طرفة بديعة
طرفة بديعة
روي عن أبى عبد الرحمن الهيثم بن عدي الطائي الكوفي الإخباري العلامة المؤرخ
( المتوفى سنة 207 هـ ) ، قال :
نزل رجل بامرأة من بني عامر ، فأكرمته وأحسنت قراه ،
فلما أراد الرحيل تمثل ببيت يهجوها فيه ، قال :
لعمرك ما تبلى سرابيل عامر * من اللؤم ما دامت عليها جلودها
فلما أنشده قالت لجاريتها قولي له ألم تحسن إليك وتفعل وتفعل ؟ هل رأيت تقصيرا ؟
قال : لا
قالت : فما حملك على البيت ؟
قال : جرى على لساني ،
فخرجت إليه جارية فصيحة بليغة ، فحدثته قليلا ، حتى أنس واطمأن ،
ثم قالت له : ممن أنت يا ابن عم ؟
قال : رجل من بني تميم ،
قالت : أتعرف الذي يقول :
تميم بطرق اللؤم أهدي من القطا * ولو سلكت سبل المكارم ضلت
أرى الليــل يجلوه النهار ولا أرى * خلال المخازي عن تميـم تجلت
ولو أن برغوثـا على ظهـر قملة * يكر على صـفي تميـــــم لولـت
ولو جمعت يوما تميم جموعهــا * على ذرة مربـــــوطة لاستقــلت
تميم كجحش السوء يرضع أمـه * ويتبعهـــا بالرغـم إن هي ولــت
ذبحنا فسمينــا على ما ذبحنـــــا * وما ذبحــت يوما تميــم فسمـت ؟
قال : لا ، والله ما أنا من تميم ،
قالت : ما أقبح الكذب بأهله ، فممن أنت؟
قال : رجل من بني ضبة ،
قالت : أفتعرف الذي يقول :
لقد زرقت عيناك يا ابن معكبر * كما كل ضبي من اللؤم أزرق ؟
قال : لا والله ، ما أنا من بني ضبة ،
قالت : فممن؟
قال : من بني عجل ،
قالت : أفتعرف القائل :
أرى الناس يعطون الجزيل وإنما * عطاء بني عجل ثلاث وأربع
إذا مــات عجــلي بأرض فإنمــــا * يخط له فيهـا ذراع وإصبــع ؟
قال : لا والله ، ما أنا من بني عجل ،
قالت : فممن؟
قال : من الأزد ،
قالت : أفتعرف القائل :
فما جزعــت أزديـــة من ختـانهــــــا * ولا أكلت لحم القنيص المعقب
ولا جاءها القناص بالصيد في الخبا * ولا شربت في جلد حوت معلب ؟
قال : لا والله ، ما أنا من الأزد ،
قالت : فممن؟
قال : من بني عبس ،
قالت : أفتعرف القائل :
إذا عبسيــة ولدت غلاما * فبشرها بلؤم مستفــاد ؟
قال : لا والله ، ما أنا من بني عبس ،
قالت : فممن؟
قال : من بني فزازة ،
قالت : أفتعرف القائل :
لا تأمنن فزاريـا خلوت به * على قلوصك واكتبها بأسيــار ؟
قال : لا والله ، ما أنا من بني فزارة ،
قالت : فممن؟
قال : من بجيلة ،
قالت : أفتعرف القائل :
سألنا عن بجيـلة حين جاءت * لتخبر أين قـر بها القرار
فما تدري بجيـلة إذ سألنــــا * أقحطـــان أبوهـــا أم نزار
فقد وقعــت بجيـلة بيـن بيـن * وقد خلعت كما خلع العذار ؟
قال : لا والله ، ما أنا من بجيلة ،
قالت : فممن؟
قال : من بني نمير ،
قالت : أفتعرف القائل :
فغض الطرف إنك من نمير * فلا كعبا بلغـــت ولا كلابا
ولو وضعت فقاح بني نمير * على خبث الحديد إذن لذابا ؟
قال : لا والله ، ما أنا من بني نمير ،
قالت : فممن؟
قال : من بني باهلة ،
قالت : أفتعرف القائل :
إذا نص الكرام إلى المعـالي * تنحى الباهلي عن الزحام
إذا ولـدت حليــــلة باهـــلي * غلاما زيد في عدد اللئــام
ولو كان الخليفـــــة باهليــا * لقصر عن مساماة الكرام
وعرض الباهلي وإن توقى * عليه مثل منديـل الطعــام ؟
قال : لا والله ، ما أنا من باهلة ،
قالت : فممن؟
قال : من ثقيف ،
قالت : أفتعرف القائل :
أضــل الناسبيـــن لنــا ثقيف * فما لهـم أب إلا الضــلال ؟
فإن نسبت أو انتسبت ثقيف * إلى أحد فذاك هو المحال
خنازير الحشـوش فقاتلوهم * فإن دمـــاءهم لكم حــلال ؟
قال : لا والله ، ما أنا من ثقيف ،
قالت : فممن؟
قال : من سليح ،
قالت : أفتعرف القائل :
فإن سليحا شتت الله شملها * ...............
