوظ أن تكون السنة اثني عشر شهراً، وذلك نظام خلقه الذي لا يتبدل وقضائه الذي لا يتغير، ربط بين ذلك وبين شرعه ودينه القيم الذي اختار فيه أربعة من تلك الأشهر لتكون أشهراً حرماً {ذلك الدين القيم} والشرع المستقيم. وفي ذلك الربط إشارة بينة إلى أن حرمة هذه الأشهر دائمة ما دامت السموات والأرض ومادام الزمان، وفي هذا رد على من ذهب إلى نسخ حرمة هذه الأشهر مخالفا لمذهب الجمهور.
وأما ما كان من قتال النبي صلى الله عليه وسلم للكفار في الشهر الحرام كقتاله في ذي القعدة ثقيف في غزوة “الطائف” فيجاب عنه بأحد جوابين: الأول: أن ذلك القتال كان من باب قتال الدفع لا قتال الطلب، وكان ابتداء القتال في شهر حلال، وقتال الدفع جائز ولو في الشهر الحرام لقوله تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة:194].
قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى: “قال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن عيسى، حدثنا ليث بن سعد، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، قال: لم يكن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يغزو في الشهر الحرام إلا أن يُغْزى ويُغْزَوا فإذا حضره أقام حتى ينسلخ. هذا إسناد صحيح؛ ولهذا لما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم وهو مُخَيِّم بالحديبية أن عثمان قد قتل وكان قد بعثه في رسالة إلى المشركين- بايع أصحابه، وكانوا ألفًا وأربعمائة تحتَ الشجرة على قتال المشركين، فلما بلغه أن عثمان لم يقْتل كفّ عن ذلك، وجنح إلى المسالمة والمصالحة، فكان ما كان.
وكذلك لما فرغ من قتال هَوازِن يوم حنين وتَحَصَّن فَلُّهم بالطائف، عَدَل إليها، فحاصَرَها ودخل ذو القَعْدة وهو محاصرها بالمنجنيق، واستمر عليها إلى كمال أربعين يومًا، كما ثبت في الصحيحين عن أنس. فلما كثر القتل في أصحابه انصرف عنها ولم تُفْتَحْ”.
وقال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى: “الجواب عن حصار رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الطائف، واستصحابه الحصار إلى أن دخل الشهر الحرام، فإنه من تتمة قتال هوازن وأحلافها من ثقيف، فإنهم هم الذين ابتدأوا القتال، وجمعوا الرجال، ودعوا إلى الحرب والنزال، فعندما قصدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم، فلما تحصنوا بالطائف ذهب إليهم لينزلهم من حصونهم، فنالوا من المسلمين، وقتلوا جماعة، واستمر الحصار بالمجانيق وغيرها قريباً من أربعين يوماً. وكان ابتداؤه في شهر حلال، ودخل الشهر الحرام، فاستمر فيه أياما، ثم قفل عنهم لأنه يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء، وهذا هو أمر مقرر، وله نظائر كثيرة، والله أعلم”.
والثاني: أننا لو سلمنا أن قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} وحصار الرسول صلى الله عليه وسلم للطائف يدل على جواز ابتداء الكفار بالقتال فإننا لا نسلم قط بنسخ حرمة الأشهر الحرم في حق المسلمين؛ لأن الله عز وجل يقول في نفس الآية: {فلا تظلموا فيهن أنفسكم} أي: فلا تقعوا في ظلم أنفسكم بفعل المعاصي وانتهاك الحرمات.
ومما يدل على أن حرمة الأشهر الحرم محكمة قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آَمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة:2]. فهذه الآية من سورة المائدة التي هي من آخر ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم على الإطلاق، فنزولها بعد نزول سورة التوبة، ومع ذلك فإن حرمة الأشهر الحرم فيها باقية حيث قال الله عز وجل: {ولا الشهر الحرام} أي: ولا تحلوا الشهر الحرام. فهذا دليلٌ بيِّن على بقاء حرمة الأشهر الحرم.
ومن أوضح الأدلة على بقاء حرمة الأشهر الحرم ما استفاض عن النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته عام حجة الوداع أنه قال: «فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا» [رواه البخاري ومسلم]. فقال: «في شهركم هذا» فدل هذا الحديث على أن حرمة الأشهر الحرم محكمة لا سيما في حق المسلمين فالإثم يتضاعف في هذه الأشهر؛ بل قد ذهب طائفة من أهل العلم إلى أن دية قتل المسلم تتضاعف في الشهر الحرام كما هو مذهب الإمام الشافعي رحمه الله تعالى.

تقييم:

0

0
مشاركة:


التعليق على الموضوع


لم يسجل بعد أي تعليق على هذه المشاركة !...

...........................................

=== إضافة تعليق جديد ===
الإسم:

نص التعليق:

انقل محتوى صويرة التحقق في الخانة أسفله:
الصورة غير ظاهرة