فضاءات جوبة برغال

جوبة برغال

فضاء الإبداعات الأدبية والفنية

العضو الأكثر فعالية على مستوى الـبلدة
سامي محمود طه
مسجــل منــــذ: 2011-05-30
مجموع النقط: 2
إعلانات


قصة مريم شذى سامي طه


مريم
قصة قصيرة :شذى سامي طه
كنت يا بني شجرة حانية, تضمني و تقبل رأسي و تقول " أنا معك يا أمي , أبي مات و لكن كل الناس سيموتون و الموت في مثل حالة والدي رحمه الله - راحة " كنت معي تنسيني آلامي , الآن و ها أنت قد استشهدت من سينسيني يا حبيبي ؟ لم يعد لي في هذه الدنيا سوى طيفيكما . كيف سأواجه هذه الدنيا القاسية وحدي؟ لا صوت في بيتي الكبير سوى رجع صوتي . لا أحد يشاركني حياتي . لا أحد ينسيني همومي .
توجهت مريم العجوز الأرملة الثكلى نحو نافذة بيتها و نظرت إلى الخارج و دمعها لا يضيع طريقه التي حفرها بقوة فوق خديها , كان الظلام الدامس في الخارج قد عم الأرجاء و حبات المطر كاللآلئ الصغيرة تتهاطل . أحست مريم بأن الدنيا تبكي فراق ابنها, مسحت دموعها بكمها و جلست على الأريكة المقابلة للمدفأة و أشعلت ذلك الراديو الذي يفوقها عمراً , حضنت نفسها و نظرت إلى نيران المدفأة و بعد قليل كان انعكاس نيران في عينيها كشرارة ثورة انتقام ممن قتل ابنها و زوجها , و شيئاً فشيئاً أخذت ثورتها تخبو و يحل مكانها النعاس إلى أن غلبها فنامت على الأريكة , في الصباح فتحت عينيها السوداوين المحمرتين من البكاء فرأت رماد النيران التي كانت مشتعلة في المساء , ابتسمت وقامت , لفت نفسها ببطانية بيضاء و عادت للنظر من النافذة فرأت الناس بين رائح و غاد , قالت في نفسها : بعد أيام يحل عيد رأس السنة و الناس سيحتفلون, كلهم سيحتفلون إلا أنا , كنا نحيي سهرة رأس السنة ثلاثة و الفرح رابعنا ، و أصبحنا اثنين و شيء من الفرح معنا ، أما اليوم .. بلى سأحتفل بمفردي . لكن لن يكون على المنضدة سوى ملعقة و شوكة و سكين و كأس و صحن , ثم التفتت و ابتسمت مجدداً و رفعت حاجبيها كمن تذكر شيئاً , لماذا ؟ بل سنكون ثلاثة . فجأة أخذت تقهقه سيكون على المائدة ما كانا يشتهيان , إذاً فلأذهب لأحضر نفسي للعيد . توجهت إلى غرفتها و بعد دقائق كانت ترتدي ثياباً أنيقة جميلة و خرجت قاصدة بائع الملابس ، اختارت لنفسها فستاناً أحمر جميلاً فيه شريطة سوداء في وسطه و اتجهت إلى الطاولة للمحاسبة كما ظن البائع لكنها فاجأته حين سألته عن مكان الثياب الرجالية لديه، وهو الذي يعرف أنها أصبحت وحيدة بعدما توفي زوجها و ابنها ,و قبل أن يدلها سأل : لكن لمن؟ ابتسمت و قالت : و لمن تعتقد ؟ إنها لزوجي و ابني . مضت و اختارت أجمل الثياب ، حاسبته و خرجت و بقي هو في حالة ذهول و مع مساء اليوم كان خبر شراء مريم ملابس جديدة لولدها و زوجها يشيع في الحي. و طبعاً لم تنس مريم إحضار الأحذية التي تناسب ذوقها و أناقة الملابس التي اختارتها فشارك صاحب محل بيع الأحذية في بث التفاصيل المثيرة عن فعلة مريم التي أصبح خبر جنونها شغل سكان الحي.
رتبت مريم ما جلبته من أغراض و ملابس و أحذية في مكانها، ثم بدلت ملابسها , نقلت كرسياً إلى أمام النافذة بعد أن أشعلت المدفأة و غطت نفسها بالبطانية و بدأت تراقب الناس و تتأملهم , لقد وصل إلى سمعها أثناء عبورهم أمام منزلها ما قد ألفته ألسنتهم من خبر طازج ، و لفت انتباهها أن كل من يمر من أمام منزلها يهز رأسه بلهفة و حزن .
هي أدركت أن الناس يقولون عنها مجنونة و لكنها تعلم أيضاً أنها ليست كذلك و ما الضير إذا شاءت أن يشاركها زوجها و ابنها فرحة العيد ، أو حتى إذا اشترت لهما ملابس جديدة ؟ أخذت تهزأ ممن يحزن عليها , و كلما مر شخص و نظر إلى بيتها و هز رأسه زاد ضحكها , و بعد قليل فتحت النافذة و بدأت تقهقه و تخاطب المارة : هل أحزنكم جنوني ؟ أقسم أنكم أنتم المجانين . إني أشفق عليكم فعلاً , و أكملت ضحكتها و ظلت واقفة أمام تلك النافذة المفتوحة تضحك و الهواء يداعب شعرها الذي صبغه بياض الشيب . و بعد لحظات أحست بالخوف ، إنها بفعلتها هذه أثبتت للناس صحة ما يقولون عنها . في اليوم التالي كبرت حكاية جنون مريم و بعض الناس قالوا إن روحي زوجها و ابنها تسكنان معها و آخرون قالوا : في الليل سمعوا أصواتاً غريبة مصدرها بيت مريم لا بد أنها أصوات الأرواح , أما هي و مع مرور أيام على يقين الناس فقد لازمت بيتها لا تغادره إلا عند رغبتها بشراء شيء تأكله ، و لكي تتجنب الخروج المتكرر من المنزل فكانت تشتري كمية كبيرة من الطعام و قال الناس من جديد : إنها تأخذ هذا الطعام الكثير لها و للأرواح , إنها خادمة الأرواح .