قال : لا والله ، ما أنا من سليح ،
قالت : فممن؟
قال : من خزاعة ،
قالت : أفتعرف القائل :
إذا فخـرت خزاعـة في ندى * وجدنا فخرها شرب الخمور
وباعـت كعبة الرحمن جهلا * بزق بئس مفتخـر الفجـــور ؟
قال : لا والله ، ما أنا من خزاعة ،
قالت : فممن؟
قال : من بني يشكر ،
قالت : أفتعرف القائل :
ويشكر لا تستطيع الوفا * ولو رامت الغدر لم تغدر
قبيلة عيشتها في الكرى * لئــام المناخر والعنصـر ؟
قال : لا والله ، ما أنا من يشكر ،
قالت : فممن؟
قال : من بني أمية ،
قالت : أفتعرف القائل :
وهـي من أميـــة بنياتهــا * فهان على الناس فقدانها
وكانت أميـــة فيما مضـى * جريــا على الله سلطانهــا
فلا آل حرب أطاعوا الإله * ولم يتــق الله مروانهـــــا ؟
قال : لا والله ، ما أنا من بني أمية ،
قالت : فممن؟
قال : من عنزة ،
قالت : أفتعرف القائل :
ما كنت أخشى وإن كان الزمان لنا * زمان ســوء بأن تغتـابني عنزه
فلســت من وائــل إن كنت ذا حــذر * ممن يضل كما قد ضلت الحرزه ؟
قال : لا والله ، ما أنا من عنزة ،
قالت : فممن؟
قال : من كندة ،
قالت : أفتعرف القائل :
إذا ما افتخـر الكندي * ذو البهجة بالطره
فدع كندة للنســـــج * فأعلى فخرها غره ؟
قال : لا والله ، ما أنا كندة ،
قالت : فممن؟
قال : من بني أسد،
قالت : أفتعرف القائل :
إذا أسديــــة بلغت ذراعـا * فزوجها ولا تأمن زناها
وإن أسدية خضبت يديها * ولما تزن أشرك والداها ؟
قال : لا والله ، ما أنا من بني أسد ،
قالت : فممن؟
قال : من همدان ،
قالت : أفتعرف القائل :
إذا همـدان دارت يوم حرب * رحاها فوق هامات الرجال
رأيتهـــم يحثـــون المطايـــا * سراعا هاربيـــن من القتال ؟
قال : لا والله ، ما أنا من همدان ،
قالت : فممن؟
قال : من نهد ،
قالت : أفتعرف القائل :
نهد لئام إذا ما حل ضيفهــــم * سـود وجوههم كالزفت والقـار
والمستغيث بنهد عند كربتـه * كالمستجير من الرمضاء بالنار ؟
قال : لا والله ، ما أنا من نهد ،
قالت : فممن؟
قال : من قضاعة ،
قالت : أفتعرف القائل :
لا يفخرن قضاعي بأسرتـه * فليس من يمن محضا ولا مضر
مذبذبين فلا قحطان والدهم * ولا نزار فسيبهــم إلى سقـــــــر ؟
قال : لا والله ، ما أنا من قضاعة ،
قالت : فممن؟
قال : من بني شيبان ،
قالت : أفتعرف القائل :
شيبان رهط لهم عديـد * وكلهـم معـرق لئيــــــم
شربهم من فضول ماء * يفضل عن أسوة العميم ؟
قال : لا والله ، ما أنا من شيبان ،
قالت : فممن؟
قال : من تنوخ ،
قالت : أفتعرف القائل :
إذا تنـــوخ قطعــــت منهـلا * في طلب الغارات والثار
أتت من بحري مرار العلا * وشهرة في الأهل والجار ؟
قال : لا والله ، ما أنا من تنوخ ،
قالت : فممن؟
قال : من ذهل ،
قالت : أفتعرف القائل :
إن ذهلا لا يسعد الله ذهلا * شر جيل يظل تحت السماء ؟
قال : لا والله ، ما أنا من ذهل ،
قالت : فممن؟
قال : من مزينة ،
قالت : أفتعرف القائل :
وهل مزينة إلا من قبيلة * لا يرتجى كرم فيها ولا دين ؟
قال : لا والله ، ما أنا من مزينة ،
قالت : فممن؟
قال : من النخع ،
قالت : أفتعرف القائل :
إذا النخع اللئام عدوا جميعا * تدكدكت الجبـال من الزحــــام
