فضاءات بئر مقدم

بئر مقدم

فضاء الثقافة والمواضيع العامة

العضو الأكثر فعالية على مستوى الـبلدية
djamel68
مسجــل منــــذ: 2010-11-19
مجموع النقط: 343.35
إعلانات


الجزائر: عوامل الثورة وكوابحها

الجزائر: عوامل الثورة وكوابحها
كانت الجزائر مرشحة للانفجار منذ سنوات، حيث تراكمت فيها أسباب الغضب. وعرفت البلاد ما يقارب ألف عملية احتجاجية خلال سنة 2010 وأكثر من 120 عملية مماثلة في شهر مارس/آذار 2011، من أكثرها انتشارا غلق الطرق وغلق المرافق العامة، مثل البلديات.
لكن هذه العمليات الاحتجاجية لم تؤد لحد الساعة إلى انفجار الوضع بسبب سلسلة من العوامل، من أهمها غياب التنظيمات التي من الممكن أن تتكفل بتأطير الشارع وتحويل غضبه إلى مطالب سياسية.
ويمكن تلخيص قابلية الوضع الجزائري للثورة من خلال نقطتين، الأولى تتعلق بتراكم العوامل التي تثير غضب الشارع ومن الممكن أن تؤدي إلى انفجار في أية لحظة، وتتعلق الثانية بالعوامل التي منعت من ظهور ثورة وطنية واسعة يمكن أن تهدد النظام القائم.
عوامل الانفجار: الثقة المفقودة
أ‌- العوامل السياسية
1. المأزق السياسي العمليات الاحتجاجية في الجزائر لم تؤد لحد الساعة إلى انفجار الوضع بسبب سلسلة من العوامل، من أهمها غياب التنظيمات التي من الممكن أن تتكفل بتأطير الشارع وتحويل غضبه إلى مطالب سياسية.
من أهم العوامل التي يمكن أن تدفع إلى قيام ثورة في الجزائر تلك الأزمة السياسية الحادة، حيث انهارت الثقة بين الشعب والمؤسسات والأحزاب والشخصيات. وغابت الشرعية لدى كل الأطراف الموجودة على الساحة السياسية، كما انهارت مصداقية أحزاب وشخصيات المعارضة.
وتوجد أسباب موضوعية للطعن في كل المؤسسات والمسؤولين، من رئيس الجمهورية إلى المسؤول المحلي في البلدية، مرورا بالبرلمان والحكومة والإدارة. ويزداد الوضع خطورة لأنه لا يوجد في البلاد أي مركز قرار قادر على اقتراح مشروع سياسي متكامل يمكن أن يدفع البلاد بصفة سلمية إلى وضع جديد.
وكانت المنظومة العسكرية والأمنية تشكل عادة العمود الفقري للسلطة في الجزائر، من جيش ومخابرات وقوات الأمن بمختلف مكوناتها. لكن هذه المنظومة لا تكون فعالة إلا إذا كانت تعمل بطريقة منتظمة تحت إدارة موحدة لبلوغ هدف واضح. فاستطاعت المنظومة الأمنية مثلا أن تواجه المجموعات المسلحة خلال التسعينات من القرن الماضي، لأن الهدف كان واضحا، وتم الوصول إليه رغم ما حدث من انزلاقات وتجاوزات. لكن بعد ذلك، ومنذ نهاية العهدة الأولى للرئيس عبد العزيز بوتفليقة، لم يتم تحديد هدف جديد لهذا التحالف:
ل يجب العمل على بقاء النظام؟ هل يجب تطويره؟ أم هل يجب المرور إلى مرحلة جديدة في تاريخ البلاد، وإقامة نظام جديد متلائم مع العصر؟
هذا المأزق دفع المنظومة العسكرية والأمنية إلى العمل لمنع ظهور بديل للنظام الحالي، دون التفكير في إقامة النظام الذي سيحكم البلاد في المدى المتوسط والبعيد. وتبقى السلطة تتعامل مع الأحداث في عملية رد فعل، دون أن تبادر لتتحكم في الأوضاع وترسم الخارطة السياسية للجزائر بعد عشرية أو عشريتين.