و في ذلك الحي أصبح اسم مريم " خادمة الأرواح " , أما هي فكانت تعلم ما يقال و لكنها لا ترد إلا بالضحك و السخرية و كأنها تريد إثبات ذلك ، بل و رددت أكثر من مرة : ليتني خادمة روحيكما أيها الحبيبان.
بدأ أطفال الحي يهربون كلما رأوها تمشي في الشارع .
و مضت أيام ، و شغل سكان الحي الشاغل و همهم الوحيد معرفة أخبارها و يومياتها من جيرانها , و كانت الكذبات تكبر و تكبر يوماً بعد يوم وتزداد. أصبحت الحديث الوحيد الذي تتناقله الجارات, و قصتها احتلت محل شغف في نفوس أناس كثيرين . مريم , خادمة الأرواح كما يقولون بقيت تعاني وحدتها و ألمها و صمتها و تعايش ذكرى ابنها و زوجها, و طالت جلساتها أمام النافذة حتى أنها كادت لا تفارقها فكانت تحس أن لهذه النافذة فضلاً عليها لأنها الوحيدة التي تجالسها , ازداد صمتها ، ازداد حزنها ، و ازداد شوقها لابنها و زوجها . قررت أن تواسي نفسها بكلمات كان ابنها يرددها و لكن شراسة الناس و خوفهم منها ازدادا أيضاً .
أصبحت تخاف أن تموت هذه النافذة لأنها أيقنت أن كل من تحبه إما سيكرهها كسائر الناس و إما سيموت كزوجها و ابنها ، أصبحت لا تطيق المشي في الشارع فخبأها انعزالها الذي ضاعف خوف الناس منها ، الناس المتعطشون لأخبارها عمد بعضهم إلى التأليف إلى أن أصبحت حكاية جنون مريم ككرة ثلج تتدحرج .
و مع تنامي كرة الثلج قرر وجهاء الحي الاجتماع و التفكير في سبيل للتخلص من خطر داهم يهدد الحي ألا و هو خادمة الأرواح مريم العجوز. قرروا نفيها ، و عندما دخل رجال أربعة إلى بيتها و أبلغوها أن عليها الرحيل بسبب ما تسببه من إزعاج و خوف للناس نظرت إليهم و لم ترد في البداية. أدركت أن الشيء الوحيد الذي كان يسليها و يؤنسها سيبعدونها عنه ، و عندها صرخت بصوت مدو ٍ تطردهم و تبكي فأخذوا يركضون خائفين. كان أهل الحي أمام الباب ينتظرون و ليستر الرجال خوفهم و ذعرهم راحوا ينسجون أخباراً: إنا رأيناهم , رأينا الأطياف هائمين و قد طردونا معها من البيت. و عندما سئلوا إذا ما كانت سترحل عن الحي أجابوا بالنفي و أضافوا أن مريم قد ترسل الأطياف إلى كل بيت . أصيب أهل الحي بالهلع فاجتمعوا من جديد و اتفقوا، و في المساء و حين كانت مريم جالسة على كرسيها أمام النافذة رأت بعض أهل الحي يحملون بأيديهم مشاعل نيران و هم يتقدمون فعلمت أن الموت قادم معهم و مع ذلك فقد لمح أهل الحي صورتها وراء النافذة تبتسم و هذا لم يكن خبراً كاذباً فمريم لم تكن مكترثة بالموت . ظلت جالسة خلف النافذة على كرسيها و هي تبتسم , تقدم المختار و قال : ألن ترحلي أنت و أطيافك؟ لكن مريم لم تجب بل ظلت تضحك و عندما كرر عليها المختار بلهجة أشد قامت و تمسكت بقضبان النافذة و أخذت تضحك و تضحك , لكن أهل الحي لم يترددوا بعد ذلك فقاموا بنشر البنزين حول بيتها و أضرموا فيه النار ، النار التي بدت من خلالها مريم في أبهى حلل السعادة ما دفع بالمختار و بعض الرجال الآخرين إلى طأطأة رؤوسهم و المغادرة سريعاً .
أصبحت قصة مريم خادمة الأرواح قصة , قصصاً ، و روايات ، ككثير من القصص التي نسمعها و نصدقها في أيامنا هذه .

تقييم:

0

0
مشاركة:


التعليق على الموضوع


لم يسجل بعد أي تعليق على هذه المشاركة !...

...........................................

=== إضافة تعليق جديد ===
الإسم:

نص التعليق:

انقل محتوى صويرة التحقق في الخانة أسفله:
الصورة غير ظاهرة