من نثر شوقي
الكثيرون يعرفون أحمد شوقي شاعراً ولا يعرفونه ناثراً.
وهذه إحدى منثوراته في الرد على الملاحدة :
الحقيقة الواحدة - لأمير الشعراء أحمد شوقي
يا متابع الملاحدة ، مشايع العصبة الجاحدة ، منكر الحقيقة الواحدة : ما للأعمى والمرآة ، وما للمُقْعَد والمرقاة [1] ، وما لك والبحث عن الله ؟
قم إلى السماء تَقَصَّ النظر [2] ، وقُصَّ الأثر [3] ، واجمعِ الْخُبْر والْخَبَر [4] . كيف ترى ائتلاف الفلك ، واختلاف النور والحلك [5] ، وهذا الهواء المشترك ؛ وكيف ترى الطير تحسبُه تُرِكَ ، وهو في شَرَك [6] ، استهدف فما نجا حتى هلك [7] ؛ تعالى الله دَلَّ المُلْك على المَلِك !
وقِفْ بالأرض سلها : من زم السحاب وأجراها [8] ، ورحل الرياح وعرَّاها [9] ، ومن أقعد الجبال وأنهض ذُرَاها [10] ، ومن الذي يحلّ حُباها [11] ، فتخر له في غد جباها ؟ أليس الذي بدأها غَبَرَات [12] ، ثم جمعها صَخرات ، ثم فرَّقها مشمخرات [13] ؟
ثم سل النمل من أدقَّها خَلقًا [14] ، وملأها خُلقًا [15] ، وسلكها طرقًا [16] ، تبتغي رزقًا ؟
وسلِ النحل من ألبسها الحِبَر [17] ، وقلَّدها الإبر [18] ، وأطعمها صفوَ الزهر ، وسخَّرها طاهية للبشر [19] ؟
لقد نبذتَ الذلولَ المسعفةَ [20] ، وأخذت في معامي الفلسفة [21] ، على عشواء من الضلال مسعفة [22] . أَوْ لا فخبِّرْني : الطبيعة من طبَّعها [23] ، والنظم المتقادمة من وضعها ، والحياة الصانعة من صنعها ، والحركة الدافعة من الذي دفعها [24] ؟
عرفنا كما عرفت المادة ، ولكن هُدِينَا وضللتَ الجادة [25] ، وقلنا مثلك بالهيولى [26] ولكن لم نجحد اليد الطولى [27] ، ولا أنكرنا الحقيقة الأولى [28] .
أتينا العناصرَ مِن عُنْصُرها [29] ، ورددنا الجواهر إلى جوهرها [30] ، اطَّرَحْنا فاسترحنا [31] ، وسلَّمْنا فسَلِمْنَا ، وآمَنَّا فأَمِنَا ؛ وما الفرق بيننا وبينك إلا أنك قد عجزت فقلت : سر من الأسرار . وعجزنا نحن فقلنا : الله وراء كل ستار !
_________
(1) المُقْعَد : الذي يشكو القعاد ، وهو داء يُقعِد المصاب به عن المشي ، والمرقاة : السُّلَّم .
(2) أرسله إلى أقصاه .
(3) قص الأثر : اقتفاه .
(4) الخُبْر : الاختبار بالمشاهدة ، والخَبَر : الرواية بالسماع .
(5) الحلك : الظلام .
(6) تظنه حرًّا طليقًا ، وهو أينما حل في متناول قبضة الصياد .
(7) استهدف : أصبح غرض السهام والمراد أنه لا يكاد ينجو من سهم مصوب إليه حتى يدركه الموت من سهم آخر .
(8) زم الناقة : خطمها .
(9) رحل البعير : شد على ظهره الرحل تمهيدًا للمسير ، عراها : جردها مما فيها من أمطار .
(10) أقعد الجبال : ثبت قواعدها في الأرض ، وأنهض ذراها : أي رفع عاليها شامخة في السماء .
(11) يحل حُباها : أي يفكها من حبوتها ، ويُنْهضها من ربضتها .
(12) غبرات جمع غبرة ( بتسكين الباء ) ، وهي ذرة الغبار .
(13) فرقها في الأرض ، ومشمخرات أي باذخات .
(14) أدقها : صيَّرها دقيقة .
(15) خلق النمل : تلك النظم المتسقة التي يوحي لها بها الإلهام .
(16) سلكها طرقًا : جعل لها طرقًا تسلكها .
(17) الحبر : جمع حبرة كعنبة ، وهي برود يمنية ملونة ، وقد شبَّه بها المؤلف تلك الألوان الزاهية التي يتخايل بها النحل تحت أشعة الشمس .
(18) قلَّده السيف : وضع حمالته في عنقه .
(19) طاهية : طابخة ، تطبخ للناس في بطونها عسلاً .
(20) الذلول من الدواب : ما كانت سهلة القيادة ، والمراد بها هنا الشريعة السمحة ، والمسعفة : التي تسعف أبناءها باليقين والإيمان .
(21) المعامي : المجاهل .
(22) العشواء : العمياء ، وأعسف : خبط في السير .
(23) طبعها : خلقها ، وهنا يبدأ المؤلف في تعجيز الملحدين .
(24) النظم المتقادمة ، والحياة الصانعة ، والقوة الدافعة : كل هذه قوًى يظن الملحدون - كفرًا - أنها هي الأصل في الكائنات .
(25) الجادة : الطريق القويم .
(26) الهيولى : مادة ، وشبه الأوائل طينة العلم بها .
(27) اليد الطولى : يد الله التي أبدعت هذه الطينة ونفخت فيها الروح .
(28) الحقيقة الأولى : وجود الله .
(29) العناصر جمع عنصر وهو أولاً بمعنى المادة البسيطة ، وثانيًا بمعنى الأصل ، وأتيناها أي بحثنا فيها .
(30) الجواهر : جمع جوهر : وهو الحجر يستخرج منه شيء ينتفع به ، والجوهر ثانيًا بمعنى الأصل والجِبِلَّة .
(31) اطرح الحمل : ألقاه عن عاتقه والمقصود من هذه الجملة وما بعدها : آمنا بالله وتركنا ما دون هذا من التفكير العقيم الذي لا نهاية له ، والبحث الضالّ الذي لا يُؤمَن فيه العثار