2. ضعف القوى المهيكلة للمجتمع
تظهر الأزمة السياسية في الجزائر بصفة واضحة من خلال الانعدام التام للتنظيمات السياسية التي من المفروض أن تتولى تنظيم المجتمع. وقد انهارت صورة الأحزاب إلى أن أصبحت ترمز إلى الانتهازية والفساد والسعي نحو المناصب والثروة مهما كان الثمن.
وتأكد هذا التراجع من خلال مظاهر متعددة، منها ضعف النشاط السياسي وعدم مبالاة المواطنين بالأحزاب وبالنشاط السياسي بصفة عامة. وتحول النشاط الحزبي في الانتخابات إلى عمل إداري يسمح لصاحبه بالوصول إلى منصب رسمي والحصول على امتيازات. ففي الانتخابات التشريعية مثلا، تستعمل الجزائر نظاما انتخابيا يضمن للمترشح الأول في قائمة الأحزاب الكبرى منصبا في البرلمان، فأصبح تحضير القوائم أهم من الانتخابات. وقد دفع بعض المترشحين ما يعادل خمسين مليون دينار (أكثر من نصف مليون دولار) لتزعم قائمة حزبه، مما يضمن له مقعدا في البرلمان ويضمن له الوصول إلى الوزراء والمسؤولين الكبار للحفاظ على مصالحه الخاصة.
هذا الدور الجديد الذي تلعبه الأحزاب قضى على دورها التقليدي في تنظيم وتجنيد المجتمع. ولما اشتعلت البلاد في الأسبوع الثاني من السنة الحالية في عمليات احتجاجية شملت كل مناطق البلاد، لم يستطع أي زعيم حزب أو منظمة أن يواجه المتظاهرين أو حتى أن يخاطبهم لأن الأحزاب فقدت كل مصداقيتها.
3. تذبذب السلطة
تعقدت الأزمة في الجزائر بسبب تذبذب السلطة بين أطراف ومؤسسات وأوساط مختلفة تتصرف كل منها بصفة عشوائية دون تنسيق مع الأطراف الأخرى. ويعتبر المحللون في الجزائر عادة أن نواة السلطة توجد في قيادة المخابرات، بالتنسيق مع قيادة الجيش ثم مصالح الأمن، وذلك منذ بداية التسعينات على الأقل.
ولما وصل الرئيس عبد العزيز بوتفليقة إلى السلطة، عمل من أجل تحويل مركز السلطة إلى رئاسة الجمهورية، وقام بتعيين مقربين منه في مختلف المناصب. لكن الرئيس بوتفليقة يعرف طبيعة النظام وأنه من الأفضل اقتسام السلطة مع تلك الأطراف بدل مواجهتها.
ومنذ بدأ الرئيس بوتفليقة يعاني من المرض في منتصف عهدته الثانية، استعادت المنظومة العسكرية بعض الصلاحيات، رغم أن أطرافا في محيط رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة تحاول أن تستغل الوضع لتفرض قرارات وخيارات في صالحها. ولا يستطيع أي طرف اليوم أن يتخذ قرارا أحاديا لأن تركيبة السلطة أصبحت معقدة، ويجب أن يحصل أي قرار على إجماع من كل هذه الأطراف، وهو أمر صعب جدا.
ومن الأرجح أن يبقى الوضع على حاله إلى أن يتغير ميزان القوى، ومن الممكن أن يتم ذلك لما يتضح أن الرئيس بوتفليقة غير عاجز تماما على ممارسة صلاحياته. لكن هذا الوضع يجعل البلاد في مأزق خطير جدا حيث لا أحد يتخذ القرارات ويبادر، مما يصيب البلاد بجمود، في وقت تراكمت فيه الغيوم والأزمات.