وما يغنى إذا صدقت فتيــلا * ولا هي في الصميم من الكرام ؟
قال : لا والله ، ما أنا من النخع ،
قالت : فممن؟
قال : من طيّء ،
قالت : أفتعرف القائل :
وما طيء إلا نبيــط تجمعـت * فقالوا طيايا كلمة فاستمـرت
ولو أن عصفورا يمد جناحه * على دور طيّء كلها لاستظلت ؟
قال : لا والله ، ما أنا من طيّء ،
قالت : فممن؟
قال : من عكّ ،
قالت : أفتعرف القائل :
عكّ لئام كلهم أبك * ليس لهم من الملام فك ؟
قال : لا والله ، ما أنا من عكّ ،
قالت : فممن؟
قال : من لخم ،
قالت : أفتعرف القائل :
إذا ما اجتبى قوم لفضل قديمهم * تباعد فخر الجود عن لخم أجمعا ؟
قال : لا والله ، ما أنا من لخم ،
قالت : فممن؟
قال : من جذام ،
قالت : أفتعرف القائل :
إذا كأس المدام أدير يوما * لمكرمة تنحى عن جـــذام ؟
قال : لا والله ، ما أنا من جذام ،
قالت : فممن؟
قال : من كلب ،
قالت : أفتعرف القائل :
فلا تقربن كلبا ولا باب دارها * ولا يطمعن سار يرى ضوء نارها ؟
قال : لا والله ، ما أنا من كلب ،
قالت : فممن؟
قال : من بلقين ،
قالت : أفتعرف القائل :
إذا ما سألت اللؤم أين محله * تصب عند بلقين له طرفـان ؟
قال : لا والله ، ما أنا من بلقين ،
قالت : فممن؟
قال : من بني الحارث بن كعب ،
قالت : أفتعرف القائل :
حار بن كعب ألا أحــــلام تحجزكــــــم * عنا وأنتم من الجوف الجماخير
لا عيب في القوم من طول ومن عظم * جسم البغـال وأحلام العصافيـر ؟
قال : لا والله ، ما أنا من بني الحارث بن كعب ،
قالت : فممن؟
قال : من بني سليم ،
قالت : أفتعرف القائل :
إذا ما سليم جئتهــا في ملمة * رجعت كما قد جئت خزيان نادما ؟
قال : لا والله ، ما أنا من سليم ،
قالت : فممن؟
قال : من فارس ،
قالت : أفتعرف القائل :
ألا قل لمعتر وطالـــب حاجــة * يريد بنجح نفعهـا وقضاهــا
فلا تقرب الفرس اللئام فإنهم * يردون مولاهم بخبث دراها ؟
قال : لا والله ، ما أنا من فارس ،
قالت : فممن؟
قال : من الموالى ،
قالت : أفتعرف القائل :
ألا من أراد اللؤم والفحش والخنا * فعند الموالى الجيـد والكتفـان ؟
قال : لا والله ، ما أنا من الموالى ،
قالت : فممن؟
قال : رجل من ولد حام ،
قالت : أفتعرف القائل :
ولا تنكحــوا أولاد حـام فإنهم * مشاويـه خلق الله حاشـا ابن أكوع ؟
قال : لا والله ، ما أنا من حام ،
قالت : فممن؟
قال : رجل من الشيطان الرجيم ،
قالت : فعليك لعنة الله وعلى الشيطان الرجيم ،، أفتعرف الذي يقول :
ألا يا عباد الله هذا عدوكم * وذا ابن عدو الله إبليس خاسئا
قال : الله الله ، أقيليني العثرة ، فوالله ما ابتليت بمثلك قط .
قلت :
و إنها لطرفة بليغة ـــ مع ما يعتريها من طول وشبهة الوضع والصنعة والتكلف ـــ إذ تجلّت فيها بدائع الاستشهاد بديهة وارتجالا ، وهى تطوف بنا على كثير من قبائل العرب وبيوتاتهم ، وقد جمعت بين كثير من الألوان من ثراء معرفي بالأنساب وأسماء قبائل العرب ،، فضلا عن الهجاء
وكأننا بهذه الجارية العربية الشاعرة الفصيحة البليغة قد ضيقت الخناق على هذا الشقي ، شيئا فشيئا ، حتى ألجأته إلى أن يخرج من كريم آدميته ، وينتسب إلى الشيطان الرجيم .