4. انهيار الحالة الصحية للرئيس بوتفليقة
يشكل الرئيس مهما كان اسمه رمزا لميزان القوى الذي يحافظ على مصالح مختلف الأطراف الفاعلة في السلطة، ويعتبر المساس به محاولة لتغيير ميزان القوى فيحس كل طرف أنه مهدد، مما يدفع الكل إلى الالتفاف حول الرئيس.
يعاني الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، 73 سنة، من حالة صحية لا تسمح له بممارسة نشاطه بصفة عادية. وقد ذكر تقرير للسفارة الأمريكية بالجزائر، نشرته "ويكيليكس"، أنه نجا من سرطان في المعدة، لكن المرض أثّر عليه إلى درجة أنه يتكلم ويتحرك بصعوبة، ولا يظهر إلا نادرا، ولا يستطيع أن يعمل لمدة طويلة.
ويفرض هذا الوضع جمودا في كل ميادين الحياة، حيث لا أحد يستطيع أن يبادر ويتخذ القرارات التي يفرضها الوضع في البلاد، مما يزيد الأزمة حدة. وتتراكم المشاكل دون أن تتمكن الحكومة والإدارة من مواجهتها، لأنها تستعمل وسائل قديمة بالية تجاوزها الزمن.
ولا يستطيع أحد أن يبادر بتنحية الرئيس بوتفليقة، أو حتى بالكلام في الموضوع، خشية من ردود فعل الدوائر الأخرى في السلطة. ويشكل الرئيس مهما كان اسمه رمزا لميزان القوى الذي يحافظ على مصالح مختلف الأطراف الفاعلة في السلطة، ويعتبر المساس به محاولة لتغيير ميزان القوى فيحس كل طرف أنه مهدد، مما يدفع الكل إلى الالتفاف حول الرئيس. ولذلك تبقى القاعدة في دوائر السلطة هي الولاء للقائد، إلى أن يتم الإعلان عن تنصيب قائد جديد، فتتغير المواقف نحو مبايعة من تفرضه السلطة الحقيقة.
وتفرض هذه الطريقة في التعامل مع الرئيس، مهما كان اسمه، جمودا قاتلا حيث يضيع الوقت وتضيع أموال وطاقات.
5. انعدام قوة معارضة يمكن أن تستولي على السلطة
إضافة إلى قدرة النظام على المراوغة، فإن المعارضة الجزائرية لم تستطع أن تخلق قوة سياسية قادرة على فرض بديل حقيقي للنظام.
لعب التيار الإسلامي دورا أساسيا في هذا الفشل حيث استعمل القوة وفشل في محاولته، مما دفع جزءا من السلطة إلى اعتبار البلاد غنيمة بعد انتصاره على التيار الإسلامي.
واستعملت السلطة انتشار العنف و"الإرهاب" حجة لغلق كل المنابر والضغط على التيارات الديمقراطية التي لم ترفض العنف، فلم تجد هذه التيارات منفذا للعمل. وتمكنت السلطة أن استعادة حزب جبهة التحرير الوطني إلى الطاعة، ولم تبق أية قوة قادرة على الاستيلاء على السلطة بأية طريقة كانت.
ب- العوامل الاقتصادية والاجتماعية
1. الفشل الاقتصادي
إلى جانب الأزمة السياسية، تعيش الجزائر مأزقا اقتصاديا رغم تدفق الأموال. وقد اعترف الرئيس بوتفليقة نفسه خلال اجتماع إطارات البلاد أن الجزائر فشلت في بناء مشروع اقتصادي متكامل، وذلك رغم الأموال الطائلة التي أنفقت منذ تحسن أسعار المحروقات بداية العشرية الماضية. وقد أدت السياسة المنتهجة إلى ارتفاع كبير للواردات، التي تجاوزت ولأول مرة في تاريخ البلاد 50 مليار دولار سنة 2010، بعد أن كانت لا تتجاوز 20 مليار دولار في بداية حكم الرئيس بوتفليقة.
ومع ارتفاع الاستهلاك في وقت لم يعرف الإنتاج الوطني ارتفاعا يذكر (أقل من خمسة بالمائة سنويا)، اضطرت الحكومة إلى تسهيل عمليات الاستيراد لتتجنب الغضب الاجتماعي، قبل أن تتحول هذه القاعدة إلى سياسة رسمية منذ عشر سنوات. وكانت الجزائر تستورد مثلا أقل من مائة ألف سيارة سنويا سنة 2004، قبل أن يرتفع هذا الرقم ليبلغ 290 ألف سيارة سنة 2010.
واشترت الحكومة السلم الاجتماعي والهدنة السياسية بالتسهيلات في ميدان الاستهلاك، وارتفع الاستهلاك فعلا إلى مستوى لم تعرفه البلاد من قبل، لكن ذلك لم يعد كافيا لأن المجتمع يطلب دائما أكثر، ولأن الأموال وحدها لا تكفي لبناء اقتصاد ولحل المشاكل الاجتماعية.
ووسط هذا الفشل تكثر التصريحات العشوائية من المسؤولين، منها مثلا تصريح وزير الصناعة محمد بن ميرادي الذي قال أن الجزائر ستخصص 16 مليار دولار للمؤسسات الاقتصادية العمومية... وتوجد في البلاد تقاليد في الميدان. ولعل أشهر التصريحات العشوائية تلك التي كانت تصدر من وزير المؤسسات الاقتصادية السابق عبد الحميد تمار الذي أعلن عن اتفاقات مع أكبر الشركات العالمية في مختلف الميادين لإقامة مشاريع ضخمة، قبل أن يتضح أن كلامه كان مجرد خرافات. وفي منتصف العام الماضي قال السيد تمار أن السيارة الجزائرية الأولى ستخرج من المصنع قبل نهاية السنة، مع العلم أن أي اتفاق في هذا الميدان يتطلب من ثلاثة إلى خمس سنوات.
2. البطالة
ومن أهم نتائج فشل المشروع الاقتصادي، يجب الإشارة إلى بقاء البطالة في مستوى عال رغم الأموال التي تدفقت من أجل إنشاء مناصب شغل. وتقول الأرقام الرسمية أن البطالة تراجعت إلى 11 بالمائة، وهو مستوى قال عنه أحد الوزراء أنه أحسن من الوضع في إسبانيا. لكن الحقيقة تختلف، ويعتبر الخبراء أن مستوى البطالة أقرب إلى 20 بالمائة، خاصة عند الشباب حيث تتجاوز 30 بالمائة.
وبعد المظاهرات العنيفة التي عرفتها البلاد في بداية السنة، قررت الحكومة فتح مجال الشغل لآلاف الشباب في محاولات متعددة لمحاربة البطالة، لكن المجهود يبقى غير كاف بسبب تدفق الشباب بأعداد تفوق قدرة استيعاب الاقتصاد الجزائري.
ويشكل الشباب العنصر الأساسي في المظاهرات وأعمال العنف التي تسجل يوميا في الجزائر، ورغم ذلك فإن الحكومة لم تجد المفاتيح التي تسمح لها بامتصاص البطالة التي تمس هذه الفئة بالدرجة الأولى.
3. عجز المؤسسات الاقتصادية الرسمية
على هامش الفشل الاقتصادي، فإن انتشار الفساد وانهيار القيم أصبح يشكل الميزة الأولى للاقتصاد الجزائري.
أعلن الوزير بن ميرادي هذا الأسبوع أن الجزائر ستخصص 16 مليار دولار للمؤسسات الاقتصادية العمومية، وهي المبالغ التي تضاف إلى كل ما تم إنفاقه على تلك الشركات دون أن يؤثر ذلك على نتائجها. وبعد عشرية تميزت بغلق وبيع المؤسسات العمومية، مما أدى إلى تراجع في الإنتاج الاقتصادي بصفة منتظمة، عادت الحكومة من جديد إلى تمويل الشركات العمومية دون ضمان نجاعتها، في عملية تهدف إلى الحفاظ على مناصب الشغل قبل النجاعة الاقتصادية.
وقد تراجع إنتاج الشركات العمومية بـ2.7 بالمائة خلال الثلاثي الأول لسنة 2009 وبنسبة 2.6 بالمائة خلال السداسي الأول لنفس السنة، وبنسبة 1.9 بالمائة بالنسبة لكامل السنة الماضية، مما يشير إلى تراجع متواصل رغم أن استهلاك السوق الجزائرية ارتفع بصفة معاكسة.
4. انتشار الفساد وانهيار القيم والحرقة
وعلى هامش الفشل الاقتصادي، فإن انتشار الفساد وانهيار القيم أصبح يشكل الميزة الأولى للاقتصاد الجزائري. وأصبحت قضايا الرشوة تطرح يوميا في الجرائد، مع العلم أن المسؤولين الكبار في مؤسسات الدولة هم أول متهم في قضايا الفساد.
ويزداد الطين بلة بسبب ظاهرة أخرى وهي عدم خضوع المسؤولين الكبار للعقوبات القانونية حين يثبت تورطهم في قضايا الفساد. وقد تم استدعاء عدد من الوزراء ومسؤول النقابة ورئيس البرلمان السابق محمد سعيداني في قضايا ضاعت فيها مبالغ لا تحصى دون أن يعاقب أحدهم لحد الساعة. ويتداول في الجزائر تورط أناس مقربين من رئيس الجمهورية نفسه في قضايا الرشوة، مما أدى مثلا إلى توجيه التهمة إلى المدير العام السابق لشركة سوناطراك التي تمثل ثلثي الناتج الخام للجزائر.
ويثير هذا الوضع غضب الشارع، خاصة لما يقارنه بالسلوك والتضحيات التي قدمها الجزائريون في ماض قريب لمحاربة الاستعمار، أو يقارنه بالسلوك الذي كان سائدا أيام الرئيس هواري بومدين، مع العلم أن الرئيس بوتفليقة كان وزير خارجية بومدين وأحد المقربين منه.
لماذا لا ينفجر الوضع في الجزائر؟
كل هذه المؤشرات تؤكد أن الوضع في الجزائر يقترب من الانفجار، بل أن المحلل يتساءل: كيف يمكن أن تبقى هذه السلطة قائمة رغم كل هذه الدوافع التي من المفروض أن تؤدي إلى ثورات متتالية؟ هل تعيش الجزائر وضعا استثنائيا يفسر صلابة النظام أمام احتجاج الشارع؟ كيف استطاعت السلطة أن تواجه هذا الوضع رغم الاحتجاجات التي خلفت قتلى بداية السنة، مع تسجيل أكثر من 120 عملية احتجاجية في شهر مارس/آذار 2011 بين إضرابات وتجمعات وقطع طرق، إضافة إلى "الإرهاب" الذي مازال متواصلا ولو بحدة أقل؟
أهم العوامل التي جنبت البلاد ثورة جديدة يمكن تلخيصها فيما يلي:
. انضباط ال1سلطة وتضامن مكوناتها
رغم تشتت أوساط السلطة وتذبذب مصادر القرار في الجزائر، فإن كل الدوائر التي تشكل السلطة الفعلية تبقى متضامنة أمام أي تهديد من خارج السلطة. وتتنافس هذه الدوائر فيما بينها لكنها تتحد من جديد لما تحس بالخطر. وتعرف تلك المجموعات أن التعايش بينها صعب ومعقد لكنه يجب عليها أن تلتف وتتضامن، وهو ما حدث سواء في مواجهة الإسلاميين أو "الإرهاب" أو عند تنحية الرئيس السابق اليمين زروال وتولية السيد عبد العزيز بوتفليقة.
2. انضباط الجيش وقوات الأمن
وإلى جانب انضباط هذه المجموعات، فإن انضباط المنظومة العسكرية والأمنية يشكل العامل الأساسي الذي يضمن بقاء السلطة لحد الساعة. ورغم حدة الأزمة ورغم الصراعات الكبرى التي عاشتها البلاد، فلم يظهر أي انشقاق لا في الجيش ولا في مصالح الأمن. وقد ارتكبت الجبهة الإسلامية للإنقاذ خطأ أساسيا في هذا الميدان لما وجهت نداء للجنود بعدم الطاعة في بداية التسعينات، مما يؤكد عدم معرفة التيار الإسلامي لطبعية الجيش وطريقة تصرف الضباط.
وهذا لا يعني أنه لا توجد خلافات في صفوف الجيش، لكن تجربة التسعينات، التي كانت الأصعب في تاريخ الجزائر المستقلة، أكدت أن الضباط الذين لا يوافقون على الخيارات السياسية يكتفون بالقيام بواجبهم دون أي عصيان، مما يؤكد نمو الاحترافية عندهم. وقد جرت العادة أن الضباط المنشقين لا يعبرون عن مواقفهم الشخصية إلا عند مغادرة الجيش لأنهم يعلمون هم كذلك أن جيشا منضبطا وموحدا أفضل من أية مغامرة. ويمكن أن نستعمل نفس الملاحظات بالنسبة لباقي قوات الأمن.
3. نجاح السلطة في تشتيت المعارضة
يزداد الطين بلة بسبب ظاهرة أخرى وهي عدم خضوع المسؤولين الكبار للعقوبات القانونية حين يثبت تورطهم في قضايا الفساد.
يبحث المجتمع الغاضب عن تنظيمات سياسية وشخصيات قادرة على التكفل بمطالبه، وقيادته خلال عملية الاحتجاج. لكن الساحة السياسية الجزائرية تفتقر بصفة واضحة لتنظيمات أو شخصيات ذات مصداقية، لأن السلطة استطاعت أن تقضي على كل من يمكن أن يشكل يوما ما بديلا للنظام القائم، سواء كان حزبا أو شخصية. ولم تنج من هذه العمليات الشخصيات التاريخية التي خاضت حرب التحرير وحافظت على نزاهتها، ولا الشخصيات التي ظهرت مع التجربة الديمقراطية.
وموازاة لذلك، عملت السلطة على بروز عدد كبير من رجال السياسة الذين لا مصداقية لهم، فصنعت لهم أحزابا أو منظمات وأطلقتهم في الساحة السياسية ليمضوا وقتهم في انتقاد المعارضة، مما يرهق الشخصيات البارزة. وقد أدى ذلك إلى نفور المواطنين من عن العمل السياسي.
وشملت العملية كل التيارات الوطنية والإسلامية والعلمانية والديمقراطية. ولم يستطع أي حزب أو شخصية أن يخاطب المتظاهرين بداية السنة لما اندلعت مظاهرات في أغلب مدن البلاد، وحاول علي بلحاج الرقم الثاني في الجبهة الإسلامية للإنقاذ أن يتكلم مع متظاهرين في باب الوادي بالجزائر العاصمة فطرده المتظاهرون مع العلم أنه كان يشكل في الماضي رمزا بالنسبة لشباب العاصمة.
4. الوحدة المستحيلة للمعارضة
عجزت المعارضة الجزائرية في تحقيق وحدة ولو مرحلية لأسباب موضوعية تتجاوز طموحات الشخصيات البارزة. ويشكل تشتت المعارضة عاملا أساسيا في ركود المجتمع الجزائري وفشل عمليات الاحتجاج التي عرفتها البلاد لحد الساعة.
ويعود فشل المعارضة في الوحدة إلى ثلاثة عوامل أساسية، يتمثل الأول في عمل السلطة من أجل تقسيم المعارضة كما أشرنا سابقا، ويتمثل الثاني في الخلافات السياسية والإيديولوجية بين تيارات المعارضة من ديمقراطيين وإسلاميين ووطنيين، وهي التيارات الكبرى التي تتعايش مع تيارات أخرى مثل اليسار الراديكالي والقومي والبعثي والناصري وغيرها.
أما العامل الثالث فإنه يتمثل في استعمال النظام "الرشوة" السياسية، حيث أن أحزابا يقال أنها معارضة تعمل في حقيقة الأمر لصالح السلطة، فتسعى بصفة دائمة إلى تلغيم كل المحاولات التي تتم من أجل التقارب بين تيارات المعارضة.
5. الاستقلالية النسبية للقرار السياسي في الداخل
وعكس بلدان الخليج وإفريقيا، تتميز الجزائر باستقلالية عريضة في اتخاذ القرار الوطني، حيث أن الضغوط الأمريكية والفرنسية تبقى دون جدوى إذا رفضت السلطة أن تستجيب لها. وإضافة إلى ميراث الماضي، فإن هذه الاستقلالية النسبية في القرار تضاعفت مع تحسن الوضع المالي للبلاد وتدفق الأموال التي دخلت خزينة البلاد مع ارتفاع أسعار النفط. وقد استطاعت الجزائر أن تسدد كل ديونها الخارجية وتمكنت من الحفاظ على مخزون من العملة الصعبة تجاوز 150 مليار دولار السنة الماضية، مما يغطي أربع سنوات من الاستيراد.
6. استعمال "الرشوة" الجماعية كوسيلة لتسيير المجتمع
وتبقى فكرة الثورة في الجزائر مستبعدة كذلك بسبب استعمال "الرشوة" كوسيلة أساسية في تسيير المجتمع، و"الرشوة" لا تتوجه هنا إلى الأشخاص فقط بل تشمل الأحزاب والمنظمات والفئات الاجتماعية مثل البطالين. وقد صادقت الحكومة مثلا على رفع أجور أساتذة الجامعات والشرطة بنسبة تفوق مائة بالمائة في بعض الأحيان. واستطاعت بذلك أن تشتري النخبة الفكرية المتمثلة في الأساتذة واستعملتهم كما استعملت الشرطة في مواجهة الطلبة الذين يحتجون.
أما الشباب البطال فقد منحتهم الحكومة امتيازات استشنائية، حيث منحتهم قروضا دون فائدة، لا يبدأون تسديدها إلى بعد ثلاث سنوات، وتبلغ هذه القروض عشرة مليون دينار (120 ألف دولار).
أصبحت فئة البطالين، التي تشارك تقليديا بقوة في عمليات الاحتجاج، تخشى أية عملية اضطراب يمكن أن تؤدي إلى التراجع عن هذه القرارات. وبات اليوم جزء من الشباب لا يريد تغيير النظام لكنه يريد أن يبقى النظام كما هو ليشارك في اقتسام الغنيمة.
7. تدفق الأموال والسباق لاقتسام الغنيمة
يبحث المجتمع الغاضب عن تنظيمات سياسية وشخصيات قادرة على التكفل بمطالبه، وقيادته خلال عملية الاحتجاج.
مع تدفق الأموال وتصرف الحكومة التي قررت توزيعها بمختلف الطرق لامتصاص الغضب، أصبح السعي إلى المشاركة في اقتسام الغنيمة يشكل النزعة الأولى في المجتمع قبل الاحتجاج أو طلب التغيير. وقد أعلنت الحكومة عن تسهيلات خيالية لكل من يريد مساعدات أو قروضا، وإلى جانب التسهيلات التي ذكرنا لصالح البطالين، جاءت أوامر لتشغيل عشرات الآلاف من الشباب، فقررت الحكومة لذلك الاستعانة برجال الأعمال بإعطائهم كل التسهيلات التي أرادوا، إلى درجة أن خبيرا اقتصاديا قال أن نقابة أرباب العمل هي التي قامت بتحضير القرار.
وللأجانب، كان الخطاب صريحا حيث قالت الحكومة أن الجزائر ستستثمر 285 مليار دولار في المخطط الخماسي الجديد، مما يعني أن هناك غنيمة ضخمة يمكن اقتسامها، مما يؤدي بالمتعاملين الأجانب إلى التفكير جيدا قبل المطالبة بأي تغيير لأن الوضع الحالي يضمن تدفق السلع بكميات هائلة. عكس ذلك، فإن أي اضطراب يهدد هذه المعطيات يمكن أن يؤدي إلى تراجع في واردات الجزائر مما يضر بمصالح الشركات الأجنبية العاملة في البلاد.
8. تجربة أكتوبر 1988 وسنوات "الإرهاب"
لقد كانت الجزائر أول بلد عربي يواجه موجة غضب شعبي كبرى في أكتوبر 1988. وأدت تلك المظاهرات إلى محاولة أولى لانفتاح النظام وبناء نظام ديمقراطي، لكن التجربة فشلت بسبب التقاء جزء من السلطة مع التيار الإسلامي على هدف مشترك، واستطاع الطرفان أن يفرضوا على البلاد مواجهة أدت إلى وضع حد للتجربة الديمقراطية.
واستطاعت قوات الأمن والجيش والتنظيمات المسلحة الشعبية من مواجهة المجموعات الإسلامية بمختلف مكوناتها، فاحتوت موجة العنف في مرحلة أولى، ثم قامت السلطة بمبادرات وضعت المجموعات الإسلامية في مأزق، وفرضت عليها في نهاية الأمر حلا لا يهدد السلطة القائمة، بل يكرس سيطرتها على البلاد.
هذه التجربة المكتسبة في مواجهة المعارضة، مسلحة أم غير مسلحة، تعطي للسلطة الجزائرية قوة خاصة في مواجهة أي وضع طارئ، كما تعطيها التجربة الكافية لمعرفة هل أن الوضع ملائم لتقديم بعض التنازلات الشكلية أم أنه يسمح باتخاذ موقف صلب. وبلغت قوات الأمنية درجة من المهنية التي تسمح لها مواجهة أوضاع صعبة دون خطر.
وبالمقابل، فإن تجربة التسعينات التي أدت إلى حرب أهلية خلفت 200 ألف قتيل تجعل الكثير من الجزائريين يتردد قبل الانضمام إلى أية مغامرة تقوم بها المعارضة. وإذا كان الشباب يحلم بالتغيير الجذري، فإن الجيل لذي عاش التسعينات وسنوات "الإرهاب" يتردد أكثر حين يتعلق الأمر بدخول مرحلة جديدة يخشى أن تعيد التجربة الدموية للإرهاب.
خلاصة
الدوافع التي من المفروض أن تؤدي إلى انفجار الوضع بالجزائر ونشوب ثورة على الطريقة العربية متوفرة، سواء من الجانب السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي.
الدوافع التي من المفروض أن تؤدي إلى انفجار الوضع بالجزائر ونشوب ثورة على الطريقة العربية متوفرة، سواء من الجانب السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي. لكن رغم أن عمليات الاحتجاج والإضرابات تتواصل بشكل ملحوظ بل وتتضاعف منذ أسابيع، فإن شبح الانفجار والثورة يبقى مستبعدا لأن الغضب لم يجد من يحوله إلى عمل سياسي. واستطاعت السلطة أن تستعمل طرقا عديدة لامتصاص غضب الشارع، سواء بتقديم التنازلات أو "رشوة" المتعاملين السياسيين والاقتصاديين وحتى الشارع، أو بدفع الشباب إلى التعبير عن غضبه بطرق يمكن التحكم فيها مثل العنف في ملاعب كرة القدم وضد المؤسسات التي تتحكم فيها أحزاب المعارضة مثل البلديات وغيرها.
ويبقى نشوب أية ثورة مرتبط بطارئ جديد أو تغيير في هرم السلطة، حيث غالبا ما يتحرك الشارع الجزائري لما تحدث خلافات في دوائر السلطة. ويمكن أن يؤدي تنظيم خلافة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة إلى نزاعات جديدة في السلطة من الممكن أن تجد تجاوبا في الشارع إذا لجأت أطراف في السلطة إلى تحريك الشارع من أجل خدمة مصالحها.


تقييم:

0

0
مشاركة:


التعليق على الموضوع


لم يسجل بعد أي تعليق على هذه المشاركة !...

...........................................

=== إضافة تعليق جديد ===
الإسم:

نص التعليق:

انقل محتوى صويرة التحقق في الخانة أسفله:
الصورة غير ظاهرة